الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 259/الكتُب

مجلة الرسالة/العدد 259/الكتُب

بتاريخ: 20 - 06 - 1938


التجديد في الشعر

أرجوحة القمر

للشاعر اللبناني صلاح لبكي

للأستاذ فليكس فارس

لا أحب هؤلاء المدعين التجديد في الإنشاء المرسل والشعر المرسل الذين يحسبون أنهم يجيئون بالعجب العجاب إذا هم قلبوا أوضاع اللغة وتصرفوا بلهجاتها وروعة اتساقها، فكأن تفكيرهم وشعورهم لا يقويان على الظهور إلا إذا خلقوا لنا لغة جديدة تقوى على اقتناص شوارد الخيال وجامحات التفكير فيهم؛ وكأن البيان العربي الذي اتسع لأقدس وحي وأروع إلهام، قد فقد روحه وأنحطم جناحاه في هذه الأيام

لا ريب في أن لشاعر الحضارة ما لم يكن لشاعر البداوة من الانطباعات الذهنية والتأثر؛ ومن وقف عند القديم في مجال التصور والانفعال كان مقلداً يجره البيان إلى المعنى إذ لا يملك تحكيم معناه ببيانه

نحن اليوم في مرحلة يتنازع فيها إلهام الشاعر قوتان: قوة تفكيره وشعوره في بيئة تختلف عن البيئة التي ألهمت الشعراء الأقدمين، وقوة الأسلوب العربي الذي لا يسلس قيادة إلا لمن اهتدى إلى مواضع المرونة في قوته

إن من الشعراء الذين وقفوا إلى حد بعيد في إلهامهم وبيانهم الأستاذ صلاح لبكي وهو ابن المرحوم نعوم لبكي صاحب جريدة المناظر (جدة صحف المهجر) الذي قضى حياته محلقاً في أجواء السياسة والأدب فما جاراه إلا العدد القليل في أوائل النهضة بلاغة وجراءة وإخلاصاً. وقد طوى جناحيه في أواخر أيامه على صخرة جرداء كانت كرسياً لأول رئيس للمجلس النيابي في لبنان

والأستاذ صلاح محام لامع قدير لم ينضب القانون معين شاعريته، فالشاعرية الأصيلة كدوحة السنديان تنشب أصولها في كل تربة ونتغذى حتى من الصخور

وقد نشر مؤخراً في ديوان صغير بعض مقطوعات تعد بحق من نماذج التطور الذي لم يضل سبيله في الشعر العربي فاسمعه يقول في مقدمته:

ورب شعر نام عنه القضا ... مر بجيل بعد أجيال

يحمل منى زفرة مرة ... مرثاة أحلامي وآمالي

ردده عني فتى لم تدع ... منه الرزايا غير أسمال

مستأنساً بي جاهلا من أنا ... إني أخو الباكين أمثالي

وإذا ما وصلت إلي مقطوعة العاصفة فاقرأها كلها فهي ستة أبيات تقرأ فيها قصيدة طويلة

اسمعي الإِعصار يدوي في الجبال ... اسمعي للغاب أناتٍ طوال

اسمعي كم طائر تحت الظلام ... تائه بلله القطر السجام

يتوخى مأمنا حتى الصباح ... من تُرى ينجيه من كف الرياح

افتحي الكوة في وجه السما ... وانظريها لبست ثوب الشقاء

وتوارت رهبة خلف الغيوم ... بعد أن أطفأت الريح النجوم

أغلقي الكوة في وجه الرياح ... للصباح

خبئي رأسك في صدري ونامي ... يا غرامي

وعندما تستوقفك قصيدة تشويق بمقدمتها الصوفية فاتلُ منها بصوت مرتفع هذه الأبيات لتشرك أذنك بما يتمتع به تفكيرك وشعورك من روعتها وسلاستها

رب يوم تمشين فيه إلى مغْ ... رِب عمر الحياة دون رجاء

يلفح الريح في طريقك والقر ... ويرسو عليك هم الشتاء

وتصيرين والضحى كبقايا ... علم رث تحت ستر الخفاء

نسجوه لكل مجد فلم يخْ ... فق بجو ولم يصن بدماء

وتبيتين دون ذكرى غرام ... كان دفء الصبا عجوز شقاء

فتعالي إني فرشت لك الحب ... وعطرت بالحنان هوائي

نتساقى الهوى ونذخر للتذ ... كار نوراً لساعة الإمساء

حينما لا نعود نسكر بالحب ... ويمسى التذكار كل المزاء

فليكس فارس