الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 255/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 255/الكتب

بتاريخ: 23 - 05 - 1938


عصفور من الشرق

تأليف الأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الأستاذ محمود الخفيف

هذه نفحة أخرى لصاحب أهل الكهف وشهرزاد، نفحة فيها روح توفيق الحكيم وفن توفيق الحكيم، حتى لو أن الكتاب الذي يزجيها إليك كان غفلاً من أسم مؤلفه ما استطعت أن ترده إلا إليه. . .

ولقد انتظرت هذا الكتاب منذ أن أعلن عنه، فلما تفضل مؤلفه الفاضل بإرساله إلي أقبلت عليه فتلوته، ولشد ما رغبت لو أنه طال عما هو عليه ليطول بذلك استمتاعي بتلك اللذة الساحرة التي لن يظفر بها المرء إلا في أمثال تلك القصة من الآثار الفنية العالية؛ وها أنا ذا أقدم الكتاب لقراء الرسالة لا أبتغي إلا أن أدلهم على متعة قوية أحب لهم - من فرط ما أعجبت بها - أن يشاركوني فيها

ولو كان المجال هنا مجال نقد يبسط موضوع الكتاب ويعرض لدقائق الفن فيه، لخشية أن يحملني إعجابي به على الغلو، ولكني الآن بنجوة من هذا، فقصاراى هنا الوصف المحدود؛ ذلك أن الكتاب كغيره من الآثار القيمة جدير أن يفرد له صفحات أوسع من هذا المجال الذي تتركه لي الرسالة اليوم. . .

قوة هذا الكتاب وخطره منحصران فيما يتضمنه من فكرة تستطيع أن تجملها في مسألة هي روحية: الشرق ومادية الغرب؛ أما القصة في ذاتها فبسيطة سهلة لا التواء فيها ولا جلبة ولا حركات مثيرة ولا مفاجآت قوية ولا غير هذه من ضروب الاستهواء التي نصادفها في بعض القصص؛ ولقد جاءت تلك البساطة نوعاً من الجمال في الكتاب فكان كآثار راسين سحره في عمق الفكرة ودقة الفن لا في مثيرات الحكاية

هذا محسن فتى شرقي يقيم في باريس ويعرفه الناس بأنه (عصفور من الشرق) تقع عيناه على حسناء من حسان باريس فتستأثر بلبه ويأخذ حسنها بمجامع قلبه؛ فإذا به يعيش بخياله الشرقي وروحانيته الشرقية عيشة أهل الجنة على هذه الأرض؛ وتتهيأ له سبل الاتص بالفتاة ومجالستها ومصاحبتها حتى يصطدم بالواقع ويرى أنها لا تحبه وأنها تخدعه فيكون موقفه - كما صوره المؤلف - موقف آدم عند خروجه من الجنة. . .

تلك هي الحادثة، وهي كما ترى بسيطة غاية البساطة، ولكنها على بساطتها مليئة بألوان السحر والفن فوصف شعور محسن في حبه يبهج النفس ويملأها نشوة، وبراعة الحوار والمناجاة هي السحر بعينه، بله دقة الفن وحسن سبكه

على أن خطر الكتاب وقيمته - كما قدمت - في فكرته؛ ولقد استطاع قصاصنا الكبير أن يدلي بآراءه على ألسنة أشخاص صورهم أحسن تصوير وأبرعه، فهذا هو محسن وهذا هو أندريه الغربي الذي لا يعرف خيالاً ولا شعراً؛ والذي يعتبر نقيضاً لمحسن يهزأ به وبأحلامه يسوقهما المؤلف لترى فيهما روح الشرقي وروح الغربي، ثم هذا إيفانو فيتش الروسي العامل الذي يجري المؤلف على لسانه الجزء الأكبر من فلسفته، ثم هذه هي سوزان الباريسية الحسناء التي أحبها محسن إلى غير هؤلاء من الأشخاص الذين صورهم المؤلف أصدق تصوير وأجمله؛ ولو أني أردت أن أدلك على مواضع الجمال والقوة فيما جرى على ألسنتهم من آراء لدللتك على الكتاب كله، ولست - شهد الله - أغلو في ذلك ولا أسرف؛ ولم يقتصر المؤلف الفاضل في تصوير حياة الغرب على الآراء التي أجراها على ألسنة هؤلاء الأشخاص، بل لقد صور لنا عدة مناظر من الحياة ذاتها كالأسرة التي كان يعيش فيها قبل انتقاله إلى المنزل وكالمسرح وحفلات الموسيقى وغيرها فأحاط كتابه بجو بديع؛ ولم يكن - شأنه في ذلك شأن الفنان المتمكن من فنه - يعرض من الصور والمناظر إلا ما يستلزمه إبراز الفكرة الفلسفية التي تدور عليها القصة؛ أنظر إلى الولد الصغير يوحي إليه بمحاربة البوش والشيخ المسن يبدي تذمره واستيائه إذ يعرض لحال العمال وربة الأسرة تخشى أن يرحل محسن إلى جهة أخرى ولا مرتزق لهم إلا ما يدفع من أجر تر صوراً قوية أخاذة لحياة الغرب يقدمها المؤلف بين يدي فكرته في مهارة تحملك على الإعجاب. . .

