مجلة الرسالة/العدد 25/وقفة على جسر إسماعيل
→ رمضان | مجلة الرسالة - العدد 25 وقفة على جسر إسماعيل [[مؤلف:|]] |
الأحنف بن قيس ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1933 |
للأستاذ عبد الحميد العبادي
إذا حق لبغداد أن تباهي في غابر أيامها بلدان العالم بجسرها الأكبر الذي كان معقوداً فوق دجلة، والذي يقول فيه علي بن الجهم:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وإذا كانت (فروق) عاصمة الترك من آل عثمان تذوب حياء وخجلا كلما أنشد قول شوقي في جسرها المتهدم المتساقط:
أمير المؤمنين رأيت جسرا ... أمر على الصراط ولا عليه
فمن حق القاهرة أن تسحب الذيل تيها وافتخارا بجسر إسماعيل فهو من غير شك أعظم من جسر بغداد وأروع، وهو لم يظفر بمثله بلد عظيم ظل متبوع مصر أحقابا طوالا.
أنشدتك الله أيها القارئ، إلا ما وقفت مرة بذلك الجسر في أي وقت شئت، وعلى أي حال كنت. قف بكرة، أو ضحى، أو أصيلا. قف في الهزيع الأول أو الثاني من الليل. قف صيفا، أو خريفا، أو شتاء، أو ربيعا. قف فتى مقتبل السن، أو كهلا قد توسط الحياة، أو شيخا نالت منه السنون، فأنا زعيم لك بأنك وأجد جمالا يملأ الجوارح، وحسنا يستغرق العقل. هنا الجمال! هنا الروعة! هنا الفتنة! هنا قطعة من رياض الجنة، أهبطها الله الأرض ثم أباحها الناس جميعا، يستمتع بها الغوي والمهتدي، والمقتصد في أمره، ومن كان على نفسه مسرفا. جسر رشيق التكوين، موزون الأبعاد، يساير الشمس من مشرقها إلى مغربها، والقمر من لدن بزوغه إلى أفوله. فان غابت الشمس وأبطأ القمر فللمدلج الساري عوض عنهما في السرج الوهاجة القائمة على جانبيه ترسل نورا هادئا لينا لا يفرق البصر ولا يحسره. حتى كأن الكواكب قد دنت فتدلت، فاختار منها مهندس ذلك الجسر ما شاء، ثم نظمه سمطين على حافتيه.
ثم هولا تهدأ عنه الرجل ساعة من ليل أو نهار. ففي النهار ترى أفواج الساعين في الأرض تتدافع فوقه بالمناكب والمراكب. فإذا تصرم النهار، وطفلت الشمس للغروب، رأيت المستروحين المتنزهين يغشونه زرافات ووحدانا، يلتمسون طيب الهواء، وجمال المنظر، وبهجة الخاطر. فإذا اختلط الظلام وأرخى الليل سدوله بات الجسر مسترادا ومذهب لقصاد الجزيرة من العابثين اللاهين، والعشاق المدلهين. سيماهم حديث مغمغم، ورؤوس متساندة وأصابع مشتبكة، وخطى مضطربة، قد لفهم الليل من نور القمر أو المصباح في مثل الكلة المخرمة تبين ما اشتملت عليه وتستره، وتخفيه وتظهره، على أن كلا آمن مطمئن كأن تلك الأسود المقعية عند طرفي الجسر أرصاد موكلة بحراسة الجسر ورواده.
ثم ارم ببصرك ذات اليمين وذات الشمال. فهذا النيل اكثر انهار الأرض بركة، وأحفلها بالذكرى، ينساب مترفقاً، يصافح متنه نسيم الشمال فيحيله وشياً منمنماً، وتصب عليه الشمس أشعتها الفضية والذهبية فتحيله تارة لجيناً سائلا وأخرى ذهبا مذابا. حتى إذا غربت الشمس وتألق الأفق وانعكست فيه صور النجوم والمصابيح التي تكتنفه من كل نواحيه، رأيت المجرة بين يديك، إن شئت خضتها خوضا، وان شئت لججت فيها تلجيجا.
وهذه الجزيرة تعترض الأفق الغربي بنخلها الذاهبة في السماء، وأشجارها الجاثمة على الأرض، وبنورها الضاحك وطيرها الصادح كأنما هي حجة بليغة على ما بقبالتها من معاهد وديار يهيب بها كل ما حولها أن (ليس هذا بعشك فادرجي) ومع ذلك فقد أعدت هذه الدار والمعاهد عدوى الحسن المجسم أمامها فأكسبتها رقة مدنية، وخلعت عليها مسحة من جمال تعرفها في الدار والديار.
كل جزء من أجزاء هذا المنظر الفخم يسر إليك نجوى، ويتلو عليك نبأ. فهذا الجسر يصور لك الحياة معرَّفة بين نكرتين، ومعلوما بين مجهولين. وهذه الخلائق التي تتصرف فوقه آناء الليل وأطراف النهار، عملا، واستراحة، ولهوا، كأني بها تحدثك بأن لا بأس علينا من أعمالنا متى صدرت مطاوعة لحاجات نفوسنا. وهذه الجزيرة التي يبدو لك بالنهار نخلها وشجرها عرائس تونق العين وتفتن القلب، فإذا أظلم الليل تراءت فوق الأفق شخوصا وأشباحا توحشك وتروعك، كأني بها تفضي إليك بان للظواهر دون الحقائق الأثر الأقوى في توجيه حكمنا على الأشياء. وهذه الثكنات الغاصة بالجند والملأى بالسلاح، ما عبرتها وما بيانها؟ استمع إليها تخبرك لمن كانت أمس، ولمن هي اليوم؟ وتنشدك قول شجرة عدي بن زيد:
رب ركب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا ... وكذاك الدهر حالا بعد حال أما النهر الدافق، والجو الرائق، والنجوم اللامعة، والشمس الساطعة، فتلك كلها السنة تهتف بأن العزة والدوام لله وحده.