مجلة الرسالة/العدد 252/التاريخ في سير أبطاله
→ أهمية الترجمة وحركاتها في التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 252 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
هل ينبغي أن تزاحم المرأة الرجل؟ ← |
بتاريخ: 02 - 05 - 1938 |
إبراهام لنكولن
هدية الاحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 10 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وما كان دوجلاس ليعجز عن أن يبرر عمله أو أن يتلمس له الأوجه القانونية؛ وإذا عجز دوجلاس عن هذا فمن يقدر عليه؟ وإنه لأعلم الناس يومئذ بألاعيب السياسة وأضاليلها، يصدر في ذلك عن طبع وعن خبرة ويسدد الرمية في لباقة وخفة. .
ولم يكن اهتمام دوجلاس بتلك المسألة إلا جزءاً من خطته التي رسمها وأراد أن يدلف بها إلى الغاية التي لا يرى دونها غاية؛ وهو يتحرق شوقاً إليها ويتقطع تلهفاً عليها؛ ولا يفتأ يتبين السبيل المؤدية مهما كانت وعورة مسالكها. والآن تسنح الفرصة فيقتنصها وهو باقتناص الفرص جد خبير. موه على الناس أنه يمكن لسلطان الأمة إذ يرد مسألة العبيد إلى رأي الأمة، وأنه بذلك يجعل كلمة الشعب هي العليا لا كلمة مجلس الاتحاد. وهو إنما يرمي إلى كسب قلوب أهل الجنوب الذين كانوا من أول الأمر ترون أن يكون لكل ولاية من الحرية ما لا تتلاشى معه شخصيتها في الاتحاد، والذين يريدون أن يتخلصوا اليوم من قيود اتفاق ميسوري. . .
وإننا لنلمح فيما فعل دوجلاس مهارة الرمية، كما نلمح فيما يقول حذق السياسي وفكره وسعة حيلته. وكم في الحياة له من نظراء ممن يأخذون في سياستهم بآراء أستاذهم الأكبر مكيافلي لا يحيدون عنها ولا يفوتهم شيء من تفاصيلها ودقائقها كأنما عاد أستاذهم نفسه يصرفهم ويوجههم؛ ولقد برع دوجلاس في هذا المضمار فإنه ليجعل الغاية هي عنده كل شيء ولا عبرة بعد ذلك بالوسيلة. وهل كان مثله من السذاجة والبساطة بحيث يتمسك بشرف الوسيلة ويرعى جانب الفضيلة فيؤدي بذلك إلى فوات الفرص وضياع الغاية؟ كلا إنما كان هو أقوى من أن يتطرق إليه مثل هذا الضعف وأذكى من أن تنطلي عليه مثل هذه البلاهة
ولكن لنكولن لا يعرف المراوغة؛ ولا يدري ما الالتواء. فهل له طاقة بمناضلة ذلك القزم الماكر المخاتل؟ وماذا يجدي على ابراهام طوله والمسألة اليوم مسألة مدافعة ومقارعة، وليست هي مسألة مكافحة ومصارعة، كما كان الحال يوم لف ذراعه الطويلة حول أرمسترنج وألقي به على الأرض؟. . . إن الفرق بين الرجلين هو الفرق بي الطبيعتين، فهذا ماكر محتال غامض كالبحر، وذلك بسيط ساذج صريح كوجه السهل. . .
