مجلة الرسالة/العدد 250/القصص
→ في سكون الليل | مجلة الرسالة - العدد 250 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 18 - 04 - 1938 |
شارلس لام يروي عن شاكسبير
3 - قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
تتمة
والتفت الملك إلى فلوريزبل يقول: (مرحباً بك يا ابن اعز الأحباب وأوفى الأصدقاء! لقد فقدت محبة أبيك الذي أهفو إليه وأحن له، وبنفسي ما ألقى من الشوق للقائه! ولكن. . . بحسبي أن أنظر إليك فكأنما أنظر إليه. . . وبحسبي أن انظر إلى الأميرة الجميلة، فكأنما أنظر إلى هرميون!
- ومن هرميون يا مولاي؟
- هرميون! ويلاه عليّ! إنها زوجتي المغفور لها يا بني! لقد ماتت منذ ست عشرة سنة. . . وفقدت كل شئ بموتها! حتى ابنتي الوحيدة التي لا أعلم أين تعيش اليوم إن كانت ما تزال حية! آه يا هرميون! لشد ما تشبهك هذه الأميرة الصغيرة! ولشد ما تنطبق صورتها على صورتك في ذهني المعذب بذكراك! آه يا بُنيتي! أين أنت اليوم لأفتديك بملكي ونفسي!)
ثم انحدرت عبرات من عينِي الملك، فازدحمت الآلام في قلب الراعي، وتأكد أن ابنة الملك هي برديتا الحبيبة التي وجدها في الغابة؛ ثم جعل يستعرض براهينه، فذكر الجواهر التي كانت الواحدة منها تشري له قطيعاً بأكمله، وأيقن أنها لا تكون إلا مما يقتني الملوك. . . ثم ذكر ما هو مكتوب في الورقة فلم يزده إلا ثقة في حقيقة ما حدس. . .
وتقدم الراعي إلى الملك واستأذنه في الحديث فأذن له، فأخذ يسرد قصة برديتا كيف تركها رجل في ظل دوحة على الشاطئ البويهيمي، وكيف قتل الدب هذا الرجل واغتذى به، ثم كيف سمع الطفلة تبكي وتئن من البرد والجوع، وما كان من ذهابه بها إلى زوجته، وما وجده في ثيابها من الجواهر واللآلئ وغالي الحلي، وما وجده مكتوباً في ورقة مثبتة في صدرها بدبوس ولم يكد الشاعر يبرز الورقة وما تبقى معه من الجواهر، ولم يكد الملك ينظر إلى الجواهر في يديه، حتى اهرع إلى برديتا وهو يصيح: (ابنتي! ابنتي! تعالي يا برديتا! تعالي إلى صدر أبيك الشقي!) ثم ضمها إلى صدره، وراح ينشج نشيجاً مؤلماً ويذري عبراته الحرار على صدر الفتاة المشدوهة، التي تركت نفسها حائرة مستريبة في حضن الملك، وهي لا تفهم من هذا المشهد المؤثر شيئاً مطلقاً. . .
إذن قد عرف الملك جواهره التي أهداها بيده إلى هرميون ليلة زفافها! فهذه آية لا يسمو إليها الشك. . .
وكانت بولينا - زوجة أنتيجونوس حاضرة - وهي التي حملت برديتا من السجن لتلقي بها بين يدي الملك - فلما أخذت الورقة من يد الراعي لم تشك في أنها هي نفس الورقة التي كتبها زوجها وثبتها بيده في ثوب الطفلة. . . فكانت هذه آية أخرى. وبالرغم مما علمت بولينا من أمر زوجها، وما صنع به الدب، فإنها فرحت بعودة برديتا فرحاً أنساها أشجانها
وآية ثالثة. . . فقد ذكر الملك الشطر الأخير من نبوءة دلفي (سيعيش الملك بلا وارث إن لم تعد إليه طفلته المفقودة!) فأيقن أنها هي، وأن أبوللو لم يكذب!
وفي هذه الثورة الهائلة من الوجد الجارف، والذكريات المؤلمة، تقدمت بولينا إلى الملك ببشرى رائعة!
