مجلة الرسالة/العدد 254/فلسفة التربية
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 254 فلسفة التربية [[مؤلف:|]] |
بين الرافعي والعقاد ← |
بتاريخ: 16 - 05 - 1938 |
تطبيقات على التربية في مصر
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 16 -
(كاد العلم أن يكون رسولا. .!)
شوقي
(إنما الصعوبة هي في إيجاد أولئك الأساتذة الأفاضل الذين
يستطيعون أن يحملوا الشعلة وان يناولوها غيرهم بجرأة
وحماس وإخلاص وإقدام.!)
(قد نبني المدارس وننفق في تشييدها وإعدادها ملايين
الجنيهات، ولكنا قد نعجز مع ذلك عن تكوين الرجل المنشود!)
(افضل النظم جدير بالفشل التام إذا لم يقم بتنفيذه من هو كفوء
له.!)
(من رسالة الدكتور جاكسون)
6 - المعلمون
رأيت في المقال السابق بعض أسباب فشل النظام في المعاهد الدراسية وتبينت أثراً لمسؤولية النظار والمدرسين في ذلك الشأن. وسترى اليوم ناحية أُخرى لها من الخطورة والطرافة في عملية التربية ما يجعلنا نهتم بها كل الاهتمام، ونصرح فيها بأشياء ما كنا لنذكرها لولا حرصنا على المصلحة العامة، ولولا أملنا في أن يقابل الجميع الحقائق - على مرارتها - بصدر رحب وتقدير نزيه:
1 - حقائق
قال المرحوم شوقي بك:
قم للمعلم وَفِّه ألتبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا!
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي ... يبني وينشئ أنفساً وعقولاً!
وأحسب أن معنى ذلك الشعر العذب واضح لا يحتاج إلى بيان، وصادق لا مبالغة فيه ولا تهويل! فترى هل يشعر المعلم عندنا بكل ما فيه من معنى؟ أو هل تساعده الظروف على أن يتمثل به ويحققه في حياته الخاصة والعامة؟ ذلك هو السؤال العسير الذي فكرت فيه كثيراً وتألمت من أجله طويلاً، ولست أدري متى يقف تفكيري فيه وألمي من أجله!!
إن المعلم أيها القارئ هو الطرف الأول في عملية التربية والتعليم، فإذا لم يستطع أداء عمله كما ينبغي فقل على الأمر السلام!
فترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف مجرد ناقل علم فحسب، ما أن يدخل الفصل حتى يتكلم ويتكلم، ويكتب بالحكك ويكتب، ثم يخرج ويدخل هكذا كل يوم ويخرج، دون أن تقوم بينه وبين الطلبة عاطفة من ود ولا وشيجة من إخاء؟؟
وترى هل يجوز أن يكون ذلك الطرف متبرما من عمله، ساخطً عليه، ثائراً على القدر الذي ابتلاه به، حاسداً لنظرائه في المهن الأُخرى حيث الراحة والجاه، والكسب الوافر والنعيم المرموق؟؟
وترى هل يجوز ألا يقبل ذلك الطرف على تلك المهنة الخطيرة إلا مضطراً لا ميل يدفعه، ولا غرام يحببه، بل هي الوظائف قد أقفلت بعد الجامعة أبوابها في وجهه، وهو (المعهد) قد فتحها ورحب به نائماً وآكلاً ودارساً دون ما أجر؟؟
وترى هل ينبغي أن يكون (بعض) هذا الطرف في المدرس الأهلية، وهي لا تقل عن مدارس الحكومة في عدد طلبتها، مجرد طالب عيش لا يفقه من أمور التربية شيئاً، ولا يدري عن طبيعة الطفل قليلا ولا كثيراً، ولا يستطيع إلا أن يرسل القول محفوظاً، فلا عقلا يكوّن، ولا شخصية يبني، ولا خلقاً يغرس، ولا نظاماً يصون؟؟
2 - أسباب: تلك حقائق مرة لها خطورتها الكبرى في عملية التربية كما قلنا، وهناك من الحقائق غيرها ملا يتسع المجال لذكره أو ما لا يليق به أن يذكر!!، ولما كانت التربية الصحيحة شيئاً آخر غير حشو العقول بالكتابة والقول، وتنفير القلوب بالجمود واليأس، وتشويه الشخصية بالجهل والحمق، فمن الخير أن نتلمس بعض أسباب هذه الحقائق علنا نستطيع أن نجد لها علاجاً.
أتعرف ماذا هو عمل المعلم في المدارس الثانوية على وجه الخصوص؟ أتعرف أنه دروس تُحضّر، وحصص تُدرّس، وكراسات تصحّح، ثم أعمال إدارية أو كتابية بغيضة يملأ فيها الأستاذ الكشوف بالأرقام المجموعة وغير المجموعة، ثم ينقلها إلى كشف آخر وكشوف أُخرى، ثم يبعث بها ثلاث مرات في العام إلى أولياء الأمور كما لو كان كاتباً يسجل ويجمع ويكتب كل شيء حتى العنوان؟؟
ثم أتعلم ما هو قدره في عين الدولة والمجتمع بعد كل هذا العناء الذي يبذلهُ ليل نهار، ومع خطورة وشرف المهنة التي ينسب إليها؟؟
لعلك تدري أن قدره في عين المجتمع دون رجل العدالة أو رجل الطب بكثير؟ هذا ينطق بالحق وذاك يشفي الجسم، أما هو فماذا يفعل غير إلقاء الدروس؟ وعسير عليك جداً أن تفهم الناس أن التعليم قد يغنينا عن القاضي أو الطبيب دون أن يغني كل من هذين عن الأستاذ. وعسير عليك جداً أن تدخل في الأذهان أن صاحبنا يبني وينشئ انفساً وعقولاً كما قال أمير الشعراء.
ثم لعلك تدري أن قدره في عين الدولة كان وما يزال دون قدر رجال القضاء وغير رجال القضاء؟ وأين المسكين من أولئك وهؤلاء؟ ألم يخطب يوماً أحد الزعماء ليعبر عن جماعة المعلمين بعثار الجد وسوء الفعل كما لو كانوا جماعة من العمال أو الزراع؟ أولم يرتفع صوت المعلمين مدوياً طالباً المساواة والإنصاف دون أن تستجيب له الحكومات بتلك السرعة وهذه الأريحية التي تستجيب بهما لرجال القضاء أو النيابة أو المحاماة؟ أولا ينظر المعلم اليوم إلى زميله بالأمس في الدراسة الثانوية فيجده في مجال القضاء يقفز القفزات، أو في ميدان الجيش يتناول (العلاوات)، وهو هو في فناء المدرسة تمضي عليه السنون في الدرجة الواحدة، وتتسع الهوة المالية والاجتماعية بينه وبين زميله هذين، إلى حد يخيل إليه أن لا عدل هناك ولا مساواة، مع أنه يبذل من الجهد، ويؤدي من الواجب، ما لا يقل قيمة وضرورة وقدراً عن أعمال هذين الندين العزيزين؟
قل ما شئت وما لم تشأ في ذنب المعلم وتقصيره، ولكنك لن تستطيع أن تقول أنه فوق البشر فلا يؤذيه الظلم ولا يميته الإغفال. . .! ثم أنت تنشد بعد ذلك للتعليم إصلاحاً! أفلا يليق بك أن تتدبر هذا الأمر بنتائجه البعيدة والقريبة قبل كل شيء وبعد كل شئ؟
محمد حسن ظاظا
مدرس الفلسفة بالمدارس الأميرية