مجلة الرسالة/العدد 258/بين العقاد والرافعي
→ صحيفة أدب وأخلاق | مجلة الرسالة - العدد 258 بين العقاد والرافعي [[مؤلف:|]] |
كلمة أخرى على الهامش ← |
بتاريخ: 13 - 06 - 1938 |
العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 7 -
عاد الأستاذ شاكر إلى خلته التي تركناه لها، وتركناه من أجلها، وما أحسبه ولا الأدب بمفيدين من هذه الخلة شيئا، ما احسبني ولا رأيي بخاسرين بها كذلك. فليقل إذن، ما دام القول هكذا يريحه - وإنا لنبغي له الراحة إن شاء الله - ولسواه!
أما أنا فعلى منهاجي في تقسيم الموضوع سأسير، فان أتى الأستاذ بشيء، غير ما يحلو له أن يفرط علينا به، فسأجعل ختام حديثي عن العقاد نقاشا له فيه، كما صنعت في ختام حديثي عن الرافعي، وهذا آخر ما نستطيع أن نكرم الأستاذ به
وأما الأستاذ (الطنطاوي) فأنا أكرم (دمشق) وجيرتها أن أكسب خصومته إذا أنا شئت الجد في وصف كلمته، ووضعتها حيث ينبغي وضعها من الأدب والرأي، في مدارج الآداب والآراء. ولعني بصمتي عنها أكون قد شئت له أفضل مما شاء لنفسه. وليسأل في ذلك (المتقدمين من نقدة الأدب) الذين يقف عند آرائهم
سيد قطب
من الناس من يقف عند ظواهر الأشياء والآراء، كما يقف الميزان من الموزونات، لا يميز بين أنواعها، ولكن يميز بين كثافاتها. وهؤلاء هم (الشكليون) في إحساسهم وأحكامهم، وهم والميزان الميت الجامد سواء
وفي مثل هؤلاء يقول العقاد، مصدراً عن (طبع قوى يخلق المبادئ الخلقية، ويختار ما يناسبه، ويرفض مالا يرتاح إليه، ولو تواضع الناس عليه) كما قلت في أول كلمة:
إنا نريد إذا ما الظلم حاق بنا ... عدلَ الأناسيَّ لا عدلَ الموازين
عدلُ الموازين ظلم حين تنصبها ... على المساواة بين الحرّ والدون
ما فرَّقت كفة الميزان أو عدلتْ ... بين الحليَّ وأحجار الطواحين
هؤلاء العادلون - على طريقة الموازين - يقولون: إن للعقاد مدرسة، وللرافعي مدرسة؛ ولكل من المدرستين تلاميذ وأنصار، فمن الغلو إذن أن ينكر أنصار إحدى المدرستين طريقة الأخرى، وأن يقسوا في نقدها والزراية عليها
ومن هؤلاء من يقول عنا: (ويكفيه مما مضى في كلامنا وكلامه أن يعلم أنه نزه العقاد ورفعه أرفع درجة، وأننا لم ننزه الرافعي ولم نقل فيه بعض ما يقول هو في الشاعر الكبير صاحبه) يقول هذا وهو يحسب أنه نصب ميزان العدالة الحساس في تورع وتنطس وإحكام
المسألة أيها الناس، ليست هي الاعتقاد في أمر من الأمور، ولكنها قيمة هذا الاعتقاد وحظه من البصيرة، وحقه من الاحترام والبقاء. والمسألة ليست مسألة طريقة خاصة في الأدب أو الرأي - أيا كانت قيمتها - ولكنها حقيقة هذه الطريقة وصلاحيتها للحياة والدوام
فلتكن للرافعيين مدرسة في الأدب، ولتكن عقيدتهم فيها ما تكون، فيبقى بعد ذلك أنني حين أنكرتها عليهم، لم أكتف بإشارات الصم البكم في القبول أو الإنكار، ولكني نقدت ما فيها نقص الحيوية، واستغلاق الطبع، وأتيت على هذا بالأمثلة التي تثبت موت هذه الطريقة، وعجزها عن مسايرة الحياة. وهذا هو مناط الحكم، وهذا هو (عدل الأناسي) الذي يحسب حساباً للكيف والنوع، لا عدل الموازين الذي لا يحفل بغير الكم والوزن
