مجلة الرسالة/العدد 259/بين الرافعي والعقاد
→ صحيفة أدب وأخلاق | مجلة الرسالة - العدد 259 بين الرافعي والعقاد [[مؤلف:|]] |
بين الرافعي والعقاد ← |
بتاريخ: 20 - 06 - 1938 |
العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 8 -
لم يعجب الأستاذ (إسماعيل مظهر) ما نكتبه تحت هذا العنوان. ونحن ناسف أن لم ننل إعجابه أو رضاءه؛ ولكن يعزينا عن هذا الفقدان أنه يعجبنا نحن ويرضينا - مع الأسف كذلك!
يقول الأستاذ:
(أما الذي لا أفهمه ولا أستطيع أن أفهمه يوماً من الأيام، فأن يتطوع ناقد لنصرة كاتب على آخر، أو شاعر على شاعر غيره، احتساباً لوجه الله الكريم، من غير أن يكون الناقد في نقده مخلصاً أول الشيء لمذهب بين في الأدب، يعتنقه الكاتب المنتصر له)
هكذا يقول الأستاذ، أما نحن فنقول:
(إن الذي لا نفهمه، ولا نستطيع أن نفهمه يوماً من الأيام فأن يكون رجل كالأستاذ إسماعيل مظهر، أو أقل منه درجات، يقرأ ما كتبناه، ثم لا يتبين منه أننا ننقد مذهباً معيناً في الأدب ونعتنق مذهباً بيَّناً منه كذلك، وأن الكاتب الذي ننتصر له، يمثل مذهباً بيَّناً يدعوا إليه منذ خمس وعشرين سنة، وما يزال يشرحه ويقرره، ويعود إليه في نثره وشعره كله، وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، واشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)
ويتحدث الأستاذ عن الشذوذ في نصرة كاتب على كاتب، فإن شاء أن يعرف الشذوذ حقاً، فنحن محدثوه عنه:
إنه يا سيدي في تقديم هذه السوأة الأدبية الخلقية الإنسانية المسماة (على السفود)، في تقديمها ذاته، وفي طريقة تقديمها، وفي نشرها، دون تأذ ولا تأثم، ولا خشية على آداب الحديث في الأمة، ولا آداب الطريق (ودعك من آداب النقد) ودون رحمة بأسماع الناس وأبصارهم وآنافهم! وإذا شاء الأستاذ أن يعرف نوع هذا الشذوذ، فليعلم أن هذه السوأة التي كشف عنها من قدَّمها للناس، لم يستطيع أشد تلاميذ الرافعي إخلاصاً له أن يبلعها، ولقد حاول أن ينحيها - في خفة - عن أعين النظارة، وهو يزن حسنات الرافعي، ويزعم وزن سيئاته، حتى لا تهبط هذه السوأة بالكفة إلى الحضيض لو هي لامست الميزان. وكان هذا عدالة منه من هذه (العدالات) الفريدة التي يتشح بعض الناس بوشاحها
فالأستاذ سعيد العريان يقول: (من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله غير ما كان ينزله من نفسه. . . الخ)
وإذا قال الأستاذ سعيد مثل هذا، وهو يدغم الكلام، ويدحرجه ليبعد بهذه السوأة عن الأنظار، فالذين لم يصابوا بعد بداء العدالة التاريخية يستطيعون أن يعرفوا مقدار شنعتها
ولولا أنني أكرم أسماع القراء وآدابهم وإنسانيتهم من التدهور أو التأذي والتأفف، لنقلت لهم شيئاً من (على السفود) الذي لا يعتبر تقديمه ونشره وترويجه شذوذا، ولا مناصرة لأديب على أديب، ولا تدخلاً في الشخصيات، وإنما يعتبر نصرة لمذهب بيّن على مذهب بيّن في الآداب والآراء!
أما قصة الموت والموتى، فقد أسلفت الحديث عنها في الكلمة الفائتة، وبهذه المناسبة أقول للزميل الودود الأستاذ سعيد: إن زميله سيد قطب ليس هو الذي يمزق الأكفان بالأظفار، والذي يمزق بظفره، مخلوق آخر، أكرم آدابي وآداب الناس أن أقول: إن الأستاذ أو أحد زملائه من فصيلته! خشية أن نتدهور خطوة أو خطوتين بعدها فيصبح من النقاش (الأدبي) المعترف به، أن يقول الواحد للآخر: (يا ابن الـ. . .) ويكون هذا من أساليب النقاد!
