الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 257/الأنباط وأطلال بترا الخالدة

مجلة الرسالة/العدد 257/الأنباط وأطلال بترا الخالدة

مجلة الرسالة - العدد 257
الأنباط وأطلال بترا الخالدة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 06 - 06 - 1938


للأستاذ خليل جمعه الطوال

- 2 -

ديانة الأنباط

لقد كان للأنباط ديانة مستقلة، لها آلهتها العديدون، وطقوسها الخاصة. وتدل النقوش والكتابات النبطية المكتشفة على الهياكل والآثار العديدة في بترا على أن الأنباط كانوا يعبدون الحية وبعض الأجرام السماوية. ففي طريق النبي هارون (الواقع بجوار بترا) لا يزال أثر الحية قائماً حتى اليوم بشكلها المخيف ورأسها المتفرع، وفي كثير من المعابد والمقابر، كأم الصناديق والصياغ وقبر الحديقة - وهي من آثار بترا الرائعة - رسوم عدة للثعابين والنجوم وما إليها. وقد وجد على بعض المعابد النبطية، في حوران، تماثيل وأسماء لآلهة كثيرة، كأموس، وأثى، وبعلمين، وفقرة وثيندارتيس اليوناني، وآلييت. أما أشهر هذه الآلهة فهو الإله (ديشوره) إله الشمس، وواهب السرور والخصب؛ وهو عبارة عن حجر أسود طوله أربعة أقدام ومقعده قدمان، ولا يزال موجوداً حتى الآن في مزار النبي هارون؛ والبدو هناك يحيطونه بكثير من التقديس والإكرام، ويعتقدون فيه القوة على شفاء بعض الأسقام. ويقدر المستر جون وايتنج ثمن البخور الذي كان يحرق في بترا في المراسيم الدينية بعشرة آلاف جنيه فلسطيني، وهي قيمة وإن كان في تصديقها مجال كبير للافتراض والشك، إلا أنها تدل على مقدار تغلغل الروح الدينية بين الأنباط. وذكر المستر ج. أدم سمث في مؤلفه الجغرافية التاريخية للأرض المقدسة ص628: أنه قد بلغ من قيمة هذا الإله (ديشوره) أن أقيم له نصبان أحدهما في روما والآخر في بوتيولي

سيادة بترا التجارية

تقع بترا بحكم موقعها الجغرافي في نقطة تجارية عظيمة، وقد كانت حتى منتصف القرن الأول للميلاد نقطة التوريد والتصدير لمختلف البضائع الشرقية، ومركزاً لتبادل المتاجر المختلفة التي كانت تمر بها سائرة بين الجزء الجنوبي لجزيرة العرب، والهند، ومصر، وتدمر، وفلسطين. ولما قدم إليها الأنباط وسكنوها سعوا إلى تحسينها وترقيتها، فبنوا فيه القلاع والأبراج والمعابد والأسواق، والمدارج الرائعة، التي لا تزال قائمة حتى اليوم دليلاً على غابر مجدها، وسالف عزها؛ وقد ساعدهم على ذلك ميلهم الفطري لنقل المتاجر على قوافلهم، وقلة المنافسين لهم، وتفرع طرق تجارية عظيمة بين عاصمتهم وبين سائر الأقطار الأخرى، فقد ذكر (موزل) في كتابه الصحراء العربية ص 515: أنه كان يوجد طريق معبد بين تدمر وبطرا، وأخرى بين بطرا وغزة إلا أن اشتطاط الأنباط في الأجور الغالية التي كانوا يتقاضونها على النقل، وكثرة المصارفات التي كانوا يرهقون بها المتاجر التي ينقلونها، قد حدث بالناس إلى التفتيش عن طريق آخر لحمل البضائع الهندية، فقامت بذلك تدمر وازدهرت حيناً من الزمن حتى عام 273م. على حين تقهقرت حالة بترا التجارية الاقتصادية تقهقراً عظيماً. وفي عام 45م اهتدى هبالوس إلى طريقة الاستفادة من فعل الرياح الموسمية في تسيير السفن، فقل بذلك شأن الطرق البرية عامة، وطريق بترا خاصة، وقد كان ذلك نهاية لعصر بترا الذهبي

