مجلة الرسالة/العدد 252/من برجنا العاجي
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 252 من برجنا العاجي [[مؤلف:|]] |
رسالة الأديب إلى الحياة العربية ← |
بتاريخ: 02 - 05 - 1938 |
أذكر أني ما قرأت بعض فقرات من (يوليوس قيصر) لشكسبير، إلا غمرني حزن حقيقي. قصة أخرى أذكر أيضاً أنها كانت تترك في نفسي عين الأثر: هي رواية فرنسية تسمى (نابليون المسكين) لكاتب فرنسي يسمى (برنارزبمر) يصور فيها الإمبراطور سجيناً في جزيرة سانت هيلانة، وقد قصت أجنحة هذا النسر الهائل، وقلمت مخالبه، وأمسى مخلوقاً بائساً يهزأ به خادمه ويخفي عنه غليونه الذي يدخن فيه، ويهمله سجانه الإنجليزي ويدعه يتقلب طول الليل على مضجع الألم من مرض أضراسه، فلا يرحمه ولا يحضر له طبيباً ولا دواء، ويلقبه (بالدب) الذي وضع في أنفه حلقة من حديد ويسمح لبعض الزائرين من السائحين أن ينظروا إليه خلسة من ثقب باب حجرته، كأنه أسد هرم رابض في قفصه بحديقة الحيوان، هذا الذي كان وحده يقيم العروش ويثل العروش، ويدب بحذائه العسكري على أديم أوروبا فتهتز لمشيته التيجان على رؤوس الملوك. وكان يقول في صوته الحديدي: أنا وحدي (أوربا)، فتقول له أوروبا كلها: بل أنت (العالم). نعم لا شيء يؤلم نفسي مثل رؤية (العظيم) يرى سقوطه بعينيه، ومع ذلك لقد احتفظ هذا العظيم بكبريائه حتى النفس الأخير. فلقد كان يصر على أن يلقب بالامبراطور، ولقد خاطبه في ذلك مرة حارسه الإنجليزي قائلاً له: إمبراطور على من؟ وإمبراطور على ماذا؟ فلم يجد منه إلا تشبثاً. فأذعن رفقاً به أو سخرية منه، وترك له هذا اللقب الذي لا يغني ولا يفيد. ولبث هذا البطل المهجور يعيش في هذه الجزيرة المهجورة إلى أن مات، لا بين قصف المدافع ودوي الأبواق ودق الطبول وهتاف العالم من جميع الأركان، ولكن بين سكون النسيان، لا يشيع جثمانه العظيم غير خادم وسجان. يا لقسوة القدر! إن السماء لتنتقم أحياناً من العظيم الذي يتوهم أنه غير وجه العالم بأعماله، فتؤخر موته بضعة أيام عن الوقت الذي كان ينبغي فيه أن يموت، حتى يرى بعينيه قبل أن تغلقا أن العالم بخير لم يتغير فيه شيء بذهابه، ولم تخفت ضحكاته ولم تقف عجلاته برحيله.
توفيق الحكيم
آراء حرة
بين العقاد والراف للأستاذ سيد قطب
- 2 -
في كلمة الأستاذ سعيد العريان الأخيرة، وردت الجمل الآتية يصف نقد الرافعي لوحي الأربعين
(وكان نقداً مراً حامياً اجتمع فيه فن الرافعي، وثورة نفسه، وحدة طبعه، وحرارة بغضائه، ولكنه كان نقداً منزهاً عن العيب)
(أستطيع أن أقول ويقول معي كثير من أدباء العربية، إن هذه المقالة هي خير ما كتب الرافعي في نقد الشعر، وأقربها إلى المثال الصحيح)
(من قرأ (على السفود) فعابه على الرافعي وأنزله ما كان ينزله من نفسه، فليقرأ مقال الرافعي في نقد (وحي الأربعين) ليرى الرأي المجرد في شعر الأستاذ العقاد عن الرافعي)
وفي هذه الكلمة نفسها يقول عند رد العقاد:
(قرأت مقالة العقاد في الرد على الرافعي، فوجدت أسلوباً في الرد لم أكن أنتظره، يؤلم ولا يفحم، ويقابل الجرح بالجرح لا بالعلاج
