الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 254/إلى الشباب

مجلة الرسالة/العدد 254/إلى الشباب

بتاريخ: 16 - 05 - 1938


بين جوته وإيكرمان

للأديب نصري عطا الله سوس

جينا - الثلاثاء 18 سبتمبر سنة 1823

في صباح الأمس وقبل أن يعود جوته إلى (فيمار) حظيت مرة أخرى بسعادة الحديث معه؛ وما قاله لي هذه المرة لا يثمن بالنسبة لي؛ ويجب على جميع شعراء الشباب الألمان أن يلموا به بداء بسؤالي عما إذا كنت قد كتبت شعراً هذا الصيف، فقلت كتبت بعض القصائد ولكن كان ينقصني على العموم المؤتاة الضرورية، فقال جوته: حذار من محاولة كتابة موضوع كبير. إن هذا هو ما يضر بأكبر العقول عندنا حتى أولئك الذين يمتازون بأذهان حادة ومجهودات جدية؛ ولقد عانيت شخصياً هذه العلة. وأني لأعرف كم من أضرار أوقعت بي. وأنوار شيء لم اتركه يسقط في البئر. ولو كتبت كل ما وددت أن اكتب ما كفاني مائة مجلد. يجب أن ينال الحاضر حقوقه. فالأفكار والاحساسات التي تجول في نفس الشاعر يوما بعد يوم يجب عليه أن يعبر عنها - ولكن إذا شغلت رأسك بموضوع كبير فلن تعيش أي فكرة أُخرى بجواره. كل الأفكار ترفض وتصد، حتى لذة الحياة نفسها تفقد وقتئذ. وأي مجهود عقلي تبذل كي تنظم وتلم شعث موضوع كبير! وأي قوة وأية طمأنينة تحتاج حتى يتسنى لك التعبير عنه في سلاسة لائقة! وإذا خانك توفيق في أي جزء منه فكل مجهودك ضائع. وإذا عالجت موضوعاً كبيراً ولم تكن على معرفة تامة بكل تفاصيله فسيكون إنتاجك ضعيفاً وتستهدف للملام. فبدلاً من المكافئة والسيادة جزاء على ما بذل من مجهود وتضحية لا يحظى الشاعر إلا بالانزعاج وشلل قواه العقلية. وهاك (آرنست هاجن) ذهن رائع. . . هل قرأت كتابه (الفرد وليسنا) هناك نبذ بلغت الغاية من السمو، نبذ فخمة ولكن الكتاب لا يرضى أحدا. وأنوار مجهود وقوى أنفقها الكاتب؟ لقد أنهك نفسه؟ انه يكتب مأساة الآن) وهنا اتسم جوته وسكت برهة فقلت: (إذا لم تخن الذاكرة، فأنت قد نصحت هاجن بمعالجة الموضوعات القصيرة) فقال جوته: (حقا! لقد فعلت، ولكن هل يتبع الناس نصائحنا نحن الشيوخ؟ كل يظن انه أدرى بنفسه ومن الآخرين. وهكذا يفشل البعض فشلاً نهائياً بينما يشرد البعض الأحياء في مهامه الزلل لمدة طويلة - لقد كان الماضي زمن العثار. . . ماضينا نحن الشيوخ هما فائدة أبحاثنا وأغلاطنا إذا سار الشباب في الطريق نفسه من أوله مرة ثانية؟ بهذا الطريق لا يمكن أن نتقدم أبدا. لقد كابدنا أغلاطنا لأننا لم نجد طريقاً واضح لمعالم نسير فيه؛ لكن ذلك الذي يأتي أخيرا ليس في حاجة لان يبحث ويدل. بل يجب أن يتبع تعليمات الشيوخ كي يسير في طريق السوي من المبدأ. ولا يكفي مطلقا أن تخطو خطوات قد تؤدي إلى غاية يوماً ما، بل يجب أن تجعل كل خطوة غاية في حد ذاتها).

(تأمل هذه الكلمات وتبصر كيف يعمل بها. أنوار لست قلقاً عليك، ولكن نصائحي ستساعدك على إنهاء مرحلة لا تلاءم مركزك الحالي. فإذا ما عالجت الموضوعات الصغيرة، وأدب ما كتبت ما يعرضه عليك (الحاضر) يوماً بعد يوم فستستنتج جيداً. وكل يوم سيجلب لك سعادة جديدة. ابعث بما تكتبه إلى المجلات ولكن لا ترضى أبدا بكتابة ما يفرضه عليك الآخرين اتبع وحي نفسك دائماً).

