مجلة الرسالة/العدد 25/العلوم
→ من الأدب الغربي | مجلة الرسالة - العدد 25 العلوم [[مؤلف:|]] |
العالم النسائي ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1933 |
هل للعلم قيود تفرضها الأخلاق؟
للدكتور هنسن أسقف درهام بإنجلترا
ترجمها بتصرف الدكتور أحمد زكي
(قيد الكاتب البحث العلمي في المقال السابق بقيود ثلاثة، أولها الواجب الذي تفرضه الأخلاق على دارسالعلم بحكم رجولته، وثانيها شروط تحتمها حقوق أولئك الذين تقع عليهم التجربة العلمية ذاتها، وثالثها أمور يفرضها نوع النتاج المقصود من التجربة)
القيد الاول
أما فيما يختص بالقيد الاول فلا حاجة بنا فيه الى الإفاضة الكثيرة. ان البحث العلمي يتطلب المزاج العلمي، وان يباشره الباحث بإخلاص للحقيقة، وولاء مطلق لها، وإغفال تام لصالح الباحث ونفعه الشخصي، واستسلام صريح للعمل المضني، واحتمال غير شاك للآلام في سبيل الطلب.
ورجل العلم لا يدعي حظا من العلم أكبر مما بين يديه، ولا يحاول أن يفيد من جهل الجمهور بعلمه ومن ثقة اعتاد أن يوليها العلماء ضرورة أو اختيارا، وهو لا يستخدم سلطان العلم فيما يحط ويزري، ويعمل كل هذا لأنه واجبه الواضح البين باعتباره إنسانا، ولأنه في علميته لا يستطيع أن يتنصل من إنسانيته، فمُثل الإنسان العالية هي مُثل العالِم العالية، والغايات النبيلة لهذا هي عينها غايات تلك، وموقف الاثنين جميعا من الواجب العام هو الذي حدّث عنه غلادستون حين قال: (أنا لا أبالي أن أسأل كم في الناس سَقَط، وكم فيهم من حُثالة هربت من الأخلاق فحاق بها ما حاق. . . وإ ' نما أنا اعتقد أن الواجب قوة حيّة، تصحو معنا في الصباح، وترقد معنا في الليل، وتصحب كل عمل يصدر في يقضتنا عن ذكائنا الإنساني. الواجب ظل يتبعنا إنما سرنا في مدارج الحياة، ولا يتركنا إلا عندما نغمض الجفن الى الأبد عن نور هذه الشمس)
إن إخضاع العلم للأخلاق بهذا المعنى مبدأ اعترفت به الدنيا قديما وآمنت عليه القرون. وضع أبقراط حلِفه المشهور وحدّد به مسلك الطبيب، واحترمته الأجيال على السواء، فاحترمه العرب المسلمون، واحترمه إليهود، واحترمه المسيحيون، ولا يزال الى يومنا هذا أول عمل يأتيه الطبيب قبل ممارسة طبه. وهو عهد لا يختص به علم الطب وحده، فكل شعبة من شعب العلم لا شك تقبل ما يتضمنه من هيمنة الخُلُق على جميع مناشط الإنسان.
القيد الثاني
الى هذا الحد ليس هناك خلاف، فليس من ينكر أن العلم لا يستطيع تحرير رجاله باعتبارهم أناسي من الشروط الأخلاقية التي تضبط سائر الرجال والتي بدونها تضيع ثقة الناس بالناس. ولكن عندما ننتقل من رجل العلم الى طريقته ندخل أرض الفتاوى والمحللات، وهي دائرة يكثر فيها الجدل ويطول الحجاج، وهنا قد يسرف العلم ويغلو كما أسرف الدين من قبله وغلا. فالعلم الحديث يشغل من الدنيا الحديثة مكانا أشبه بالمكان الذي كان يشغله الدين في العصور الوسطى من الدنيا القديمة، ففي تلك العصور كان التفكير الإنساني ينبت في أرض طينتها دينية، وهي اليوم طينة علمية. كان هوى الناس في الدين وكان تقديسهم لقساوسته، فصار اليوم هو أهم للعلم وتقديسهم لأساتذته. ومن طلب الدليل على ذلك وجده في الذوق العام، فعظات الأحبار لا تقرأ إلا قليلا، وكتب رجال العلم المبرزين تشترى بكثرة وتطلب بلهفة.