خطا دوجلاس خطوته وحمل المجلس على الأخذ برأيه فترك لهل كنساس أن يختاروا ما تكون عليه ولا يتهم إذا ضمت إلى الاتحاد؛ وجرى الانتخاب التمثيلي فيها على أساس التسليم بمبدأ العبيد أو رفضه؛ ولو أنه تركت الولاية وشأنها حقاً لهان خطب ذلك الانتخاب ولمر دون أن يعقب ضرراً، ولكن كثيرين من أنصار التحرير ومن المنادين بمقاومة انتشار العبيد من أهل الشمال هاجروا إلى تلك الولاية ليشتركوا في الانتخاب، كما هاجر إليها كذلك عدد عظيم من أهل الجنوب وفي أيديهم أسلحتهم. والتقى الفريقان هناك وبينهما من البغضاء والشحناء ما أوقد نار الحرب وذلك أن أهل الجنوب قد حالوا بقوة السلاح بين خصومهم وبين ما يخوله لهم القانون من التصويت ففاز بالغلبة رجل من أنصار اعتناق العبيد؛ ولكن أهل الولاية ومناصريهم من أهل الشمال احتشدوا في مكان آخر واختاروا رجلاً من دعاة التحرير، فقامت لذلك الحرب بين الحزبين ولبثت نارها مشبوبة بينهما زهاء عامين. وفطن الناس إلى أن هذه الحرب إنما هي مقدمة الحرب الأهلية الكبرى
انتهت في تلك الأثناء مدة مجلس الشيوخ، وانصرف الأعضاء إلى البلاد يدعون لأنفسهم من جديد؛ وكان دوجلاس نائباً عن شيكاغو في شمال الينوس، فذهب إلى هناك يدعو لنفسه، ولكن هاله ما رآه من انصراف الناس عنه، فهو أينما تولى يجد من الناس نفوراً وإعراضاً بل إنهم كانوا يجبهونه بالسوء من القول ويظهرون له ما باتوا يضمرونه من حقد ومقت.
وإنه ليجزع ويستولي عليه الحنق إذ يرى الرايات في شيكاغو منكسة في هامات السفن، ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي وهو يحاول أن يخطب الناس وهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، حتى يرغموه على الرحيل وقد امتلأ قلبه عليهم غيظاً كما امتلأ منهم كمداً.
وينتهي به المسير إلى سبرنجفيلد ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سيأفل نجمه وسيبعد ما بينه وبين غايته. وكانت المدينة يوم وصوله إليها تموج بالناس إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة. ولقد خيل إليه أن له في وجود هذا الجمع الحاشد فرصة. . .
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء؛ بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه هو الحزب الجمهوري؛ وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل المدينة ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، ولم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس؛ وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة
وقف دوجلاس يخطب، وكان وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم، مارداً جباراً برأسه الضخم ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهاؤه الذي لن ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف، والتوت مذاهب الكلام
ولقد كان دوجلارس في الحق من أقوى الرجال في عصره إن لم يكن أشد منهم جميعاً قوة، وكان الحزب الديموقراطي يباهي به ويفخر وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد خطا الأربعين بعد. . .
أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب: وكانت العبارات معسولة والحجج تلقى في روع السامعين أن لا سبيل إلى رفضها إذ لم يكن ثمة من سبيل إلى نقضها
وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عساه أن يقول في الرد على هذا الداهية، ووقف إن الإحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج، ومن وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه ثلاث ساعات وبعض الساعة ومنافسه يعض على نواجذه وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغاية. . .
بدأ خطابه بقوله أنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فإنه ليسره أن يرده لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلاً: أيها السادة! إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أن أحق الحق وحدي فأعفي بذلك القاضي دوجلارس ضرورة تلك التصحيحات العنيفة). . . وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل مع شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطراباً ولا اعوجاجاً، يهدر كالسيل لا يصرفه عائق عن وجهه، وكأنما كان ينطق عن وحي، فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام ولا رأوه يبين مثل هذه الابانة؛ وهو في حركاته وإشاراته ونبرات صوته موفق توفيقاً ما شهد الناس مثله من قبل
وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدراً وأكثر محبة عما كان ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. . ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتاً، ولم يبق في قلوب الناس من أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة، إذ لم يترك له ابراهام دليلاً إلا سفهه وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء. وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلاً جديداً في تاريخ حياته وقطع شوطاً كبيراً عوض عليه ما فات من ركود. . .