ويسمى الرد كله: (طعن العقاد على الرافعي وشتيمته إياه)
ويقول عن المقالة كلها: (وكان أكثرها سباباً وشتيمة، وأقلها في الرد والدفاع). . . الخ. . . الخ
هذا ما يراه الأستاذ سعيد في نقد الرافعي ورد العقاد. فمن شاء أن يعرف ما هو نقد الرافعي، فليسمع نماذج منه تعطي صورة كاملة عنه، لأنها منتقاة من نواح مختلفة فيه، لتمثل (فنونه) كلها. وإني لأستميح قراء الرسالة العذر، حين أستبيح أسماعهم وأذواقهم في سماعها، وقد اختصرت على أقلها إفحاشاً وهاهي ذي:
1 - (وما يخيل إلي في شعر العقاد إلا أنه مستنقع اخضرت ضفتاه، فهذا الجمال القليل فيه لا يكشف عن سر ورونق وإمتاع، وإنما يزيد في القبح والشنعة. وما هو المستنقع إلا البعوض الملاريا والطحلب والوخم والعفن. ولو أنك كنت شاعراً دقيق الحس، مصفى الذوق، عالي البيان، ثم قرأت شعر العقاد لرأيت من ألفاظه ألفاظاً تلسع الذوق لسع البعوض، ومن شعره أبياتاً تنهق نهيق الضفادع التي هي حمير الماء
2 - يقول العقاد عن حبيبته:
فيك مني ومن الناس ومن ... كل موجود وموعود تؤام
فلا يرى الرافعي في هذا البيت الفريد إلا أن يقول:
(قلنا فإن (من كل موجود) البق والقمل والنمل والخنفساء والوباء والطاعون والهيضة وزيت الخروع والملح الإنجليزي إلى واوات من مثلها لا تعد، أفيكون من هذا كله في حبيب إلا على مذهب العقاد في ذوقه ولغته وفلسفته؟)
3 - يقول العقاد في طرافة ودعابة عن حسان شاطئ استانلي
ألقى لهن بقوسه ... قزح وأدبر وانصرف
فلبسن من أسلابه ... شتى المطارف والطرف
فلا يجد الرافعي في هذه الطرافة إلا أن يتلاعب بالألفاظ فيقول:
(فقزح لا يلقي قوسه أبداً، إذ لا يفصل منه. قال في اللسان (لا يفصل قزح من قوس) فإذا امتنع فكيف يقال: (أدبر وانصرف)
أما قزح العقاد، فلعله الخواجة قزح المالطي، مراقب المجلس البلدي على شاطئ استانلي الذي قيلت فيه القصيدة
4 - ويسمع العقاد، صيحات الاستنكار للهو الشواطئ وما
تعرض من جمال، فيصيح صيحة الفنان الحي المعجب
بالحيوية والجمال:
عيد الشباب ولا كلا ... م ولا ملام ولا خرف
فإذا الرافعي يقول:
(إن غاية الغايات في إحسان الظن بأدب العقاد أن تقول إن في هذا البيت غلطة مطبعية، وأن صوابه
عيد الشباب فلا كلا ... م ولا ملام (بلا قرف)!
هذه نماذج منوعة من ذلك النقد الذي ينال الرضاء والاستحسان من أصدقاء الرافعي، ومن أبناء مدرسته، ويعتبر (نقداً منزهاً عن العيب)!
وهذا هو الكلام الذي يعتبر رد العقاد عليه (سباباً وشتيمة)!
ومثل هذه الآراء الغريبة تثير الحنق وتستفز النفوس، ومع هذا فسأحاول أن أناقشها بهدوء، وأن أخلص منها إلى البرهنة على ما سبق أن أسلفته من رأي في الرافعي
فأما المثال الأول فما أدري ماذا أسميه إن لم أقل عنه: (إنه إفحاش) أو إنه (سباب وشتائم) بتعبير أصدقاء الرافعي وهو وأمثاله يؤلف نصف النقد في أوائله وأوسطه وأواخره، فلنمر عليه مر الكرام
وأما المثال الثاني فهو مصداق رأيي في أن الرافعي أديب الذهن لا أديب الطبع، وأنه تنقصه (العقيدة) التي هي وليدة الطبع.
