الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 249/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 249/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 11 - 04 - 1938


مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 25 -

(معذرة إلى القراء من هذه الفترة التي انقطعت فيها عن الكتابة، وأشكر لهم. على العهد أن أوالي الكتابة حتى أفرغ من هذا التاريخ. ومعذرة ثانية إلى صديقي الأستاذ محمود أبو رية مما كان مني إليه، وسيأتيه ردي بعد قليل)

العريان

الرافعي والعقاد

لما مات المرحوم شوقي في خريف سنة 1932، اهتزت لموته المجامع الأدبية في مصر والشرق؛ فما تجد من كاتب أو أديب من أبناء العروبة إلا أهتم لهذا النبأ واحتفل به. وتهيأت (المقتطف) لكتابة فصل أدبي عن أمير الشعراء، فأفرغت بضع عشرة صفحة من العدد الذي كان موشكاً أن يصدر، وأبرقت إلى المرحوم الرافعي في طنطا أن يكتب هذا الفصل ويرسله إليها في أيام قبل أن يتم طبع العدد

ولم يكن بين الرافعي وشوقي من صلات الود ما يتيح له أن يعرف شيئاً من حياته يعينه على دراسة أدبه؛ ولا كان الرافعي مستعداً لهذه الدراسة ولا تهيأت له من قبل أسبابها ودواعيها لينشئ موضوعه على الوجه الذي يرضاه في ذلك الوقت العاجل. وإن الرافعي لكثير الأناة والتأنق فيما يكتب، فلا يبدأ في إنشاء موضوعه حتى يخلى له فكرة أياماً وليالي، يبحث ويوازن، ويزاوج ويستنبط؛ ثم يتهيأ للكتابة وقد استوى الموضوع في فكره كأنما قرأه لساعته في كتاب. ولكن كل أولئك لم يمنع الرافعي أن يجيب محرر المقتطف إلى ما طلب، وأرسل مقاله في الموعد المضروب. وكانت دراسةً أعتقد أن أحداً من كتاب العربية لم يكتب مثلها عن شوقي أو يبلغ ما بلغ الرافعي بمقاله، فأنصف شوقي، وجلى عبقريته، وكشف عن أدبه وفنه ومذهبه. دع عنك بعض هنوات قليلة لا تغض من قيمة هذ البحث الفريد

وكان مما أخذ الرافعي على شوقي وسماه غلطات في النحو أو اللغة، أن شوقي أبتدأ بالنكرة في قوله:

ليلى! منادٍ دعا ليلى فخفّ له ... نشوانُ في جنبات الصدر عربيد

وهي هناة صغيرة قد يجد لها بعض العلماء بقواعد العربية وجهاً من التعليل وباباً من العذر

والعقاد أديب له شهرته العريقة في عداوة شوقي والزراية بأدبه وفنه؛ فما يعرف أدباء العربية أحداً كان أبلغ عداوة لشوقي أو أحد لساناً في نقده من العقاد!

ولكن العقاد لم يكد يفرغ من قراءة مقالة الرافعي في المقتطف، حتى تناول قلمه ليكتب كلمة يرد بها رأي الرافعي في نقد هذا البيت ويعتذر عن شوقي. . . وكان للعقاد نصيب من التوفيق فيما كتب!

ليت شعري، أفعلها العقاد دفاعاً عن شوقي وهو من هو في عداوته، أم تحدياً للرافعي؟

أفلم يجد العقاد في بضع عشرة صفحة يكتبها الرافعي مباهياً بشوقي، مفاخراً بأدبه وفنه وعبقريته شيئاً يستحق الرد والتعليق غير هذه الكلمة؟ هذا سؤال سألته نفسي يومئذ، وأحسب أن كثيراً من القراء سألوه أنفسهم؛ ولكن جواب هذا السؤال معروف لكل من يعرف ما كان بين الرافعي والعقاد، ثم ما كان بين العقاد وشوقي منذ قريب!

وقال لي الرافعي: (ماذا ترى فيما كتب العقاد؟)

قلت: (أنا وهو على رأي واحد فيما يرد به!)

فمط شفتيه ساخراً وهو يقول: (أخطأت، وأخطأ العقاد، وأخطأ المتأخرون من علماء النحو في العربية. . . ليس الرأي ما يقول العقاد وتوافقه عليه. . .)

وتملكه عناده وكبرياؤه؛ فأنشأ مقالة طويلة مسهبة يرد بها رأي العقاد، ويصر على تخطئة شوقي في الابتداء بالنكرة، ويتهم المتأخرين من علماء النحو بالغفلة وقلة البصر بأساليب العربية؛ ثم يفيض ويسترسل في بيان أوجه الابتداء بالنكرة وما يصيب منها وما يخطئ.

وإذا لم يكن لي في هذا المجال أن أصرح بالرأي فيما كتب الرافعي في هذا الموضوع؛ فإن لي أرد كل شيء إلى أسبابه، فأزعم أن الرافعي لم يكتب ما كتب خالصاً لوجه العربية، ولكنها الكبرياء والاعتداد بالنفس وخوف الهزيمة أمام العقاد في معركة أدبية!. . .

ولست أكتم هنا أن الرافعي كان يسيء الظن بفهم العقاد لقواعد اللغة؛ فما يرى له شيئاً من مثل ما كتب في ذلك الموضوع مما يشير إلى بصره بقواعد العربية إلا اتهمه بأنه يستعين فيه بأصدقائه من أهل العلم بهذه اللغة. وأحسبه قال لي مرة: إن الذي يعين العقاد في ذلك هو صديقه الأستاذ عباس الجمل!

