الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 254/بين الأديب وبين الناس

مجلة الرسالة/العدد 254/بين الأديب وبين الناس

مجلة الرسالة - العدد 254
بين الأديب وبين الناس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 05 - 1938


للآنسة فلك طرزي

(مهداة إلى الأستاذ توفيق الحكيم)

سيدي الفاضل صاحب الرسالة الغراء:

القطعة الأدبية التي أبعث بها اليوم إليك لتنشر على صفحات مجلتك الراقية، استوحيتها من السلسلة الأدبية الأولى التي ينشرها تباعاً الأستاذ توفيق الحكيم في الرسالة تحت عنوان (من برجنا العاجي).

وقد كتبتها يوم كنت في حلوان أنعم بجو هذه المدينة الساحرة وأنفس عن صدري بنشق أرج النسيم المعطر بعبير الزهر المتدلية عناقيده وباقاته في روضات حدائقها النضرة، فأشعر بأثر الصحة يتغلغل بين جوانب هذا الصدر قوياً حاراً يبعث فيه السرور والبهجة والنشاط. ولا غرو فان اسعد أيام حياتي الذاتية هي تلك التي قضيتها على شاطئ وحدة هذه المدينة الفاتنة تحت بواسق نخيلها وفي ظل صمتها وسكونها.

كتبتها يومئذ ثم حالت شواغلي دون نشرها فطاويتها بين أوراقي إلى أن عثرت عليها اليوم بينما كنت اقلب في هذه الأوراق، فرأيت أن أرسلها إليك لتنشرها في (رسالة) الفن العالي والأدب الصادق الحي، ولو أن نشرها سيجيء متأخراً.

لو علم الناس كيف يعيش كل أديب أو مفكر في هذا الوجود، ولو علموا نوع الحياة التي يقضيها هذا الأديب أو ذاك المفكر مرتبكا حائراً بين متناقضات تتركب منها نفسه، لكفوا عن توجيه الملام إليه، ولا اقتصروا عن نعته بمختلف النعوت والصفات التي لا تنطبق البتة على حقيقته مكتفين بالإقرار أن نفسه غير نفوسهم، وان إحساسه لأبعد غوراً وأعمق نفاذاً من إحساسهم؛ ولكن يظهر أن الحياة التي منحهم إياها القدر حين شيعهم إلى باب الوجود قائلاً لهم: اذهبوا فان لكم الحياة ولكن. . . قد غشت أبصارهم بغشاوة الجهل فلم يدركوا مغزى (لكن) هذه التي يخفى باطنها وينم على معان كثيرة فاتهم إدراكها، كما فاتهم أيضاً رؤية البسمة الساخرة التي ارتسمت على ثغرة الهازئ المتهكم ساعة شيعهم إلى باب الوجود! فما علموا أن القدر منحهم أشياء وسلبهم شيئاً هو أعظم أشياء الدنيا وأغلاها قيمة! وما دروا أن القدر حرمهم نعمة لا يبلغ قمتها العالية سوى من ذاق مرارة الألم التي يولده الفكر والإحساس، ومن شعر بقلبه يهتز بين جنبيه مختلجاً حائراً بين إحساس وإحساس وبين فكرة وفكرة.

غير أن (لكن) ثابتة كما قلت يا سيدي قد نطق بها القدر أيضاً حين دفع بالأدباء والمفكرين إلى الوجود وأرفقها بصيحة ألقاها في وجوههم قائلاً: (اذهبوا فإن لكم الفكر ولكن. . .) فبلغت (لكن) هذه من شدة دويها مبلغاً جعلهم شديدي الإنصات إليها، حريصين على ألا يفوتهم سماع الصدى الهائل الذي ينبعث من انفجاره في أنفسهم، فيتفتح فيها من جراء هذا الانفجار منافذ وأبواب على العالم الغامض، لينطبع على صفحات هذه النفوس كل صورة ومشهد من صوره ومشاهده، وكل ما يحوي من حقائق مرة لاذعة، وخيالات جميلة عذاب.

ولا أخال الجماعة الذين أدركوا معنى (لكن) هذه وسيروا غورها العميق فعرفوا أن باطنها يحوي متعاً من الحياة قد سلبهم إياها الفكر والشعور ليمنحهم نعمة الشفاء ولذة الألم - قد يحسدون يوماً من الأيام بقية الناس الذين نعموا بالحياة وبكل ما تحويه الحياة وحرموا نعمة واحدة هي أسمى النعم وأرفع اللذات وأعنى بها نعمة الشعور الذي يولد التفكير الصحيح.

وإذا حملهم أحياناً فيض شعورهم لشدة ما ينتابهم من جرائه على حسد ألئك، فان هذا الحسد لا يدون إلا لحظات، ولا يطول أكثر من فترات. ذلك لأن (النوع) الرفيع العالي الذي يطبع سعادة جماعة الفكر والأدب بطابعه السحري، لا يستطيع غيرهم من الناس إدراك كنهه العميق وليس بوسعهم بلوغ قمته العليا.

وهل بإمكان البواعث التي يسعد بها الناس أن تبعث في نفس الأديب أو المفكر أية سعادة ما؟

وهل تسر هذا الأديب أو ذاك المفكر نفس المسرات التي يغتبط بها بقية الناس؟

قد تسعد الأديب ذات البواعث التي تسعد الناس، وقد تسره الأسباب التي تسرهم، غير أن ما يميزه عنهم ويجعل فروقاً بين سعادته وسعادتهم وسروره وسرورهم هو ما يمكن أن تخلفه هذه السعادة وذاك السرور في نفسه من عميق الأثر وما قد ينتج عن هذا الأثر من معان وفكر قد تحولها - أي السعادة والسرور - إلى عكسهما بعد أن يخضعهما الأديب إلى قوانين التحليل والتدقيق.

ولكم سخر أدباء من سعادة كثير من الناس وفضوا عليها شقاوتهم وحيرتهم! ولكم لام المفكرون ونقدوا أساليب ووسائل يستعين بها أشخاص لبلوغ أمنية السعادة المنشودة دون التفريق بين أسلوب والتدقيق بين وسيلة ووسيلة!

فإذا كان الفكر الإنساني قد حكم على كل مفكر وأديب أن يحبس نفسه في مقر ذاته العميق، وان يرسل نبرات صوته بين أرجاء السكون الذي يملأ هذا المقر، ثم لا يسمع غير صدى هذه النبرات!

وإذا كان قد قضى عليه أن يعيش في تلك العزلة الموحشة عزلة نفسه التي يحرسها (تنين) الوحدة، فعزاؤه عما فاته من متع الحياة انه يصغي في كل لحظة من لحظات عمره القصير بعدد السنين المديد بمقدار الدقائق إلى كل همسة من همسات ضميره ونفسه، وينصت إلى كل نغمة من نغمات الحياة التي لا ننفك أوتار قلبه تعزفها على قيثارة الضلوع.

فلنتغنَّ إذن بين جدران أنفسنا الشاهقة، ولنرسل ألحان هذه الأغاني موسيقى تحوي أنغام الحياة على أنواعها فتتحول عند سقوطها في القاع - قاع أنفسنا - صوتاً قوياً تنبعث منه نبرات الحياة حارة بليغة.

(دمشق)

فلك طرزي