مجلة الرسالة/العدد 253/جولة في معرض الفنون
→ إيضاح وتعليق | مجلة الرسالة - العدد 253 جولة في معرض الفنون [[مؤلف:|]] |
بعد عام ← |
بتاريخ: 09 - 05 - 1938 |
بقلم نصري عطا الله سوس
يقول بول فاليري في معرض الكلام عن قصيدته (المقبرة البحرية) إنه ليس من حق الشاعر أن يفرض على قارئه معنى خاصاً لقصيدته ولا أن يفسرها له. فالشاعر قد فسر شعوره في أبياته فما معنى تفسير هذه الأبيات بعد ذلك؟ إن التفسير لا يكون إلا في حالة العجز والقصور. فلكل قارئ أن يستخلص ما يشاء إلا إذا كان ممن عناهم المتنبي بقوله: -
ومن يك ذا فم مرٍ مَرِيض ... يجد مُراً به الماء الزُّلالا
فالشاعر قيثارة تستنطقها الطبيعة ألحاناً تختلف النفوس في تلقي موحياتها وتفسير معانيها؛ والنفس الإنسانية أوسع وأرحب من أن يحدها تفسير. وما يجهله الإنسان من نفسه ومما حوله أكثر مما يعرفه معرفة اليقين. والفن رسالة توحيها النفس الباطنة أكثر مما توحيها النفس الواعية. والنفس الباطنة كثيراً ما تلغز وترمز دون أن توضح
وكان الموسيقي الكبير (رافيل) يقول: ليس هناك (فنون) بل هناك (فن)، فن واحد يبدو طوراً ألحاناً خالصة، وطوراً كلمات منظومة، وطوراً خطوطاً وألواناً، صور مختلفة تعبر فيها الروح القوية عن مشاعرها واحساساتها - ومن هنا ترى أن ما قاله بول فاليري عن الشاعر ينطبق تماماً على الفنان. ولما كنت أعتقد أن الفن تعبير قبل كل شيء، فقد ذهبت إلى معرض الصور وأنا أقول لنفسي: (انتبه. تبين أي الصور ستوجه نفسك إلى نواحي جديدة في الحياة لم تسعفك تجاربك بتمليها؟ وأي الصور ستجدد وتعمق إحساساتك بما عرفته وحبرته. .)
يتفاوت مستوى الإجادة الفنية بين العارضين تفاوتاً كبيراً؛ فإلى جانب الصور القوية الناضجة نجد صوراً تذكرنا بما كنا نلقاه في كتب المطالعة الابتدائية من صور؛ ولا ندري كيف تسربت هذه إلى المعرض. ونسبة العارضين من الطلبة كبيرة جداً. وقد راعنا فقدان الروح الفنية بينهم تماماً. والفنان كالشاعر يولد ولا يصنع. ومدارس هؤلاء تعلمهم إتقان الرسم والتعبير، ولكن التعبير عن ماذا؟؟ هذا ما نحب أن نسأل عنه فناني الجيل المقبل. . وأغلب من حادثتهم من العارضين لا يهتمون إلا بطريقتهم في رسم الصورة. وهذا قصور بارز، ولعله أكبر آفة تحل ببعض الفنانين المعروفين. فكل يريد أن يكون زعيم مدرس وصاحب طريقة خاصة يعرف بها وتنسب إليه. وهذا جميل ومعقول بشرط أن يكون تلقائياً ويتطلبه مثل الفنان الأعلى ومنزعه. وأما أن يركب الفنان الشطط لا لغاية أكثر من الشهرة والاختلاف عن غيره، فهذا ما لا يرضاه الفن. فلست أدري ما الذي يدعو الأستاذ راغب عياد مثلاً إلى أن يقصر فنه على دراسة الأسواق وما شاكلها من نواحي الحياة المصرية التي سيأتي عليها الزمن بعد حين. قيل لنا إن عياداً يود أن يخلق فناً محلياً. وهذه رغبة نبيلة دون شك، ولكن الفن المحلي الذي يموت لتوه إذا نقل إلى بلد آخر، غير جدير باسم الفن. ومحلية الفن لا تتنافى مع عالميته. فالفن الإغريقي القديم له مميزات خاصة (وكذا المصري القديم والإيطالي في عهد النهضة) تمليها البيئة التي نشأ فيها، ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون فناً عالمياً يدرس ويستوحي في كل مكان
