مجلة الرسالة/العدد 256/من أسبوع العروبة والإسلام بالعراق
→ لو كنت الرافعي! | مجلة الرسالة - العدد 256 من أسبوع العروبة والإسلام بالعراق [[مؤلف:|]] |
فلسفة التربية ← |
بتاريخ: 30 - 05 - 1938 |
رسول المجد
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا مجد مولانا محمد! لقد فنيت في تصويرك ألفاظنا المسموعة والمقروءة، ولكن كلماتنا النفسية الهائلة بقيت كما هي مكتومة لم يقرأها الناس ولم يسموعها. . .
وهأنذا أسأل قلمي الميت الجامد التافه. . . ومدادي الأسود المظلم، أن يعينا على تصويرك أيها المجد، وتصوير فتنة النفس وسحرها بك. . .
ولكن ترى هل القصب الميت يتكلم. . . والحبر الأسود ينير؟ ترى هل تسمح الأقدار أن نكشف العلاقات الخفية بين نفوسنا وبينك على ضيقنا ورحابتك؟
هيهات. هيهات. . . فإن تلك منطقة حرام على النطق والتصوير بالكلام!
يا مجد محمد! تجسم تجسم بأشكال القرن العشرين وأثوابه. . أخرج من الكتب والتاريخ مرة أخرى. . . عُدْ عجيباً غيباً كما بدأت غريباً عجيباً. . . كن أجساداً تمشي على الأرض في أشخاص أبنائك الذين أضواهم جوعهم إليك. . . كما تمثلت في أجساد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسين وخالد وسعد والمثنى وابن عبد العزيز وعلي الرضا والرشيد وصلاح الدين وغيرهم وغيرهم من الرجال المصابيح الذين لم تر لهم الدنيا شبيهاً إلا تحت جناحك. .
يا مجد محمد! إنك مجد دنيا عاجلة فاتنة يحن أبناؤها إليها ويحبون أن يتحدثوا عنها أحاديث البطولة والجيوش والقواد والعلماء وفتوح الأقلام وفتوح السيوف. . .
كما أنك مجد دين وروح وأخرى وملكوت خفي يتصل بالنبوة والرسالة وما وراء الطبيعة. . . إنك مجد الظاهر والباطن والمعلن والخفي. . .
إنك مجد اليتيم الفقير الراعي الحي الأمي الذي وقف وحده في جوف الصحراء يقول للعالم الأرضي كله: إلى أين أيها العالم؟ إلى أين؟ أنت مصروف عن وجه الله ذي الجلال، وعن الحق الذي قامت به السموات والأرض. .!
إنكم جميعاً أيها الناس تطلبون الله. . ولكنكم جميعاً أخطأتم السبيل إليه. فليس الله حجراً ينصب ويعبد، وليس إلهاً خاصاً ببني إسرائيل يحب الدم والذهب، وليس له صاح ولد، وليس كوكباً يشرق ويغرب وينطفئ يا عبدة الكواكب، وليس يرمز إليه بالنار التي توقد من الطين وشجر الطين أيها المجوس، وليس يطلب عذاب الجسد أيها الهنود، وليس القوة كل شيء في سياسة الحياة أيها الرومان، وخففوا من الفلسفة الشاردة وبلبلة الأفكار أيها اليونان. . .
فتقول له الوثنية العربية والجاهلية العريقة: يا ابن أبي كبشة. . أأنت تتكلم من في السماء؟! أألقي الذكر عليك من بيننا؟! إنك لمجنون. . . إن أنت إلا ساحر. . . إن أنت إلا مسحور. . .
وتقول له الأديان والمذاهب والفلسفات: من أنت أيها الصحراوي الأمي حتى تكون المهيمن على الأديان والمذاهب وصاحب البلاغ الأخير من السماء إلى الأرض؟ ما هي ثقافتك؟ أتعرف فلسفة سقراط وطب بقراط وحكمة أفلاطون وافلوطين. .؟
فيقول لهؤلاء جميعاً: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله)
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ. . .) (إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة. . .)