أو. لا. فأي (طبع) سليم يتجه إلى تفسير بيت عزلي في معرض إعجاب شاعر بحبيبته، واستغراق في شمول شخصيتها بأن (كل موجود) هو البق والقمل والنمل. . . الخ)؟ غافلاً عما في هذا الإحساس من (حياة) و (استكناه) لجوهر الشخصية، و (خيال بارع) تثيره طبيعة فنية، فيرى في هذه المرأة من متنوع الصفات ومختلف النزعات وشتى المزايا، عالماً كاملاً من كل موجود وموعود؟
أحد أمرين:
إما أن الرافعي ضيق الإحساس مغلق الطبع بحيث لا يلتفت إلى مثل هذه اللفتات الغنية بالشعور
وإما أنه يدرك هذا الجمال، ولكنه يتلاعب بالصور الذهنية وحدها، غافلاً عما أحسه وأدركه
وهو في الحالة الأولى مسلوب (الطبع)، وفي الثانية مسلوب (العقيدة). فأيهما يختار له جماعة الأصدقاء؟
والمثال الثالث فيه تلاعب وروغان، وهو في هذه المرة (التلاعب) أخس من السابقة. ففي الأولى كان تلاعباً بصور ذهنية، وهو هنا تلاعب ألفاظ لغوية!
أولاً فمن ذا الذي يغفل عن طرافة هذا (الخيال) الذي يتصور (قزحاً) ملقياً بقوسه لهؤلاء الحسان، وهن يتناهبن هذه الأسلاب، بينما هو مدبر منصرف، مغلوب على أمره، لا يستطيع النصفة ممن غلب جمالهن جماله! ألا تستحق مثل هذه الطرافة، ومثل تلك الحيوية من الناقد إلا أن يذهب إلى القاموس أو اللسان، ينظر هنالك هل يفصل قوس عن قزح أولا يفصل؟ ثم يكمل الكلام بتهكم بارد لا يرد على الفطرة المستقيمة في معرض هذا الجمال!
أهذا هو النقد الذي هو (أقرب إلى المثال الصحيح)؟
وما قلته في المثال الثاني يقال بنصه هنا، فلترجع إليه جماعة الأصدقاء!
والمثال الرابع يغنينا الرافعي عن الحديث فيه، فهو لم يزد على أن أورد البيت، ثم استغلق دون استيعاب ما يعبر عنه من روح الفنان الحي، الموكل بالجمال حيثما وجد وكيفما كان، الهازئ بخرف التقاليد، وقيود العرف، ولم يجد ما يقوله إلا (بلا قرف) وهو قول لا تعليق لنا عليه
هذه نماذج يبين أولها شتائم الرافعي وسبابه؛ ويمثل الثاني تلاعبه بالصور الذهنية، واستغلاق طبعه دون تملي الإحساس الفني؛ ويمثل الثالث تلاعبه بالألفاظ اللغوية، والوقوف بها دون ما تشعه في الخيال من صور طريفة؛ ويمثل الرابع هروبه من مواجهة النقد الصحيح إلى المراوغة وكسب الموقف - في رأيه - بنكتة أو تهكم أو شتيمة.
وليس في نقده كله إلا أمثلة لتلك النماذج، وهي كلها لا تستدعي رداً من المنقود. وإني لأعجب كيف رد العقاد على مثل هذا، وكيف عني أن يناقش ما لا يناقش من الآراء والتحايلات
لقد قلت في كلمة سابقة: إني أنا - لا العقاد - كنت مستعداً أن أثور وأن أستهزئ، لو تناول متناول أدبي بمثل هذا الضيق في الفهم والاستغلاق في الشعور، أو بمثل تلك التلاعبات الذهنية واللغوية، واللفات البهلوانية
وإنني لأكرر ما قلته، وأعجب من بعض أصدقاء الرافعي: كيف كانوا يريدون من العقاد أن يقابل مثل هذا بالنقاش الهادئ (ويرد الجرح بالعلاج لا بالجرح). ولماذا أيها المنصفون يطلب من العقاد وحده أن يلزم جانب النقد الأدبي مع من لا يلتزمه
وبعد فقد اخترت أن أثبت رأيي في الرافعي من نقده الذي استحق إعجاب أصدقائه، وفي مرة أخرى سأفصل هذا الرأي معززاً بإنتاجه الطبيعي الخالص من فورة الخصومة وحدة النزال (حلوان)
سيد قطب