أسماء بترا التاريخية

يغلب على الظن أن أول من دعا بترا بهذا الاسم هم الرومان، وذلك لأنها منحوتة في الصخر الأصم، ومعناه باللغة العربية (المدينة الحجرية). وذكرتها التوراة في سفر الملوك الإصحاح الرابع عشر، والعدد السابع باسم (سالع) وفي اللغة العبرية باسم (سلاع) كما ذكرت أيضاً أن أمصيَّا ملك يهوذا قد هجم على الآدوميين في وادي الملح وذبح منهم عشرة آلاف رجل وأنه زحف على سالع (بترا) واحتلها ودعاها (يوقتئيل). وذكر المؤرخ جورجي زيدان في كتابه (تاريخ العرب قبل الإسلام) نقلاً عن المقدسي والمقريزي: أن من أسمائها المشهورة عند العرب (الرقيم). وقد جاء ذكرها أيضاً في القرآن الشريف في سورة الكهف. وذكر المستر باري في كتابه (التاريخ الروماني المدرسي) ص497: أن الإمبراطور هادريان قد زار بترا عام 129م، وأنها دعيت بهذا السم تخليداً لذكراه، كما ذكر أيضاً أنه أمر بسك نقود جديدة باسم بترا الجديد، وقد نقش عليها (هادريان متروبولس)

موقعها وأطلالها:

تقع بترا في الشمال الغربي من معان، وعلى بعد 260كم من عمان عاصمة الأمارة الأردنية، وهي طريق صالحة لسير السيارات في حين الجفاف وانقطاع الأمطار الغريزة حتى قرية وادي موسى التي تبعد عن بترا مسافة كيلو مترين ونصف كيلو متر؛ وهي قرية صغيرة يعتني أهلها بتربية الدواجن ولا سيما الخيل والبغال والحمير، التي يستفيدون منها في موسم السياح، وفيها نبع ماء غزير يستقي منه أهلها ويستفيدون منه في زراعة بعض الخضر والحبوب. ويعتقد البدو الضاربون هناك أن النبي موسى قد مر بهذه القرية أبان خروجه من مصر يقود أثنى عشر سبطاً من أسباط بني إسرائيل؛ وإذ كان العطش قد اشتد بهم فقد أمر بنحر ما معهم من الإبل والنوق، وبفري اكراشها وشرب ما في داخلها من الماء، ولكن ذلك لم ينفع غلتهم، فكثر تذمرهم عليه، وعلا لغطهم، فركع وصلى لله، ثم انتصب وضرب بعصاه صخراً أصم كان إلى جانبه فتفجر منه ماء عذب زلال، ودعي ذلك المكان بعين موسى. والبدو عامة يقدسون هذه العين، ويعتقدون أن روح النبي موسى تقطن بجوارها وتحوم حولها دائماً وأبداً، ولذلك أقاموا عليها قبوا صغيراً يلجئون إليه كلما انتابتهم آفة، أو حز بهم مكروه، لاعتقادهم أن روح النبي القاطنة حوله تشفيهم من أسقامهم، وتسهل عليهم مشكلاتهم ومعضلاتهم. وكثيراً ما يحرقون داخل هذا القبو مقادير عظيمة من البخور، وعرق الند الزكي الأرج، ويضيئونه بمصابيح فخارية، وبزيت الزيتون الطيب النقي، وذلك إجلالاً لروح النبي كليم الله. وقد حدثني بعضهم أنه في كل عام ينحر في هذا المكان ذبيحة أو أكثر، ضحية عن موتاه، وتقرباً إلى النبي في يوم تقوم فيه القيامة وينتصب الميزان. وتبعد هذه العين عن القرية مسافة ميل ونصف تقريباً. وتحيط بوادي موسى الحقول النضرة، والحدائق الجميلة، من جميع جهاتها. ومما يزيد في جمالها الأخاذ انبساط أطلال بترا أمامها، تلك الأطلال الجميلة التي كأنما فرغ من زخرفتها الدهان بالأمس. وأي منظر أبدع وأجمل، واكثر رونقاً وبهاءً من أن يستقبل الإنسان منظر هذه الطلول المبثوتة المنضدة أمام وادي موسى في اتساق غريب وبديع تحار فيه العقول! هناك تقع الغزالة بأشعتها الذهبية أول ما تقع على أجمل وأبدع هيكل طبيعي، ظل قائماً ومحافظاً على استوائه طيلة هذه الأحقاب التي لم تستطيع قط أن تنال منه شيئاً. قمم مشمخرة في الفضاء تنعكس عليها أشعة الشمس صباح مساء، فترتد في شكل قوس قزح بل وأبدع منه، ومن فوقها قبة السماء الصافية الزرقة، وقد انبسطت تحتها حلة سندسية جميلة من الأعشاب الخضراء تنساب خلالها شعبة من الماء الضحل، فتظهر فوقها كالحسام الصقيل فوق بساط بديع الوشى والحياكة تجثم فوقه أسراب الطيور البديعة الألوان، المختلفة الحجوم، الساحرة التغريد. إن منظر بترا من وادي موسى لمن المرئيات الجميلة التي تتوثب لها أحاسيس الحيوان الأعجم الهامد الشعور، فكيف بفعلها في الإنسان ذي الخيال المتوثب، والإحساس المتيقظ، والشعور المرهف؟ وإن زورة هذه الأطلال الخالدة لأسنى ذخيرة يقدمها الشاعر إلى خياله، والأديب إلى أدبه، والرسام إلى فنه، والعالم إلى سجله ومذكراته