بقي الرجل (الذي له عمل يملأ يومه ونهج يدبر حياته). وقد أكرمته وأكرمت (دمشق عن مناقشة قوله فأبى، وما زلت على رأيي الأول.
ولكني أرى من حق سوريا الشقيقة عليّ، وأنا ممن يحفلون بالدعوة إلى الرابطة الشرقية، أن أنفي عن (دمشق) وأهلها، ما قد يتبادر إلى نفوس المصريين من تقدير لها ولأهلها على أساس كلمات الأستاذ.
فليس كل من في (دمشق) يجهل الأدب والأدباء في مصر، ولا يطلع على كل الصحف الراقية هنا، حتى يكون ممن لم يروا (سيد قطب) إلا للوهلة الأولى. ولعل للأستاذ عذرا من (عمله الذي يمل يومه ونهجه الذي يدير حياته)
وليس كل من في (دمشق) يقرأ لكاتب معين (فيقبل كل ما جاد به) هكذا بدون تروً ولا تفكير ولا رأى خاص. ولا يقرأ لكاتب معين، فإذا ما قرأه (لم يعلم لآرائه من القيمة والخطر ما يدفعه إلى مناقشتها) مع أنها بين يديه، وتحت سمعة وبصره
وأنا أعرف من معارفي وأصدقائي السوريين، من لهم فكرة ورأي ومن لهم شخصية مستقلة، فليطمئن المصريون على عقيدتهم في جيرتهم!
وليس أدل من صواب رأي بادئ ذي بدء في ترك مناقشة هذا الأستاذ من ظنه أنه متى جاء لي ببيت لشوقي على مثال تشبيه الرافعي الذي انتقدته، فقد انتهى القول، وبطل الجدال!
لا. يا أخانا. يقول ألف رافعي، وألف شوقي، وبقي بعد ذلك مجال للنقد والتعليق والكلام. . .!
وقد فهمت من كلامه أن (عمله) الذي يملأ يومه، ونهجه الذي يدير حياته، والذي يمنعه - وهو معذور - من متابعة خطوات الأدب والأدباء في مصر، وربما في دمشق، هو التدريس بالمدارس
فأنا - في إخلاص - أقول لحضرته إنه يؤدي مهمة جليلة يجدر به الاقتصار عليها، فليس من الضروري أن يكون كل إنسان أدبياً وناقداً، والمدرس عاطلاً ولا فارغاً ولا صاحب مهمة نافلة يتركها لسواها
فأما إذا لم يسمع هذه النصيحة، وأصر على الاشتغال بالأدب فله ذاك ما دام القانون لا ينص على شروط معينة فيمن يشتغلون بالآداب. . .!
وبعد فقد هممت أن أعاهد القراء على ألا أشغلهم بالالتفات إلى هذا الناس، بعد ما أصبحت يائساً أشد من فهمهم لما أقول، أو استعدادهم لمتابعة المدرسة العقادية في خطواتها. لولا أنني أعتقد أن للرسالة قراء آخرين غير الرافعيين، فلهؤلاء القراء أكتب؛ ولولا أنني أضطر تأدباً أن أرد على يوجه إليَّ الخطاب مهما كان شأن ما يقول
ولكن هذه في الحق خطة متعبة، وتأدب يكلف جهداً ومشقة؛ وأغلب الظن أنني سأعدل عنه، وسأسرع في استعراض البرنامج الذي وضعته للبحث منذ المقال الأول، وقصدي منه إبراز صورتين متقابلتين للمدرسة العقادية والمدرسة الرافعية، في فهم الأدب وفهم الحياة
ولولا أنني اعتدت أن أضع الخطة وأنفذها، دون اعتداد بما يجد في الطريق، لآثرت الوقوف عند هذا الحد، فقد فهم من لديه استعداد للفهم، وبقي ناس لا حيلة في تبديل طبائعهم وخلق نفوسهم وأذواقهم من جديد
والآن إلى تتمة الحديث:
يعني العقاد - إمام المدرسة الحديثة - بالحياة النابضة في ضمائر الأشياء قبل الحياة الظاهرة على سطوحها، ويعني بالحياتين معاً قبل العناية بأشكالها وصورها، ويلتفت للخوالج النفسية قبل أن يلتفت إلى الصور الذهبية، ويعني بهاتين قبل العناية ببهارج الأسلوب وزخارف الطلاوة
ولا يعني هذا أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد بعيدان عن شعر العقاد. ولهذا مبحث خاص، سأفرد له كلمة، ربما كانت الأخيرة
يؤم المسجد يوم الجمعة للصلاة حشد حاشد، كلهم مصل، وكلهم خارج من المسجد بعد الصلاة، ويمر هذا المنظر على الشعراء والأدباء في مصر وغير مصر، ويتكرر الأسبوع تلو الأسبوع. ولكن العقاد وحده هو الذي يلتفت التفات الفنان المثقف ثقافة نفسية واجتماعية، إلى ما يجول في خواطر هؤلاء المصلين، وما تهتف به نوازعهم فتكتمه عقولهم الواعية، وما يسرب في ضمائر أو يغشاها. ذلك أنه يروي فيتخيل، ويلاحظ فينفذ، ويحس فيحلل؛ ثم هو بعد هذا وذاك يمثل ويجسم خفايا النفوس الإنسانية، ويعرض نماذجها المختلفة في معرضه الفني الحافل بصورة النفوس
