الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 250/رسالة الشعر

مجلة الرسالة/العدد 250/رسالة الشعر

بتاريخ: 18 - 04 - 1938


الباحث

للأستاذ عبد الرحمن شكري

المقدمة

قد صور كثير من المفكرين والشعراء حياة الإنسان عصراً بعد عصر كأنها حياة إنسان واحد أو كأنها بحث متصل دهراً بعد دهر، وهذا البحث هو ما يزكون به حياة الإنسان وما يعذرون به شقاءها وآلامها ويأملون آمالاً كباراً من وراء تقلب الإنسانية في بحث الحياة. ومن هذه الآمال رجاؤهم أن يعم الشعور بوحدة الإنسانية على اختلاف الأجناس والشعوب والمطامع والضرورات والمطالب والنزعات النفسية، ويأملون إذا عم هذا الشعور بوحدة الإنسانية أن يقلل الإحساس العام بوحدتها من البغضاء والشرور والحروب والآلام والجشع، وأن يؤدي إلى التعاون على الحياة بدل التقاتل عليها. وهذا البحث الإنساني المستفيض دهراً بعد دهر للحياة وما يدعوا إليه من الإحساس بكل شعور وكل حالة من الحالات كي يعم مبدأ وحدة الإنسانية هو الذي دعا إلى تخيل إنسان يعيش دهراً بعد دهر في كل حال وفي كل مكان حتى يملأ العطف قلبه ويرى أن نشدان الحق غاية الحياة، وعلى فرض أن هذا الأمل الكبير في أن يعم الإحساس بوحدة الإنسانية حتى تنمحي شرور الجشع في التقاتل عليها لن يتحقق فأن بقاءه كمثل أعلى مما يخالط مرارة الحياة بحلاوة منه

وعلى فرض أن المثل الأعلى لا يكون في تحقيق وحدة الإنسانية؛ ففي القصيدة مثل آخر وهو أن نشدان الحق هو الشعلة المقدسة التي ينبغي أن يرعاها الفرد، وأن ترعاها الإنسانية عامة

القصيدة

بينما كنتُ سائراً لاح شيخ ... ذو سكون ونظرة هوجاء

ويكاد الضياء ينفذ منه ... فهو بين الأنام صنْوُ الهواء

باحث في السماء يطلب شيئاً ... غاب عن عين غيره في السماء

وهو فينا جزء من الزمن الأ ... ول ذكرى لسالف الآباء وجهه رائع كوجه أبي الهو ... ل رأى ما مضى على الغبراء

قلت يا شيخ ما دهاك وما شأ ... نك بين الأموات والأحياء

قال من يدرس الحياة طويلاً ... لَخَلِيقٌ بضَحْكةِ الجهلاء

كنت والكون في الطفولة أغدو ... وشباب الأيام في الغُلواء

وصرعت المنون حتى لأنسا ... نِيَ طولُ الحياةِ حُكْمَ الفناء

دُوَلٌ قد أتت وأخرى تَقَضَّتْ ... وبقائي بين الأنام بقائي

وشهدتُ الصروف من قبل عادٍ ... والمنايا تَجُرٌّ ذيل العَفَاء

أنْشُدُ الحقَّ لست ألْوِى إلى البا ... طل فالحق يُطَّبى بالرجاء

عشت دهري بالبحث والأمل الحل ... وولولاه لم أَفُرْ بالنجاء

من سهام المنون إنَّ سهام ال ... موت فينا كثيرة الإِصماء

هِمْتُ يوماً من قريتي أنشد الح ... ق لعلي أراه في الدهماء

عِفْتُ بيتي وبلدتي وهجرت ال ... أهل أبغي ريَّ النفوس الظِماء

ظمأ النفس مثله ظمأ الجس ... م وداء النفوس كالأدواء

زعم الناس بي الجنونَ وخالوا ... طالب الحق أخرق الأحياء

كلما لاح شامخ قلت إن ال ... حق يغدو مِنْ خَلْفِهِ بإزائي

ورَعَيْتُ الظلماء عَلِّى أراه ... خارجاً من سرائر الظلماء

وجزعت الصحراء أرجو لقاء ... منه يُرجَى في وحدة الصحراء

ولكم غُصْتُ في العُّبَابِ عليه ... إنما الدر منه في الأحشاء

وأَثَرْتُ الأصداء أبغي جوابا ... لسؤالي في منطق الأصداء

وسألت الرياح عنه فَصُمَّتْ ... عن دعائي فلا تُجِيبُ دعائي

وسألت السماء تبرز وجها ... منه يَبْهَى في الأُفق جَمَّ الضياء

وأعارَتْنِيَ الطيورُ جناحا ... أرتجي منه لقية في الفضاء

طالما خاب ناشد الحق لك ... ن رجائي كما عهدتُ رجائي

قد يجيء الصباح منه بوجه ... طالما كان مُضْمَراً في الخفاء

أو تُبِينُ الأحلام منه ضياءً ... في سماء الأحلام مثل ذُكاء قد صحبت الأنام طُرًّا كأَني ... بينهم في تَنَوُّنِ الحرباء

كان لي نوح في السفينة خِدْناً ... فنجونَا من مُهْلِكِ الأَنْوَاءِ

وحباني أشور في نَيْنَوَى العُظْمَ ... ي بِسَيْبٍ من جوده وثناء

ورآني فرعون أُقْدِمُ في الجي ... ش مُشِيحاً ورافعاً للواء

وتَجَلَّى آمون في معبد الأق ... صر يقضي في شعبه بالقضاء

ولكم جُلْتُ في أثينا وأفلا ... طون يتلو فصاحة الحكماء

ورأيت الرومان في رومة العُظْ ... مَى عظام الأعمال والأهواء

وصحبت المسيح في القُدْسِ دهراً ... وحباني من روحه بالصفاء

وعبدت النيران قِدْماً ولكن ... قد سما بي الإِيمان للسمحاء

وحمدت النعيم والترفَ الوا ... فر قِدْماً في صحبة الخلفاء

وحَسَوْتُ النعيم والبؤس حتى ... لم أَدَعْ كأس لذة أو شقاء

وصحبت العبيد في ظُلُمَاتِ الع ... يش حتى جُنِنْتُ بالضَّرَّاء

وأَلِمْتُ الآلام طُرَّا وَلُقِّي ... تُ عذاباً أُتيح للتعساء

وصحبت الوحوش في البيد حتى ... أَنِسَتْ بي الوحوش في البيداء

وأرقت الدماء في الحرب حتى ... جُنَّ قلبي من نشوة الهيجاء

لم أدع خَطْرَةً أُتِيحَتْ ولا مع ... نى ولا فكرة من الآراء

أو شعورا أو هاجسا أو طموحا ... لا ولا مَشْهِداً تركتُ لرائي

أنشد الحق بالتقلب في العي ... ش وأبغي سريرة الأشياء

أنت أيضاً شهدت هذا جميعا ... غير أن لا تُعَدَّ في الفطناء

قال ما قال ثم غاب عن العين ... كما يخفت الصَّدَى في الهواء

عبد الرحمن شكري