وتقول له السماء: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن). (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان، ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا) (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين) (واصبر لحكم ربك فإِنك بأعيننا)
فيمضي بطريقه المملوء بالأشواك والأوعار والمؤامرات والمكايدات حتى يظهر الله كتابه ويبسط سلطانه على مراكز الحضارات. وها أنتم أولاء تسمعون صدى ذكراه في جوف الليل. . بعد ألف وكذا من السنوات. وسيسمع الدنيا حديثه دائماً
سيداتي سادتي:
لماذا ندير حديث الذكرى المحمدية مثنى وثلاث ورباع وأكثر؟ لماذا نملأ الأجواء بضجة التهليل والتمجيد لروح محمد ومجد محمد؟
لماذا ترغم بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء وأنقرة وطهران وكابل وكل عاصمة عربية وإسلامية على السجود تحت أقدام مكة والمدينة؟
لماذا نثير من تراب مكة والمدينة قبضات في أجواء العالم الإسلامي حتى تكتحل به كل عين ويتوضأ منه كل وجه وتمتلئ به كل رئة؟
لماذا كل هذا؟
كل هذا لأننا نريد ونتوقع أن يرجع مولانا محمد إلى الأرض مرة ثانية في أشخاصكم أنتم أيها المسلمون، لأن الأرض حبلى مجنونة تلد كل يوم فرادى وتؤامى من الجرائم والنكبات والشناعات والقساوات وحرب الآراء والجماعات، ولن ينقذها إلا دكتاتورية رحيمة عادلة معقولة مثل دكتاتورية محمد كما يقول برناردشو الكاتب الأشهر. . . ولأننا نريد أن يؤمن المسلمون بأن المستقبل لهم لا محالة إذا ما بدءوا نهضة نفسية مبنية على تعاليم رسولهم التي تميت النزعات الآثمة الدنيئة التي تدور حول حب الحياة حباً يذهب أخص مميزات طالبي المجد. . .
ولأننا نريد أن نثبت دعائم النهضة العربية والإسلامية في النفس أولاً حتى لا تعبث بها الرياح أو يتسرب إليها السوس
وقد ضربت وضرب كثيرون على أوتار جديد في أحاديث الذكرى النبوية، ذلك لأننا نريد أن يفهم المسلمون إن الإسلام لم يكن مطلوباً ضرورياً لنا كدين نحن مقتنعون بصحته، ومكلفون التعبد به حتى نصفي نفوسنا. . . فهو على أقل تقدير أولى المبادئ التي يجب أن نعتنقها حتى نزيح عن أنفسنا وديارنا كابوس الاستعمار وضغطه الذي لا يرفعه عنا إلا مبادئ الإسلام العملية الصارمة التي أولها امتلاك كل منا نفسه ووضعه قلبه على كفه، واعتبار كل منا نفسه قوة هائلة تستطيع أن تفعل الأعاجيب في الأرض
ومتى امتلك المرء نفسه وملكها لمحمد، فلا والله أن تصل إليه قوة أرضية بسيف حديدي أو ذهبي. . . ومتى وضع كل امرئ قلبه على كفه، فليست هناك قاذفات قنابل أو مدمرات بارود تستطيع أن تدنو من ذلك القلب الصغير الذي صنعه الله من معدن سماوي لا يصل إليه كيد إلا من داخله. . .
وإلا فخبروني لماذا حتم القرآن في بعض آياته وظروفها على المسلم ألا يقر أمام عشرة من المشركين بل بجانبهم ويجالدهم حتى يقتلهم أو يقتل؟ وخبروني: كيف حلا لأهل بدر وهم ثلاثمائة ليس معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً أن يقابلوا جيش المشركين، وهو ألف معهم عتادهم وخيلهم ورجلهم. . . ثم تنتصر الفئة القليلة وتأكل أرض بدر سبعين جسداً من يآفيخ الشرك؟
بل خبروني كيف حلا لسبعين عراقياً ومثلهم من الفلسطينيين ومثلهم من الأردنيين والسوريين أن يواجهوا جبابرة البر والبحر في ثورة فلسطين الماضية؟
وكيف استعصى على مالكة العباب والتراب والسحاب والكلاب البوليسية أيضاً أن تتعقب تلك الشراذم المفرقة على شعاب الجبال كالنسور والصقور، والتي تدير رحى ثورة ما عرف التاريخ لها مثيلاً في ضلاعة الرجال وصبرهم وإيمانهم بحقهم؟
وقد أخبرني هنا في العراق أحد كبار الصقور الذين كانوا يجاهدون في الثورة الماضية قبل تدخل ملوك العرب، أنهم كانوا يفعلون الأعاجيب. . . وأن الأقدار الإلهية كانت معهم بالتوفيق والإلهام، وأنهم لم يعفوا تفسير آيات الجهاد التي وردت في القرآن الكريم، والتي تجرد المسلمون من منطق الضعف ووسواس الحذر إلا في هذه الثورة. . . وأنهم اكتشفوا سرًّا خطيراً هو أن المسلمين يستطيعون أن يفعلوا أشياء عظيمة تثبت كيانهم وتعجل استقلالهم وتعيد إليهم مجدهم، ولكنهم يجهلون أنهم يستطيعون، أو لا يجهلون. . ولكن سادتهم وكبراءهم ورجال سياستهم وهم سبب الضعف والشلل وأصل الخوف والبلاء، وأنهم يفرطون ولا يستطيعون أن يلعبوا أدوارهم في الوقت المناسب، وأن سياستهم - إن كانت لهم سياسة - مكشوفة يقصد بها الشهرة وأنهم غافلون عن الأسباب السريعة التي تحيل النفوس الخزفية إلى نفوس حديدية، وانهم يجهلون بتاتاً روح (محمد)، أو يعرفونها ولا يستخدمونها خوفاً من الاتهام بالرجعية والتعصب. . . وأنهم فوق ذلك وأدهى من ذلك متفرقون مختلفون متناطحون كالثيران التي في المجزرة وهي لا تعلم لماذا هي في المجزرة!