وهنا يتساءل المرء، وقد نزل الدين عن عرشه للعلم، أيخضع هذا المتوج الجديد للغواية كما خضع المتَّوج القديم، وهل يستدرج استدراجه ليؤول الى مثل مآله. ليس في التاريخ ما هو آلم من تاريخ (الافتاء) في النصرانية، ولا أزرى منه ولا أكثر تحييرا وإرباكا، وهو مع ذلك موضوع للمتأمل خصيب. انه مليء بمناقضات من الجسامة بحيث لا يتصورها العقل. أنحى القديس بول على الفتوى التي تقول (دعونا نفعل الشر ليكون منه الخير) ومع هذا لم يؤثر هذا الأنحاء شيئا في أفعال القسيسين ولا في نظريات الأخلاقيين، وكان كل سؤالهم (في أي الظروف والى أي حد يجوز لنا فعل الشر ليحصل منه الخير؟)
هل يكون من العلماء يسوعيون كما كان من أهل الدين يسوعيون؟ وهل يكون لهؤلاء ناقد ساخر في القرن العشرين كما كان لأولئك في شخص بلايز باسكال في القرن السابع عشر؟ كان من مبادئهم أن لا عهد لهرطيق، ولا ذمام لزنديق، وان الكذب والتزييف مباحان في سبيل حماية العقيدة وانتشارها، وان التعذيب والقتل مشروعان في صالح الكنيسة، هذه ومبادئ أخرى قبلها رجال مسيحيون استحلوا بها أشنع الجرائم التي سجلها مداد واحتواها قرطاس.
فهل يتطور العلم في هذه الناحية مثل تطور الدين؟ هل يسيطر الاعتبار الخلقي على الطريقة العلمية، أم هل يتغلب صالح العلم المزعوم على هذه الاعتبارات جميعا؟ هذا هو المحور الذي يدور عليه كثير من النقاش الذي يمس التجارب العلمية الحديثة، ومنها تشريح الحيوان الحي الذي كثر اللغط فيه وتطاول الحجاج في السنوات الأخيرة. قال قوم انه عمل حلال أمَنّ عليه القانون واطمأن فيه الى أن العلماء إنما يأتونه خدمة للمعرفة، وقال آخرون انه عمل محرم، تحرمه الإنسانية لأنه يتضمن ألماً لحي، وقال غير هؤلاء: إن تحليله وتحريمه منوطان بمقدار الألم الذي يعانيه الحيوان. والحق أن المسألة لها طرفان أولهما يتعلق بالغرض الذي من أجله يجري التشريح. وثانيهما يتعلق بالحي الذي يشرَّح. أما الغرض فيجب أن يكون من الكفاية بحيث يتزن مع التضحية ويستأهل الآلام. جميل أن نصيح (أن العلم للعلم)، ولكن هل نقبل هذه الجملة على إطلاقها أم لابد من الحذر الشديد عند تطبيقها؟ أي المعارف يجب أن نقصد إليه، وهل كل معرفة جديرة بالعرفان؟ يفرّق الأستاذ (وايتهد) بين الطلب يطلبه المرء في سبيل العلم، والطلب يطلبه حلاً لقضية رخيصة أخطرها بالبال الخيال السائب اللاهي. أما فيما يتعلق بالحي الذي يشرح، بالحيوان الأعجم الذي ينطق، فأمره يتوقف على النظرة التي ينظرها به الإنسان، وهنا نجد العلم الحديث نفسه سلَّح أعداءه في هذا الصدد بسلاح قاطع ماض، فان البيلجة الدرونية أزالت الحاجز الذي وضعته الفلسفة بين الإنسان والحيوان، واعتبرت الحياة العضوية ظاهرة فردة واحدة مهما اختلفت أوضاعها وتعددت مظاهرها، وبهذا استوى الإنسان بالحيوان أو قارب، وبهذا جاز على الإنسان ما يجوز على الحيوان، والإنسان يأبى تشريح الإنسان حيا، فلا بد أن يأبى تشريح الحيوان حيا. أم هو يجيز التشريح على إطلاقه ثم يتنصل منه باعتبار ان الإنسان له (شخصية) تكسبه حقوقا لا تكون لغيره من الحيوانات لانعدام (الشخصية) فيها.
أن الغرض مهما طاب ومهما خطر لا يبرر التجربة التي تخل بمسلك الإنسان الخلقي.
حكوا فيما يحكى عن الإمبراطورفردريك الثاني انه دعا رجلين الى الغداء وأطعمهما حتى امتلأ، وبعث بأحدهما لينام، وبعث بالآخر ليصيد، وفي المساء أمر فشق بطناهما ليعلم أيهما أسرع هضما، الذي نام فاستراح، أم الذي ظل نهاره يجري وراء الصيد؟ وقضى أطباؤه بالفوز للذي نام. لا يقول أحد أن رغبة فريدريك في المعرفة لم تكن مشروعة، ولا أن اتجاهه الى تحقيقها بالتجربة العلمية لم تكن محمودة، ولكن الذي يدم ان التجربة لم تخضع لشروط المسلك الخلقي العام.