ويظهر أننا نخطئ فهم كلمة (محلي) كثيراً. فالفنان عالمي الذات بطبعه وروحه؛ والفن القوي يحقق شرطين: (1) القدرة على البقاء والاستمرار (2) العالمية. ولكن عندما يعمد الفنان إلى رسم رقصات روحه وهمسات نفسه مضطر إلى أن يختار لها أشكالاً وألواناً مما حوله أي من البيئة التي يعيش فيها. وكذا (روح العصر) تدفع الفنان إلى أن يبرز ويؤكد بعض نواحي الحياة ويترك بعضها. فهو يبين لنا تفاعله مع عصره بتوجيه الأنظار إلى ما هو خافٍ، وتشنيع ما هو مستهجن، وتمجيد كل ما هو نبيل، وهكذا. ولكن عناصر الحياة هي هي في كل زمان ومكان. والبيئة والعصر عاملان لا يكتمل فن بدونهما، ولكن جوهر الفن واحد في كل زمان ومكان
وحسبنا بعد ذلك أن نذكر أهم الفنانين:
لا مراء في أن الأستاذ محمود بك سعيد أبرز العارضين وأعمقهم شاعرية وإحساساً، وفنه يفرض نفسه عليك فرضاً: فن ممتلئ قوة ودماً، ورسوم تكاد من فرط حيويتها تترك لوحاتها وتشارك الأحياء حركة وكلاماً. والفنان يشعرك أنه يحب الحياة حباً لا نهاية له، ويمجد جمالها تمجيداً تقصر عنه الكلمات وتقربه الألوان إلى النفس بعض الشيء، وألوانه القوية تقول لك إنه يعتقد أن الحياة جميلة غنية محببة عميقة لا تعرف نفسه سبيلاً إلى الارتواء والاكتفاء مهما عب من معينها. وتجتمع عند الأستاذ سعيد خواص قلما تجتمع عند غيره، أهمها التوفيق بين التعبير العاطفي القوي مع محاكاة الطبيعة. وفنه خير مثال للتعريف القائل بأن الفن هو الطبيعة وشعور الفنان مجتمعين
ولا أعرف أقصداً أم صدفة جاءت لوحات السيدة إيمي نمر قبالة لوحات سعيد بك، وفن السيدة الفاضلة فن قوي ولكنه نقيض فن سعيد تماماً. ألوان سعيد تدل على الحيوية والفرج؛ أما فن السيدة إيمي فهو قاتم حزين، وألوانها توحي للنفس تأمل الفيلسوف الزاهد الذي يركز بصره على الناحية القاتمة من الحياة. وأي نفس لا تهش لمنظر البحر ويطربها انعكاس الألوان والأضواء على سطحه، وتسلسل أنغامه، وجيشان أمواجه وما ترسم على وجهه الريح من رموز وأسرار، ولكن الفنانة تتغاضى عن كل هذا وترسم لك (منظر تحت سطح البحر) وماذا تعرض عليك؟ عدة هياكل عظيمة (ومنظر طبيعي) يمثل الخريف بأقفاره وسهومه ووجومه، (والأمومة) يخالط الأم فيها البؤس والشقاء وعبء الأمومة مع ما فيها من حنان، (ومكتوفة اليدين) أبلغ ما يمثل لك الحيرة والبؤس والأسى وتفاهة الحياة مجتمعة - ولوحاتها تدل على أن طاقتها الفنية عميقة جداً
وفن السيدة برسيلون نوس (مصرية) فن ناضج، ويتمثل نضوجها في اختيار الألوان بحيث تعبر عن الجو العاطفي للصورة. وأحسن ما يبدو هذا في (الكهولة) حيث يغلب اللون الأصفر الممزوج بالأحمر؛ وفي (الرجل والزجاجة) - أما (رأس صعيدي) فتمثل روح الوجه القبلي تماماً، و (رأس امرأة مصرية) تكاد تنطق روعة وشباباً. وبالجملة فهي رسامة شاعرة