(إن في الدنيا من العظمة والفن والحياة والتنوع بحيث لا يمكنك أن تفقد روائع الشعر؛ ولكن الشعر يجب أن يكون له بواعث. . . أعني أن الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدوافع والمادة. أن الحادثة المعينة تصبح حادثة عالمية وشعرية. إذا ما تناولها الشاعر. كل قصائدي لها بواعث، وقد دعت أليها الحياة الحقيقية، ولها في ذلك أسس ثابتة. أنا لا أعير أي اهتمام للشعر الذي ينتزع من الهواء).

(إن أحداً لم يقول إن الحقيقة تنقصها روح الشعر، وهنا يفلت الشاعر مقدرته بتمكنه من فن تناول موضوع العادي من وجه نظر خاصة بحيث يصبح مهمّاً. الحقيقة يجب أن تمد الشاعر بالدافع إلى الموضوعات التي يود التعبير عنها. النواة ووظيفة الشاعر هي أن يخلق من هذه المواد وحدة جميلة حية. هل تعرف (فرنستيل)؟ انه يدعى شاعر الطبيعة. لقد كتب ارق ما يمكن من القصيد عن زراعة حشيشة الدينار. لقد اقترحت عليه أن يؤلف أواني على السنة أرباب المهن المختلفة، خصوصاً النساج. وإني لواثق من انه سيجيد، لأنه عاش بين هؤلاء منذ صباه. ولذا كان سيد مادته. تلك هي ميزة الموضوعات الصغيرة. كل ما عليك أن تختار ما تعرفه جيداً. ولكن هذا لا يتأتى في الموضوعات الصغيرة، في هذه الحالة لا يمكنك أن تتفادى أي جزء. وكل ما يتعلق بتوحيد مادة الموضوع وما يدخل ضمن عناصره يجب أن يصور بدقة. . . وفي زمن الصبا ينظر الشباب إلى الأشياء من ناحية واحدة؛ والموضوع الكبير يتطلب إمكان النظر من نواحي عدة. . . من هنا الفشل!)

وأخبرت جوته أني كنت أفكر في كتابة قصيدة طويلة عن الفصول اضمنها الكلام عن أعمال وملاهي الطبقات كلها فقال: (هذا في قلب الموضوع. قد توفق في بعض الأجزاء، ولكن قد تخفق في البعض الآخر عندما تكتب عما لم تبحثه أو تخبره جيداً، وقد تكتب عن (السماك) جيدا، ولكن قد يخونك الحظ في الكتابة عن (الصياد). وإذا أخفقت في أي جزء فالنتيجة هي الفشل مهما أجدت في بعض الأجزاء. وبدا تكون قد أنتجت إنتاجا مبتوراً. اكتب كل جزء على حدة واقتصر على ما تعرفه. ومن المؤكد انك ستنتج ما يرضي. وأحذرك خاصة من (الابتكارات) لأنه قد ترمي إلى التعبير عن فكرة خاصة عن العالم، والشباب قلما يكون من النضج بحيث يوفق في هذا. فضلا عن أن الشخصيات والآراء التي يضمنها ابتكاراته تنفصل عن عقل الشاعر وتحرمه من (الامتلاء) اللازم لكتاباته المستقبلة. وأخيراً، كم من الزمن يفقدني الابتكار والترتيب والتركيب. هذا ما لا يمدحنا أحد عليه، حتى ولو كتبتا بنجاح. ولكن في حالة ما يعطي الشاعر المادة تكون الأمور احسن واسهل. فإذا ما مد الشاعر بالشخصيات والحقائق يكون عمله أن ينفخ الروح فيها فقط، فيحتفظ بامتلائه ولا يفقد كثيراً من الزمن والمجهود. إني أنصح دائما باختيار الموضوعات التي طرقت قبلاً. فكم من (أفيجينيا) كتبت ولكن كلهن مختلفات. كل شاعر يتناول القصة حسب طريقته. عليك أن تترك التفكير في الموضوعات الكبيرة الآن. لقد آن لك أن تعيش ذلك الطور البهج من الحياة، ولأجل أن تصل إلى هذا فعالج الموضوعات الصغيرة. . .)

. . . وكنا نسير في الغرفة جيئة وذهوبا ولم يسعني إلا التسليم شاعرا بصواب كل كلمة. ومع كل خطوة كنت أحس نفسي أسعد وانشط. ويجب أن اعترف أن الخطط الكبيرة واللاتي لم يمكني أن اخلص إلى فكرة واضحة بصددها لم تكن بالعبء الهين عليّ.

إني لأشعر أن كلمات جوته زادتني حكمة سنوات، وعرفت ما في مقابلة الأستاذ الحق من التوفيق والخير.

نصري عطا الله غطاس