ولقد كان في التعبير عن فكرته بهذه الطريقة موفقاً جهد التوفيق، فليس أوقع من الإيحاء والإشارة في تصوير المعنى الفلسفي المراد؛ تجد ذلك في الشعر وهو الصور القائمة على اللفظ وتجده في التصوير بالألوان، وتجده في الموسيقى؛ ولعمري ما يستطيع عالم من علماء النفس مهما اتسعت آفاق علمه أن (يصور) لك الأناني أو المخاتل أو الغيران أو الجشع أو اللئيم أو غير هؤلاء كما يستطيع أن يفعل رجل الفن، فرسم الصور الحية عمل ذلك الفنان ومنها تأخذ من المعاني ما شئت وشتان بين الصورة الحية والمعاني المجردة؛ وهل قامت عظمة شكسبير ودكنز وجوته وهوجو وراسين وأضرابهم إلا على ذلك الفن الذي يخلق من المعاني الحياة؟ وإنك لتستطيع أن ترد نجاح توفيق الحكيم ونباهة شأنه إلى هذه الموهبة الفنية أكثر مما ترده إلى أي شيء آخر

وأحب أن أشير هنا أن شخصية محسن هي كما يدرك القارئ دون عناء شخصية المؤلف نفسه تتجلى هنا كما تجلت في قصة (عودة الروح) كما أحب أن أشير على الرغم من ضيق المجال أن هذا الكتاب يقدم لنا دليلاً جديداً على أن فن توفيق الحكيم في القصة فن غير مقصور على ناحية معينة، ولقد قدم لنا في أهل الكهف وشهرزاد لونين من ألوان القصة المسرحية، ثم أرانا في عودة الروح لوناً من ألوان القصص غير المسرحية، وفي يوميات نائب في الأرياف أتى بنوع جديد يعد من القصص الإصلاحية، ثم هو في هذه القصة الأخيرة يأبى إلا أن يبتدع فهو كما ترى لا يتخصص في نوع واحد، ولكنه مع ذلك يسمو في كل نوع سمواً يشعرك في كل قصة كأنه أوقف على لونها فنه ومواهبه، ولقد يحسب بعض النقاد هذا مستحيلاً أو يعدونه نقصاً ويستشهدون على ذلك بأن كثيراً من كبار القصاصين يقتصر الواحد منهم على لون لا يحسن غيره، ولكن توفيق الحكيم يقيم الدليل القاطع على غلوهم في هذا الزعم، وماذا عسى أن يحول بينه وبين الإجادة في كل نوع والمسألة كلها مسألة قصص وهذا فن ركب في فطرته وإن له من قوة روحه وعمق فلسفته وسعة ثقافته لمعين لا ينضب؟ إننا لا يسعنا كما أسلفت في معرض آخر إلا أن نعتز بفن توفيق الحكيم كمظهر من مظاهر نهضتنا الثقافية وما أحوجنا إلى أمثاله في جميع نواحي حياتنا الأدبية والعلمية. أجل ما أحوجنا إلى أمثاله النابغين الذين يردون بالعمل الناضج الفذ على الذين يرموننا بالقصور ويمكرون علينا استعدادنا للتفوق. فليتقبل مني الأستاذ النابه هذه العجالة تجلة معجب وتحية صديق

الخفيف