أما قوله أحدهم إنني رفعت صاحبي، ولم يقل هو في صاحبه بعض ما قلت، فلكأننا في معرض مفاخرة على طريقة القدماء، لا يهم فيها الواقع والصدق، إنما يهم فيها الفخر و (النخع)؛ وكأنما الحكاية كلام يقال، ثم لا ينظر ما وراءه من دليل
أنا يا سيدي أقول ما أقول، وأشفعه بالمثال والدليل، فان كان لك قول فلتناقش هذه الأمثلة والأدلة، أو لتأت بغيرها مما يدل على نقيضها. فأما التظاهر بالتورع والتنطس! فقد يدل على غير العدالة النفسية التي لا تحفل الظواهر والشكليات، متى قام لها من حقيقة الموضوع ما يدعمها ويقنع بها
ولعل الذين يعدلون - عدل الموازين - يقنعون بهذا، ويفهمون أن المسألة ليست طريقة وطريقة، ولا رأياً وراياً، وإنما هي قيمة هذا الرأي وتلك الطريقة
ومن الناس من هم عوام في تقديراتهم الاجتماعية، لا تبلغ قداسة الرأي عندهم، ولا دفعة اليقين بأمر من الأمور، أن يتغلبوا بهما على ما تواضع العوام عليه من رسميات وشكليات، والموت عند هؤلاء يكفي لأن تطبق فمك عن كل حق، وأن تضم شفتيك عن كل رأي، ولو وجدت مناسباته ودواعيه
وفي هؤلاء يقول العقاد متعالياً على القيود الاجتماعية العامية:
أرى في جلال الموت إن كان صادقاً ... جلالة حق لا جلالة باطل
فلا تجعلن الموت حجة كاذب ... لمدحة مذموم ورفعة سافل
ومع تعديل في كلمتي (مذموم وسافل) تنطبق الحالة على ما نحن فيه اليوم من حديث عن الرافعي ونقده وأدبه. فما دام الرافعي قد مات، فيجب حينئذ أن يقول أنصاره عنه ما يقولون فلا نتعرض لتزييف مدائحهم فيه؛ ثم لا يكتفون بهذا بل يقولون عن خصومه ما يقولون فلا نتعرض كذلك لشيء مما يقولون! أليس الرافعي قد مات؟ فلئن كان الموت هكذا فليبطلن إذن عمل التاريخ، وعمل النقد، ولتتحطم مقاييس الرأي ومعايير الأدب، وليكونن الموت (امتيازاً) من الامتيازات التي يلوذ بها كل مخطئ وكل متخلف!
والحمد لله أن بنا من الشجاعة ما نواجه به عامية العوام في هذه الاعتقادات، ونصدر به الرأي خالصاً من كل تنطس مصطنع، وتكلف ذميم
ومن الناس من لا رأي له فيما يحس ويرى، أو لا عقيدة له في رأي أو اتجاه، أو لا حماسة له في عقيدة، فهو من هذا يحسب الناس سواه كذلك، ولا يستطيع أن يلمح في عمل من أعمالهم دفعة اليقين، وحماسة الاعتقاد، ولا يفهم إلا أنخلفهم آخرين يدفعونهم ويزجونهم. ذلك أنه ناضب العقيدة، فاتر الحماسة، فقير العاطفة، لا يفهم ما لم يكابد، ولا يتخيل ما لم يحس
وليس عندي لهؤلاء ما أقوله، لأنهم منطقون مع نفوسهم، ومع طبيعة مدرستهم.
ولكني أقول لمن يستطيعون أن يفهموا شيئاً عن دوافع النفوس الإنسانية: إنه لم يكن من الحتم أن انتظر تأذى العقاد مما كتب الأستاذ سعيد لأشعر أنا بالتأذي؛ وأن العقاد ليس صاحب القضية وحده فيما يكتب عن أدبه وردوده، ونقد سواه له، وإنما صاحب القضية هو كل ذي رأي فيها، وكل صاحب عقيدة في الرافعي أو العقاد، وتلك فسحة في (النفس) لا نطمع أن تدركها المدرسة الرافعية. فبحسبها الفسحة في تنميق العبارات وتبخر الكلمات، وتثني الأساليب!