القيد الثالث
قرأت حديثا مقالا افتتاحيا في (مجلة تحسين النسل) تناول فيها محررها موضوع الدعوى الحديثة في استكشاف طريقة علمية جديدة يتعين بها النسل قبل ولادته. فبعد أن تشكك الكاتب في المكتشف قال:. . ومهما يكن من الأمر فلا بد ان نتهيأ لأن نسمع يوما ما بأن قد انكشفت طريقة صحيحة مؤكدة للتنبؤ بالنسل أو التحكم فيه. فان وقع هذا، وهو لابد واقع وإن تأخر يومه، فقد وقعت اكبر ثورة في تاريخ البشر، فعندئذ يتجه الناس لا محالة في الانسال اتجاهاً يخل التوازن بين الذكر والأنثى اختلالا لن نختلف في نوعه وان اختلفنا في مقداره، فيصبح عدد الذكور عشرة أضعاف الاناث أو خمسة عشر أو عشرين ضعفا، وعندئذ كيف تكون الحال، لا أجسر أن أقول، ولا يجسر ذو الخيال الرائع ان يقول، وحسبنا أن نقدر أن أول ما يذهب من مُثُل الإنسان عفة المرأة وحرمة الزوجية، فهل من الحكومات حكومة تنظر الى الغد فتعد لهذا الانقلاب عدته؟ لعل أقرب من ذلك أن نرجو أن يتفق البيلجيون فيما بينهم، أن يتفقوا من الآن، على أن يحفظوا هذا السر عن الناس إذا هي تمخضت عنه الأبحاث، لأنه حدث سيكون أوخم عاقبة على المجتمع مما عرف من الأحداث. بالطبع ما من سر إلا افتضح على الأيام، ولكن سيكون قد انقضت مهلة قبل افتضاحه قد تمكِّن أولي الأمر وذوي السلطان من رفع الحواجز وإقامة السدود في وجه هذا السيل الداهم
فلنفترض ان ما يقوله المحرر حق، وان العلماء باتوا على مقربة من كشف هذا السر، وأن هذا السر إذا انكشف للناس فعلوا كالذي خاله الكاتب، فما يكون موقف العالم البيلجي عندئذ وما واجبه؟ أينصرف عن أبحاثه خشية ما تجره نتائجها؟ أيقف في السبيل وقد قارب النهاية احتفاظا بالعفاف الجنسي، ام يقول ان المنشط العلمي من حقه أن يتحلل مما قد لا تستطيع أن تتحلل منه مناشط الحياة الاخرى، وأنه رجل علم فهو بمعصم من المبدأ القائل بأن الرجال مسؤولون عن أعمالهم وما يصدر عنها من شر تأكدَ أو ترجّح.
أن التقدم الحديث في العلم يتجه اتجاهات لم تكن قديما في الحسبان. حتى أن أكثر المفكرين تفاؤلا، وأسرعهم إجابة إذا دعا العلم، بدءوا يتشككون في تفاؤلهم الكثير، ويرتابون في فرضهم القديم، أن زيادة المعرفة لن يكون منها غير خدمة الإنسانية، والسيطرة على الطبيعة لن يكون منها غير خير المجتمع. قال السير الفريد ايونج
(ائذنوا لي كدارس قديم للميكانيكا التطبيقية أن أعبر عن بعض خيبة أحس بها الآن، وأنا في اعتزالي منتحيا مع النظارة جانبا من الطريق أتفرج على موكب العلم يسير في عظم وفخامة، وأتسلى مع المتسلين بركائب المخترعات تتعاقب في أبهة وضخامة. الى أين يسير هذا الركب الكبير؟ وما أثره الأخير في مستقبل الأسرة الإنسانية؟. . لاشك أنه يحمل للإنسان هدايا تجعل حياته أملأ وأوسع وأصح وأغنى وأهنأ، تلك الهناءة التي تجلبها المادة الجامدة. ولكن كثيرا مما أهداه المهندس الباحث أسيء استخدامه ويساء وبعضه يحمل في أحشائه مآسي لم تنمخض عنها الأيام بعد. إن الإنسان لم يتهيأ بعد أخلاقيا ليتقبل تلك المنح الكبرى)
وجملة الأمر أن العلم وبال على الإنسانية إذا هو أطلق من القيود التي تضبط مسلك الإنسان بقصد إسعاده فردا ومجتمعا.