بعد صلاة الجمعة
على الوجوه سيمة القلوب ... فانظر إلى المسجد من قريب
وقف لديه وقفة اللبيب ... في ظهر يوم الجمعة المحبوب
إنك في حشد هنا عجيب
هذا الذي يمشي. ألا تراه ... كأنما قد حملت يداه
سفتجة صاحبها الإله؟ ... ذاك هو الدين. وقد وفاه
فليس للدائن بالمطلوب! وذلك المبتسم الرصين ... كأنه بسره ضنين
أصغَى إليه سامع أمين ... فهو إذا صلى كمن يكون
في خلوة النجوى مع الحبيب!
وانظر إلى صاحبنا المختال ... في حلة ضافية الأذيال
أكان في حضرة ذي الجلال ... أم كان في عرض أو احتفال
يزهى على المحروم والسليب!
وكم مصل خافت الدعاء ... كأنما نصّ إلى السماء
رسالةً في عالم الخفاء ... فلا يني يبدو لعين الرائي
كالمترجي أوبة المكتوب!
ورب شيخ من ذوي الخلاق ... فرحان بالجمع وبالتلاقي
كأنه التلميذ في انطلاق ... بين تلاميذ له رفاق
عادوا إليه عودة الغريب
هذه هي الصورة الباطنة لتلك السحن الظاهرة، وليس فيها مالا نعرفه الآن، في مشاهد الصلاة، بعد أن أشار إليها العقاد. وهذه ميزة الشاعر ذي (النفس) الذي يلمح ما في النفوس، فيطلعنا على ما كان بين أيدينا غائباً عنا من صور الحياة وأنماطها، لأنه يجلوه في مرآة نفسه الخاصة
ثم يمضي بعد هذا الاستعراض، يطرق الفلسفة العامة، في دعابة وفسحة في النفس، تتلقى هؤلاء الأحياء المختلفي المطامع والأهواء تلقي الوالد العطوف لأبنائه، وهم يختلفون منازع واتجاهات، وهو يبسم ابتسامة التهكم الرفيق
تجمعوا في بيته تعالى ... وافترقوا في جمعهم أحوالا
وهل نسوا في أرضه النزالا ... فيحتويهم بيته أمثالا
على اختلاف السمت والنصيب!
لعلهم صلوا له ارتجالا ... فاختلفوا ما بينهم سؤالا
فلو أجاب السائلين حالا ... صب على رءوسهم وبالا
وألحق المخطئ بالمصيب هذه قطعة واحدة من (عابر سبيل) يبعثها مشهد مألوف للجميع. وهو (على قارعة الطريق) ولكن المارة لا بد لهم من عين وذهن ونفس لتراه ثم تدركه، ثم تتغلغل فيه. وأنت خليق أن تجد عند العقاد كثيراً من هذا النوع ولا سيما في (عابر سبيل)
وللعقاد عناية بتصحيح مقاييس الأحكام على الطبائع والنفوس منشؤه أنه صاحب (نفس) خاصة، و (طبع) أصيل، فهو لا يتلقى المبادئ والأحكام من الخارج، ولكن يفيض بها من الداخل، ويسمع فيها منطق الحياة الخالدة، ووحي الإنسانية الدائمة، لا منطق الفرد العابر، ولا الجيل القاصر. ومن هذا النحو قوله عن (عدل الموازين) و (جلال الموت) وقد استعرضتهما آنفاً ومنه:
من ساء بالناس ظناً دون ما ألم ... أحق عندي بسوء الظن والتهم
أسيء ظنونك لكي مكرها أبدا ... كمن يظن ببعض الآل والحرم
هذه قوله رجل (إنساني) تزخر نفسه بالعطف وتفيض بالثقة، فينكر فلسفة سوء الظن ارتجالاً وتطوعاً، فسوء الظن عنده بالإنسانية أمر مكروه لا يقدم عليه الإنسان وله منفذ إلى رجاء فيها، كمن يظن ببعض الآل والحرم، بعد ألا يجد بداً يجد بداً من الظنون، وبعد أن ينفد معين الثقة والتعاطف والتنزيه الفطري للآل والحرم. . . ويقول:
إذا ما تبينت العبوسة في امرئ ... فلا تلحَهُ واسأل سؤال حكيم
أجل سلة قبل اللوم فيم انقباُضه ... وفيم رمى الدنيا بطرفِ كظيم
لعل طلابَ الخير سرُّ انقباضه ... وعلة حزن في الفؤاد مقيم
فما تحمد العينان كل بشاشة ... ولا كل وجه عابس بذميم
قطوب كريم خاب في الناس سعيه ... أحب من البشري بفوز لئيم
وهذه قوله رجل، معنَّيٍ بالغايات النفسية، لا بالمظاهر البادية على الوجوه ورجل يعدل (عدل الأناسي لا عدل الموازين) في الحكم على قيمة العبوسة والبشاشة في الجبين. ورجل عطوف يتقصى أسرار النفوس ويقدر أحوالها، ويوسع صدره لبدواتها ولا يتسرع في سوء الظن بها، وبذلك ينفذ وصيته السالفة.