ثم نأخذ في الحديث عن العقاد تكملة لحديث البارحة، وتدليلاً على ما أوردنا من نظريات مجملة، فيما يصب في نفس العقاد من ثقافات عالمية، وما ينضح به أدبه من هذه الثقافات، وما تخلقه طبيعته خلقاً من اتجاهات، تبدو فيها آثار الثقافة البصيرة، مما يحتم على دراسة - بله ناقده - الإلمام بالمعارف الإنسانية العامة، فوق فسحة في الضمير، وتوفز في الشعور. . يقول العقاد
بك خف الجناح يأيها الطي ... ر وما كنت بالجناح تخف
لطف روح أعار جنبيك ريشا ... فمن الروح من الريش لطف
فتحس هنا لطف الإحساس، ونفوذ البصيرة، ورفرفة الروح الفنية، وهي تتبع القوى الحية الكامنة في روح الطائر، وترى رفرفتها من الداخل، وتحس خفتها ورشاقتها في ماهيتها الأولى، حتى لتعير جانبيه ريشا
وهذه هي ميزة الفنان الحيّ في الشعور بالحياة الباطنة لا بمظاهرها الخارجية وحدها، وفي الالتفات إلى خلجاتها في الضمير، لا في السطوح بمفردها
ولكنك خليق أن تجد بجانب هذه النظرة مصداقها من الروح العلمية، فعلم وظائف الأعضاء يقول: إن الوظيفة تخلق العضو. فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح
وقد لا يكون الفنان الصادق في حاجة للعلم بهذه النظرية ليقول هذا القول. ولكن المفسر والناقد في حاجة ماسة إليها، ليدركا جمال الخاطرة كاملا، ويستوثقا من صدق الفطرة واضحاً، ولكي لا يخطر لهما أن ينظر إلى الأشكال الخارجية وحدها فيريا الطائر يطير بالجناح، فهذا إذن سبب الطيران!
ودراسة الأحياء هي (العلم) الذي يلذ لذادة (الفن) فالشاعر العظيم لا بد له من قسط منه، لأنه أصيل في طبعه، إذ كانت (الحياة) أجمل ما يلفت نظره وحسه، ويخالج وجدانه وضميره. وأنت واجد في شعر العقاد لفتات شتى إلى دراسة الأحياء علما وفنا. وديوان (هدية الكروان) أحفل دواوينه بهذه الناحية في دراسة الطيور والتطلع إلى الحياة النابضة في ضمائرها وكيانها، وإلى عوامل التفاؤل والاستبشار في عيشها وتصرفانها، مع مزج ذلك بالنظريات الفلسفية منقولة إلى الصورة الفنية. وفي (وحي الأربعين) لفتات كذلك إلى الغرائز والطباع في الأحياء عامة في فصل (تأملات في الحياة) وقد فصلت رأيي فيها في محاضرتي عنه سنة 1934. وكذلك قد حوى (عابر سبيل) كثيراً من هذا.
يقف أمام (الجيبون) في حديقة الحيوان، فتنثال على نفسه الخواطر، وتلمح فيها نظريات علم النفس الحديث، إلى جانب الفلسفة الصوفية، ومزاجهما الإحساس بالحياة النابضة في ضمير هذا (الجيبون)، والآمال المترائية في خياله، والأشواق الفائزة في أحلامه، وهو يقفز ويرقص: وبجانب هذا كله أثر الدراسة لدوران ونظريته:
أيهذا الجيبون أنعم سلاما ... يا أبا العبقري والبهلوان
كيف يرضى لك البنون مقاما ... مزريا في حديقة الحيوان!
ألعب الآن وانتظر بعد حقبا ... ترق في (سلم الرقى) وتعل
كيف لم تصعد السلالم وثبا ... أيها الصاعد الذي لا يمل
يا عميد الفنون صبراً ومهلا ... وارض حظ الهتاف والتهليل
مرحباً مرحباً وأهلا وسهلا ... والهدايا ما بين لب وفول!