أيها السادة:
إننا لسنا هازلين في نهضتنا. لقد طال رقودنا وركودنا وقد عزمنا أن تحيا أولاً جامعتنا العربية المكونة من ثمانين مليوناً هم في مركز الأرض كما تحيا أي جامعة. . . لنؤدي رسالتنا السامية في الحياة. ولن يعوقنا عائق مهما كان ملفقاً بالحديد والنار والذهب لأننا القوة التي اختارها الله لحمل رسالته الأخيرة وقوة الله لا تغلب (والله أعلم حيث يجعل رسالته) وقد تكهرب الجو وتكهربت نفوس المسلمين والعرب، وامتلأت الأفواء باللعنات والسخط والحقد، ودب دبيب إحساس جديد في جميع الأقطار العربية. واقسم بالقدر وقوانينه وبسنن الله التي لا تتخلف نتيجة فيها نتيجة عن مقدماتها. . . أني أحس أن الزمن يتمخض عن شيء هائل! وأن أجواف المسلمين وقلوبهم تغلي الآن لأنهم يوقدون على قلوبهم بالحديد والنار في فلسطين!
أيها المسلمون! أيها العرب! تربصوا واستعدوا واغسلوا قلوبكم بتراب محمد الذي في كل ذرة من ذراته قطرة دم مقدس من هريق في سبيل مجدكم وعزكم. ولا تهابوا شيئاً ولا تفرضوا الفروض الوهمية أيها السياسيون
يا أسبوع الذكرى. . . ذكرى مطهر الأرض من قذارة الروح وقذارة العقل وقذارة الجسم. . . طهر نفوس المسلمين، واغسلها من الأوهام والضعف والجهالات!
أيقظهم من تحذير البنج المعطر الذي خدرتهم به سحرة أوربا لأجراء عملية جراحية عظيمة في جسومهم إلا وهي إخراج قلوبهم العظيمة الموروثة من ميراث محمد، ووضع قلوب صغيرة حقيرة منخوبة كافرة في موضوعها!
ارفع عن عيونهم المناظير الملونة المكيرة للتوافه التي تريهم الهر أسداً والحبل جبلاً، والجزية حرية، والرصاص ذهباً!
ارفعها عن عيونهم حتى لا يخدعوا بالعناوين التي لا وراء منها وحتى لا يخدعوا بالتراب المزوق عن اللباب المحض والصفو الخالص؟
يا أيتها الأيام السبعة كوني صلوات سبعاً تعيد إلى المسلمين الإيمان بأن منقذهم في السياسة والأخلاق والاقتصاد والحرب والسلم لن يكون غير محمد صاحب الذكرى ورجل الدنيا!
اجعلي صباحاتك السبع إشراقاً وضياء بالأمل والعمل
احفظي كل كلمة من كلمات الخطباء والشعراء والمنشدين من الضياع.
سجليها في أعصاب سامعيها حتى تستحيل إلى أجراس دائمة الرنة والدعوة إلى استحضار صوت النبي في الضمائر آمراً: جاهدوا وادأبوا وكابدوا، صارخاً: طالبوا وغالبوا وصابروا ورابطوا.
كونوا نظيفي المادة قديسي الروح. كونوا علماء وجنوداً وتجاراً. كونوا تجاراً. . . كونوا تجاراً. . . ولا تعبدوا الوظائف الحكومية التي يؤكل فيها الخبز بدموع الذلة وخيانة الواجب
أيها السادة:
يجب ألا يتغير المثل الأعلى الذي وضعه مولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لأنه المثل الأعلى للإنسانية. ويجب أن يفهم كل مسلم ذلك حتى يعرف قيمته ومركزه في البشرية، كما يجب على أرباب الأديان الأخرى أن يرحبوا بعودة المسلمين لدينهم، فمن الخير لأرباب الأديان أن يعود قلب المسلم كما كان في عهده الأول
وليعلموا يقيناً أن المسلم بغير دينه يكون وحشياً متعصياً مؤذياً أنانياً قذراً. . . أما بدينه فهو إنسان رحيم قائم على نفسه وعلى الناس بالحق والعدل كما أوصاه الله
وليعلم المسلم أن أول ما يبدأ به في الإصلاح: البيت. البيت
عبد النعم خلاف