ومهما يكن من تفوقه ونباهة شأنه في هذه الخطبة، فإننا نستطيع أن نعود بالسبب إلى حد كبير - على صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والنفاذ إلى جوهره ثم الاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ومع توخي الصدق والأمانة كما يفعل حين ينهض في المحكمة للدفاع، هذا إلى لقانه عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي كأنه الميزان الدقيق يحس قبل أن يدرك أن هذا عليه مسحة الشك وذلك عليه نور اليقين
قال يرد على دوجلاس قوله أن من الامتهان لأهل كنسسكا أن نعتبرهم غير جديرين بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، (إني أسلم أن المهاجر إلى لنساس وبزاسكا جدير أن يحكم نفسه ولكني أنكر عليه الحق في أن يحكم شخصا آخر بغير رضاء ذلك الشخص) ولقد كانت عبارته هذه كالرمية القاتلة فهي تهدم ما بنى دوجلاس من أساسه ولا تدع لمبدأ سلطة الأمة الذي نادى به أي قيمة. وقال في رده على دوجلاس إذ يدعي أن الحكومة إنما أقيمت لصالح البيض لا لصالح الزنوج (إني أوافق على ذلك من حيث الواقع في ذاته، ولكني أرى في هذه الملاحظة التي ساقها القاضي دوجلاس معنى هو عندي مفتاح تلك الغلطة الكبرى (إن كان ثمة من غلطة كهذه) التي فعلها في قرار نبراسكا؛ إنها تدل على أن القاضي لا يقوم في ذهنه مؤثر حي يريه أن الزنجي إنما هو إنسان وعلى ذلك فليست تقوم في رأسه فكرة عن ضرورة وجود العنصر الخلقي عند التشريع له). . .
وبعد الخطبة وقف دوجلاس ليرد ولكن مذاهب القول التوت عليه وخانته بديهته فجعل بينه وبين الناس موعداً في المساء لا يخلفه، وحل المساء وارتقب الناس ولكنهم لم يجدوا الخطيب. . .
وبعد ذلك باثني عشر يوماً ذهب لنكولن ليخطب في بلدة أخرى هي بيوريا؛ ولقد تبعه دوجلاس إلى هناك لعله أن يظفر هذه المرة. ولم يرتجل لنكولن كما ارتجل في سير نجفيلد بل قرأ من أوراق؛ ويشهد الذين سمعوه في المرتين أنه كان يوم ارتجل أعظم شأناً وأبعد أثراً؛ أجل كانت خطبته الثانية أحسن بناء وأحكم نسجاً وأقوى منطقاً ولكنها لم تكن أكثر سحراً. . .
ولقد بدأ دوجلاس في بيوريا كما بدأ في سير نجفيلد واستمر يخطب ساعات ثلاثاً، ورد لنكولن في المساء فاستغرق خطابه مثل هذا الزمن. ومما جاء فيه قوله عن قرار بنراسكا (إن هذا القرار يعلن الحياد ولكنه يضمر حماسة حقيقية لانتشار العبيد لا يسعني إلا أن أمقتها، لما تنطوي عليه العبودية في ذاتها من جور قبيح، وأمقتها لأنها تسلب نظامنا الجمهوري الذي نسوقه للعالم مثالاً من أثره الحق في الدنيا، وأمقتها على الأخص لأنها تدفع كثيراً من رجالنا الأخيار إلى حرب صريحة ضد المبادئ الأساسية للحرية المدنية، وهم يوجهون انتقادهم إلى إعلان الاستقلال ويصرون على اعتقادهم أنه ليس ثمت من مبدأ حق تقوم عليه أعمالنا وأنه ليس إلا المصلحة الشخصية) وقال في معرض آخر: (إن مبدأ حكم الشعب نفسه مبدأ صحيح؛ هو مبدأ صحيح دون أدنى شك وهو إلى الأبد صحيح. . ولكن إذا كان الزنجي رجلاً، ألسنا - بقدر ما في المبدأ من صحة - نرى أننا إذا حرمناه من أن يحكم نفسه إنما نحطم بذلك مبدأ سيادة الشعب؟ حينما يحكم الرجل الأبيض نفسه يكون ذلك مبدأ سيادة الشعب، ولكنه حينما يحكم نفسه ويحكم في الوقت ذاته رجلاً آخر فإن ذلك يكون أكثر من سيادة الشعب فهو الاستبداد. . . ليس في الناس من يتوفر لديه الخير ليحكم غيره دون رضاء ذلك الغير، هذا هو المبدأ الأول والمرفأ الأمين للنظام الجمهوري الأميركي).
ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته وهو الذي نشأ كما رأينا عصامياً في أوسع معنى لتلك الكلمة! إنما يصد الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة مثله في ذلك مثل غيره من أعلام البشر وقادة القافلة في طريق الإنسانية. . .
يتبع
الخفيف