ذلك أنها كانت قد حرست على تخليد ذكرى هرميون، فكلفت المثال الصناع الشهير جوليو رومانو بنحت تمثال للملكة المغفور لها، فجاء التمثال طبقاً لهرميون الخالدة، ثم توسلت إلى الملك أن يتفضل فيذهب إلى منزلها، ليرى أن تمثال هرميون هو صورة حقيقية لبرديتا!
وذهب الجميع إلى بيت بولينا. . . وأزاحت بولينا الستار فبدا التمثال الرائع. . . ووقف الملك مسبوهاً أمامه يتأمله. . .
وذكر الملك أن هرميون تبدو في التمثال اكبر من سنها الحقيقية، فلفتته بولينا إلى أن المثال قد أضاف إلى عمر هرميون هذه الست عشرة سنة!
ولاحظت بولينا ما انتاب الملك من الحزن، فاستأذنته في إسدال الستار على التمثال. . . وهنا - يدور هذا الحديث الباكي:
- لا. . . لا تستدلي الستار يا بولينا! ليتني مت قبل هذا!! أنظر يا كاميللو؟! ألا ترى إليه كأنه يتنفس يا صديقي؟! ألا ترى إلى عينيها كأنما تتحركان وترنوان؟!. . . لا تسدلي الستار يا بولينا! إني أحس كأن عشرين سنة تتكلم من فم هذا التمثال! أوه - ها هي ذي الحياة تدب فيه! فيا للناحت الذي يضع الأنفاس في الصخر؟! ليهزأ بي من يهزأ، فلا بد أن أقبل الشفتين الحمراوين!
- مولاي. . . حاشاك يا مولاي. . . إن الزيت ما يزال غضّاً وقد تعلق الحمرة بفمك! فلأسدل الستار، فهذا خير!
- لا. . . ليست هذه السنون العشرون!)
وبينما كان الملك يتكلم، كانت برديتا الحزينة ساجدة أمام التمثال تبكي وتصلي، وتتمتم باسم أمها الميتة
وتوسلت بولينا إلى الملك مرة ثالثة في أن تنزل الستار على التمثال رحمة به. . . (وإلا، فأذن لي يا مولاي أن آمر التمثال فيتحرك ويتكلم، فإني قد عُلمتُ من السحر ما أصنع به هذا!)
وعجب الملك، ثم أذن لها. . . (لأني مستعد أن أرى بعيني وأن اسمع بأذني!)
وهتفت بولينا بأسماء كثيرة، فسمع الواقفون موسيقى عذبة تنسكب في آذانهم وتدب منها في أرواحهم، ثم أشارت إلى التمثال فنزل من فوق قاعدته المرمرية، وخطر نحو الملك، ثم ألقى ذراعيه على عنقه وقبله. . . وضمه في حنان وعطف، وتركه وتوجه نحو برديتا فاحتضنها كذلك، وطبع ألف قبلة على خديها وفمها وجبينها، ثم جعل يتكلم فيقول: آه يا ابنتي! الحمد للآلهة فقد عدت أخيراً إليّ!. . .)
مرحى بولينا مرحى!!!
لم يكن هذا تمثالا كما زعمت بولينا، بل كانت هرميون نفسها! إي والله! كانت هرميون لأنها لم تمت، كما زعمت بولينا للملك، لكي تنقذ الملكة من سجنها السحيق، ومن مأساتها الدامية
وعاشت هرميون مع بولينا طوال هذه السنين مفضلةً ألا تعود إلى الملك الذي تأكد من براءتها، لأنها لم تشأ أن تغفر له ما صنع بابنتها. . . فلما أعلن عن عودة برديتا، دبرت بولينا هذا اللقاء العجيب! وفزع بوليكسينز لما علم من هرب ولي عهده. وتأكد أن كاميللو أبق به إلى صقلية، فاقتص آثارهما - فيا لمحاسن الصدف؟!
لقد وصل بوليكسينز في هذه اللحظة السعيدة التي التقى فيها الأحباب، واطمأنت عندها القلوب!
وعرف أن برديتا لم تكن راعية شاءٍ ولا رفيقةُ بهم. . . وأنها ابنة صديقه الأعز ملك صقلية، فلم يكن أحب إلى نفسه من أن تكون زوجة ولى عهده.
دريني خشبه