ويقول:
لا تقل: فاجر وبرٌّ. ولكن ... قل: هو الصديق والمراء صنوف رُبَّ حق فيه نفيس ومرذو ... ل، وميْن يرجى وميْن يخيف
إنما الفاضل الذي فضله في الخي ... ر والشر فاضل وشريف
وهذه أبيات لا تكتفي بتصحيح مبدأ في الأخلاق، بل هي تخلق مبدأ. ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نشرح هذا المذهب ونناقشه، ونوازنه بمذاهب الأخلاق، وتعريف الحسن والقبيح، وبيان أسباب هذا الحكم، الخ، فنكتفي بشرحها في اختصار:
ليست عناوين الأخلاق المتواضع عليها هي الحكم الفصل في تقدير قيمة هذه الأخلاق، فالصدق مثلا لا يعني أن كل ما ينطوي تحته، فاضل وشريف، والكذب لا يعني أن كل ما ينطوي تحته مرذول وخسيس، ومثلهما بقية عناوين الفضائل المتعارفة. إنما مناط الحكم على الصدق وعلى الكذب، أمر آخر غير عنوانهما. ففي الصدق ما هو شريف ومرذول، وفي الكذب كذلك ما يكون هذا أو ذاك؛ وفي سواهما مثلهما
وكم من كذبه عظيمة ألقاها مصلح، أوفاه بها بطل، أو زخرفها فنان، هي اشرف وأعظم، من (صِدقة) حقيرة، ألقاها جاسوس، أوفاه بها مجرم، أو طرحها مطموس لا يبغي بها قصداً
وكم من (بوهيمية) عاش في ظلها فنان تمده بالخصوبة والإلهام، هي أشرف من استقامة عاش في ظلها جلف يقنع بها عن ضعف، أو انطماس بصيرة، أو فتور حيوية
وعلى أية حال فتلك نظرية تمر هكذا في ثلاثة أبيات، بين الركود العقلي والنفس في مصر، ولو وجدت حياة زاخرة لكانت موضوع جدل ومناقشة، ومثار انقلاب في مبادئ الأخلاق. ولكننا في مصر حيث الركود والاستهتار
والذي يهمنا منها الآن، هو دلالتها على طبيعة العقاد، التي لا تحفل الظواهر والأشكال، إنما يهمها تقدير العامل النفسي الباطن في الأعمال والأقوال
ومثل هذه الخطوات هي الخطوات التي يسميها بعض ذوي النفوس الضيقة، والأحاسيس الضامرة، فلسفة لا شعراً. ويعنون أنها صور عقلية عمل فيها الفكر وحده وقد اتضح من شرحنا لها، أنها تقوم على العامل (النفسي) أول ما تقوم، وأن الطبع الحي البصير هو الذي يوحي بها
وكل ما ينقض هذه الخطرات لتكون من العاطفة في الصميم، أن صاحبها لا يضع لها لافتة (يافطة) مكتوب عليها: (هنا شعر عاطفي)! أما أصحاب النفوس، فيحسون ويقدمون: أي نفس تلك التي تلتفت مثل هذه اللفتات، واي عاطفة عميقة في ثنايا هذه الأبيات
(حلوان)
سيد قطب