يخرج السائح من وادي موسى ممتطيا فرساً يقودها دليل بدوي ماهر في حفظ الأسماء والمسميات، ذكي يفهم من الإشارة الموجزة؛ فيشاهد بعد مسير نصف ساعة قبور (بيلون العظيمة) وهي في طليعة الآثار، وتتركب من حجر عديدة تزينها الأعمدة الجميلة المحفورة في الصخر الرملي الجميل، والمسلات (المصرية الهندسة) الضخمة المدهشة، تقوم بينها طائفة من التماثيل الفنية التي ما تزال على روعتها وجمالها كأنما هي من عمل اليوم؛ لم نشهد من الزمان احداثاً، ولا من الأيام عبثاً ودولاً. ومما هو جدير بالذكر والمشاهدة عند زيارة هذه القبور مشاهدة صورة الحية الجميلة الرائعة التي تبلغ ثلاثة عشر متراً طولاً، والتي يتفرع من عنقها سبعة رؤوس فاغرة الأشداق حتى لكأنما قد رتبت لازدراد فريسة سائغة. وصورة أخرى تمثل جواداً، وقد شدّ عليه سرجه وقرط لجامه، وامتطى صهوته فارس لم تبق الأيام من هيكله الرمليِ سوى بعض أطراف رأسه المهشم وأصابع قدمه المبتورة

السيق

ويبعد عن قبور بيلون مسافة 150 متراً تقريباً، وهو نفق يخترق جبلين رمليين عظيمين، كثير المنعطفات والتعاريج، يبلغ أقصى اتساعه أحد عشر متراً، وقد يضيق في بعض الأماكن حتى لا يكاد يتجاوز الأربعة أمتار، وبالرغم من وعورة هذا النفق فإن خيول وادي موسى لاعتيادها عليه تسير فيه بكل سهولة. يبلع طوله ميلاً وبعض الميل؛ والراجح أنه كان مرصوفاً بالبلاط الرملي الجميل الذي لا يزال مطموراً تحت كثبان الرمال ورواسب المياه المتدفقة، التي كانت تخترقه مارة من وادي موسى، حتى تصب في وادي العربة. وحوالي عام 50 ق. م. عندما بنى الرومانيون معبد إيزيس في نهاية السيق (أنظر شكل1) حولوا عنه مجرى الماء إلى أقنية فخارية رميلة تمتد على جانبي السيق، على طول كل من الجبلين العظيمين القائم بينهما، وتوصل هاتان القناتان جبل خيتة بجبل الرملة، وتوجد على امتداد كل منهما آثار جدران ضخمة متداعية، كانت تقوم مقام السدود عند اشتداد تدفق الماء، وعند حدوث الفيضان. ويبلغ علو كل من هذين الجبلين اللذين يخترقها السيق نحو مائة متر تقريباً، وينبت في وسطهما في بعض الجهات شجيرات صغيرة من الدقلي والتين البري العاقر، ومما لاشك فيه أنهما كانا مزينين بطائفة من التماثيل البديعة التي تدل عليها مواضعها المحفورة، والتي عبثت بها الأيام فيما عبثت من آثار بترا الرائعة. وقد كان مدخل السيق سابقاً مزيناً بالأقواس الرميلة الجميلة التي تشبه شكل قوس قزح، وبالمحاريب الشاهقة الجميلة التي لا تزال آثارها الرائعة تنطق بسالف عظمتها وغابر مجدها بدليل ما اكتشف عليها من النقوش النبطية الكثيرة. . .

(يتبع)

خليل جمعه الطوال