انتظر يا صديقي شيئاً فشيئاً ... تطبخ القوت كله بيديكا
غير أني أخال ما كان نيئاً ... منه أجدى في الحالتين عليكا
انتظر يا صديق مليون عام ... أو ملايين لست والله أدري
إن تدانيت بعدها من مقامي ... فقصارى المطاف أن لست تدري!
واصطبر إن عناك نثر ونظم ... سوف تتلو نثراً وتنظم شعراً
وغدا يطفر الخيال ويسمو ... والذراعان لا تطيقان طفراً
وإذا ما درست أوزان رقص ... بعد لأى فالرقص فيك انطباع
هل تنال الكمال من بعد نقص ... إن أقلتك فكرة لا ذراع
انتظر سوف تفهم الشيء باسم ... بعد رسم وغابر بعد حال
فإذا ما طلبت باطن فهم ... يا صديقي طلبت أي محال
ولا تقف الإشارة إلى نظرية النشوء والارتقاء في هذه القطعة - بجانب الإحساس الفني فيها - عند ظاهرها الذي يعلمه كل من سمع بها؛ فالمقاطع من الرابع إلى الثامن تدل على فهم تام لها وهي تشير إلى أن الطبيعة لا تسرف في المواهب، فهي حين تمنح موهبة تسلب ما كان يقوم مقامها. فهذا الجيبون حينما يطفر خياله في المستقبل فالذراعان لا تطيقان طفراً، وحينما تقله الفكرة ستخذله الذراع. ثم هناك بيان لمدارج الرقى بين الإنسان والحيوان، فهذا يفهم الشيء برسمه، وذلك يفهمه باسمه، وهذا يتذكر الحاضر وحده، بينما ذلك يتذكر الغابر ويستعيده، ثم فيها الإقرار بالعجز الإنساني أمام الغيب المجهول، والسخرية بالمعرفة الإنسانية القاصرة، فقصارى الجيبون حين يصل إلى مرتبة الإنسان أن يعرف الأشياء بالأسماء ويتذكر ما فات وأن تقله الفكرة لا الذراع ويطفر خياله ويسمو
فإذا ما طلبت باطن فهم ... يا صديقي طلبت أي محال!
أو:
إن تدانيت بعدها من مقامي ... فقصارى المطاف أن لست تدري!
وهناك الإيمان بالغريزة والإعجاب بطابعها الخالص:
وإذا ما درست أوزان رقص ... بعد لأي، فالرقص فيك انطباع!
والنيء أجدى من المطبوخ في حالتي هذا الجيوب الصديق. وهناك بعد هذا كله ذلك التعاطف بين الحي والحي، والشعور بالآصرة التي تربطهما، واستعراض الآمال والأشواق في أبي العبقري والبهلوان!
وللقصيدة بقية تنحو هذه المناحي
وهذه قطعة واحدة من شعر العقاد، تزدحم بكل هذه الدراسات واللفتات، وذلك بعض ما عنيناه برحابة نفسه، وتوفر شعوره، وصدق فطرته؛ وذلك مالا يعني المدرسة الرافعية، لأنها مشغولة عن مثله بمآرب أخرى في تطريز الأساليب وتوشية التعبير واستعارة الحكم والأقوال المأثورة
ولعل في هذا رداً على (المتقدمين من نقد الأدب) الذين يرون المعاني ملقاة على قارعة الطريق. . .! وقد تكون كذلك ولكن ليس كل من يمر بالطريق مفتوح العينين ليراها ويدرك ما فيها من جمال وتعبير عن حقيقة ثمينة؛ حتى لا يكون أمامه بعد هذا إلا أن ينصرف لتجويد الأسلوب. وهاهو ذا (الجيبون) في حديقة الحيوان يمر عليه الرائح والغادي، ويراه الرافعيون كلما زاروا الحدائق. ولكن العقاد وحده هو الذي يقف أمامه ملتفتاً هذه اللفتات، لأن في نفسه ذخيرة ينفق منها، وحياة يفيضها على ما يراه؛ وتلك ميزته عمن عداه
(حلوان) سيد قطب