مجلة الرسالة/العدد 254/مصطفى صادق الرافعي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 254 مصطفى صادق الرافعي [[مؤلف:|]] |
مات الرجل العظيم ← |
بتاريخ: 16 - 05 - 1938 |
بمناسبة ذكراه الأولى
- 2 -
كان الرافعي رحمه الله حجة في علوم اللسان، ثقةً في فنون الأدب، عليماً بأسرار اللغة، بصيراً بمواقع اللفظ، خبيراً بمواضع النقد، محيطاً بمذاهب الكلام. وقلما تتهيأ هذه الصفات لغير المطبوعين من الأدباء الذين تعاطوا مهنة التعليم فاستنزفوا أيامهم في درس القواعد وحفظ الشواهد وفقه النصوص بحكم الصنعة. فكنت إذا ذاكرته في شيء من دقائق النحو وخواص التركيب وفروق اللغات وجدته على ظهر لسانه كأنما انصرف من مراجعته لوقته. ودراسة الكاتب أو الشاعر للغته وفنه هي في رأيه ورأي الحق شرط لوجوده؛ فلا يكون النبوغ والأستاذية بدونه، ولا تجزي الطبيعة ولا المحاكاة عنه. وكان - شهد الله - فيما بينه وبين أخصائه يرفع أدب العقاد لوضوح هذه المزية في كل ضرب من ضروبه.
ولقد بلغ علم الرافعي بالعربية وآدابها حد الاجتهاد والرأي، فكان يقف في التعليل والاستنباط من ثقاتها ورواتها موقف الند؛ وقد يتعظم أحياناً فيقف منهم موقف الأستاذ. فهو في أدبه مطلق الحرية مستقل الإرادة في حدود المأثور من بيان العرب؛ ولكنه في فلسفته مقيد النظر مسير الفكر لنزوله في الرأي على حكم الدين.
على انك لا تعدو الصواب إذا قلت إن حرية أدبه أشبه بعبودية فكره، لأن مصدرهما وموردهما واحد هو القرآن. والقرآن من جهة الأدب غاية الجمال، ومن جهة الفضيلة غاية الخير، ومن جهة الفلسفة غاية الحق. لذلك كان قوله في القديم والجديد قول العربي الذي يؤمن أن لغته التي تكلم بها الله نامية بذاتها لأنها حية، ومتطورة بطبعها لأنها قوية؛ وكان قوله في المرأة والرجل قول المسلم الذي يعتقد أن دين الله حق لا يبطله قدم، وأن شرعه قانون لا يعطله شهوة. وما دام العرب أحياء فأدبهم متجدد، وما دام القرآن خالداً فدينهم قائم.
على هذين القطبين كانت تدور فلسفة الرافعي الأدبية والاجتماعية. ولعلي تساهلت إذ قلت فلسفة الرافعي، فليس للرافعي فلسفة؛ إنما هي فلسفة القرآن وأدبه قام منها مقام ابن رشد من أرسطو: يقرر ويحرر ويدافع من غير أن يكون لمنطقه حكم ولا لرأيه اعتراض.
كان الرافعي في بعض حالاته يفتن في الصورة التي يرسمها افتنان المصور الخيالي.
يضيف إليها من المشاهد ما لا تقره الحقيقة، ويضع فيها من الألوان ما لا تعرفه الطبيعة. وقصده القاصد من ذلك أن يريك قدرة ذوقه على الملاءمة، وقوة ذهنه على التوليد، ويعطيك للشيء أو للشخص صورة إذا لم تكن كانت، فهي التي ينبغي أن تكون. فهو إذا كتب في موضوعٍ ما سمح لعاطفته أن تجر، ولهواه أن يدفع، ولفنه أن يزخرف، ثم يستخدم براعته في التدليل على صحة العاطفة ونزاهة الهوى وصدق الأداء، فيكون من امتزاج الخيال بالواقع، واشتباه الغلو بالقصد، والتباس البهرج بالصحيح صورة غامضة الدلالة، خافتة الروح، ولكنها بديعة الإطار، رائعة اللون، منمنمة الخطوط؛ وذلك أكثر ما تراه في حديث القمر والسحاب الأحمر، والمساكين، وأوراق الورد. أما إذا اتصل فنه بشعوره، وافتنانه بطبعه، ورأيه باعتقاده. فانك ترى الإشراق في اللفظ، والجلال في المعنى، والسمو في الروح، والإعجاز في الصنعة. وهنالك تجد الرافعي في جلوة الإلهام التي تشدهه هو نفسه فيقول لي ولمن يأنس إليه: إن حالا تشبه حالات الوحي تقوم به في بعض ساعات الليل حين يكتب في إعجاز القرآن أو في الدفاع عن أدبه، فلا يكون فيما ينشئ إلا وسيطاً عن قوة من وراء الغيب. وأكثر ما وقع له ذلك في كتابيه (تحت راية القرآن) و (وحي القلم). وكان من شذوذ العبقرية في الرافعي اعتداده بنفسه إلى حد الصلف، واعتقاده بالغيبيات إلى حد السذاجة. وله في ذلك حوادث وأحاديث ربما عرض لها صديقنا العريان في ترجمته له.
والرافعي بعد ذلك كله كاتب من الطراز الأول قلما يجود بمثله هذا العصر المجنون الذي يتبجح بالسرعة ويريد أن يأخذ حظه الضروري من المعرفة مختصراً في رسالة، أو معتصراً في مقالة.
هذه كلمة مجملة كتبناها عفو الخاطر وفيض الذاكرة في ناحية من نواحي أدب الرافعي، اعتمدنا فيها على خلاصه وحديثه وقراءته؛ أما دراسة الشرح والتفصيل، والنقد والتمثيل، والدعوى والدليل، فتلك لها طريقة غير هذه الطريقة، ومناسبة غير هذه المناسبة. ولعلني أرجع إلى الرافعي في عدد قريب فأعلن ما أفضى به إلي من الرأي الحق في خصميه طه والعقاد.
احمد حسن الزيات