وقد قال لي بعض من يعرفون الأستاذ حسين محمد بدوي إنه لا يعرض (فناً) وإنما يعرض طريقته الخاصة. وعلى كل فرسومه تدل على مقدرة فائقة، ولكن هذا ليس كل شيء، فما فائدة مقدرة لا يعرف صاحبها كيف يستخدمها. وطريقة الأستاذ لا تتفق إلا وموضوعات وحالات نفسية معينة لو تعدتها إلى غيرها تضر ولا تنفع. ولو عني الأستاذ بهذه الناحية لكان فنه أوقع وأمتع وأبدع. وفن الأستاذ نجيب أسعد يغري بالمقارنة بفن الأستاذ حبيب جورجي؛ إلا أن الأخير أرحب روحاً وأعمق نفساً. فمناظر الكنائس والأديرة التي رسمها الأستاذ جورجي يبدو فيها جلال الدين وقداسته. أما تلك التي رسمها الأستاذ اسعد ففيها تبدو الوحشة والكآبة التي تخيم على مثل هذه الأماكن. وهناك رسوم تدل على تمكن أصحابها من الرسم، ولكن تنقصهم الرحابة الفنية. وأهم هؤلاء هم الأساتذة محمد محبوب، ولبيب أيوب (وحسبه (العود) فهي لا عيب فيها) ونعيم جاب الله، وإن كانت رسوم الأخير تدل على فهم تام بطبيعة الألوان وذوق دقيق في اختيارها
وهناك طبقة أخرى اكتفت بأن حاكت الطبيعة محاكاة تامة، ولوحاتهم تدل على تمكن من الصنعة ودقة ملاحظة، ولكن لا أثر للفن فيها، لأن الفن شيء والمحاكاة الفوتوغرافية شيء آخر. وأبرز هؤلاء الأساتذة إدموند صوصه، وهيدايت دانش وجورج صباغ
وعدد الصور الآدمية في المعرض كبير جداً. وهذه ناحية من نواحي الفن التي يقل فيها المجيدون، لأن الغرض منها ليس نقل الملامح فقط بل نفسية الشخص ومميزاته الخلقية. ولذا فالفنان مجبر على دراسة من يتصدى لرسم صورته دراسة نفسية عميقة قبل أن يتناول ريشته. ولهذه الكثرة تفسير نفسي مقبول، وهي أن النوازع النفسية التي تدفع الفنان إلى رسم الأشخاص تختلف، وبعض هذه الدوافع تنتج فناً أصيلاً، وبعضها ينتج فناً زائفاً - مثال هذه الأخيرة حب المدح وحب السيطرة والتملك. والفنان الأصيل يحلل مشاعره قبل أن يرسم
وهناك فنان شاب هو موريس فريد، ولفنه ميزات بارزة أهمها اندماجه النفساني في جو الموضوعات التي اختارها للوحاته، وألوانه
وخطوطه تمتازان ببساطة معبرة تلائم روح المناظر الطبيعية التي تمثل سلام الطبيعة وسكونها وصفاء شمس مصر
أما في فن النحت فمن أحسن العارضين الفنان الشاب فتحي محمود علي؛ وحسبه (الأمومة)، ففيها كل العناصر التي يتألف منها الفن الناضج؛ وأديب يس يوسف وإن كان فنه فجاً بعض الشيء إلا أنه يحتوي على العوامل التي تصلح أساساً متيناً لفن قوي ممتاز، والفنان الإيطالي فيتوريو روسين
وأرجو أن يتاح لي أن أنشر في الرسالة قريباً سلسلة من المقالات أبين فيها فلسفة الفن الحديث وأصوله ومذاهب الفنانين المختلفة ومميزات كل مدرسة، وأعرض للنواحي البارزة لفن كل أمة. ورغبتي المتواضعة هي أن يتاح لدارس الفن ومحبيه الاطلاع على هذه النواحي ودرسها فقد لاحظت أنها مجهولة تماماً بين كل من تعرفت إليهم. كما أن صور أغلبية من لا أعرفهم لا تدل على عرفانهم إياها نصري عطا الله سوس