وانتهت هذه المعركة الصغيرة ولم تسفر عن أشلاء، ولكني أحسب أن الرافعي نفسه لم يكن مقتنعاً بما كتب في الرد على العقاد فبقي في نفسه شيء يحمسه إلى معركة جديدة، فلم يلبث إلا قليلاً ثم كانت المعركة الفاصلة. . .

وحي الأربعين

وكانت هدنة استمرت بضعة أشهر، ثم أصدر العقاد ديوانه (وحي الأربعين).

ومضى أسبوع أو أسابيع بعد صدور الديوان؛ ثم كان عيد من الأعياد، فغدوت على بيت الرافعي لأهنئه، ثم خرجنا نطوف ببيوت بعض الأصدقاء؛ حتى انتهى بنا الطواف إلى دار صديقنا الأديب الأستاذ حسنين مخلوف. والأستاذ مخلوف أديب مطلع، لا يفوته كتاب مما تخرج المطبعة العربية. فلم يكن ثمة بد من الحديث في الأدب، وفي الشعر، وفي المطبوعات الجديدة، وهو حديث يحلو للرافعي، ويحلو لمخلوف، ولو أستغرق هذا الحديث سحابة يوم العيد من الضحا إلى العصر، والبطن خاو يطلب الطعام، ورائحة الشواء تفوح في بيت المضيف وفي بيوت الجيران!

وسأل الرافعي مضيفه: (ماذا عندك من الجديد في الكتب؟)

وضحك مخلوف وهو يغمز بعينه ويقول: (وحي الأربعين!)

ووجد الرافعي طلبته، فدعا بالديوان الذي يود أن يقرأه منذ أيام ويمنعه من شرائه أنه كتاب العقاد. . .!

وجاء الديوان فوضعه الرافعي بين يديه وقال: (لست أريد أن أتجنى على العقاد الشاعر أو أحكم في ديوانه برأي قبل أن تتهيأ لي أسبابه؛ وإني لأخشى أن أفتح الكتاب فتقع عيني أول ما تقع على أردأ ما فيه فأحكم على الديوان ببعضه، وقد يكون فيه الجيد، وما هو أجود، وما تتقاصر أعناق شعراء العربية دون الوصول إليه. وإن بيني وبيني العقاد لسابق عداوة، وأنتما بريئان من التهمة وسوء الظن؛ فدونكما الديوان فقلبا فيه النظر، وتداولا فيه الرأي، ثم دلاني على أجود ما فيه لنقرأه معاً فنحكم له أو عليه مجتمعين؛ ثم يكون ما اتفقنا عليه من الرأي في هذا الجيد المختار هو الرأي في الديوان كله، من غير أن يتغلب الهوى أو تتحكم الشهوة. . .!)

ورضينا رأي الرافعي، فأخذنا الديوان نقلبه صفحة صفحة، ونقرأه بيتاً بيتاً؛ والرافعي، منصرف عنا إلى كتاب بين يديه. . . ومضت فترة، واستبطأنا الرافعي فيما دعانا إليه فقال: (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان! ولن تجدا. . . . . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته؛ فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!)

وتناول الديوان يقرأ منه ونستمع إليه. ووقفنا عند أشياء، وتداولنا الرأي في أشياء. وكان أكثرنا حماسة في النقد هو الأستاذ مخلوف. ومضت ساعات ونحن نقرأ، ولكل رأي بيديه. ثم طوينا الديوان وأخذ الأستاذ مخلوف يتحدث في موضعه. . .

وقال الرافعي يخاطبه: (. . . وما دمت على هذا الرأي في الديوان فلماذا لا تنشره؟ إن لك لساناً وبياناً، وإنه لنقد (يستحق أن يقرأه أدباء العربية. . .!)

وتردد مخلوف قليلاً ثم سمع مشورة الرافعي. . . وتهيأ لكتابة نقده. . .

ومضى أسبوع، ثم نشر (المقطم) في صدره مقالاً مجوداً للأستاذ مخلوف في نقد ديوان وحي الأربعين، تناوله بأدب وهدوء في بضعة عشر موضعاً، وأرجأ بقية النقد إلى عدد تال. . ومضى يومان وكتب العقاد في صحيفة الثلاثاء من جريدة الجهاد رده على مخلوف. . .

لم يكن مخلوف حين كتب مقاله الأول للمقطم مقدراً أن الأستاذ العقاد سيتناوله بهذه القسوة، ولكنه فوجئ مفاجأة شديدة بما كتب العقاد. . .

لم يرد العقاد على مخلوف رد الأديب على ناقده، ولكنه راح يتهكم عليه ويسخر منه ويستهزئ بعلمه وأدبه ومقدرته على فهم الشعر. وإذ كان مخلوف من مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، فإن العقاد قد أنتهزها سانحة لي ليطعن على مدرسي اللغة العربية في مدارس الحكومة، ويلحد في كفايتهم وعلمهم، ويعود بالسبب في ضعف اللغة العربية في المدارس على مخلوف وزملاء مخلوف. ولم تسلم مدرسة دار العلوم، ولا واحد من مدرسي اللغة العربية، من تهكم العقاد وسخريته في هذا المقال، لأن واحداً منهم كتب ينقده ويحاول رده إلى الصواب فيما رآه أخطأ فيه. . .!

وكتب مخلوف مقاله الثاني يرد مطاعن العقاد، ويتمم ما بدأ في نقد وحي الأربعين؛ ولكن المقطم أغلقت دونه الباب ولم تنشره، كرامة للعقاد وحرصاً على مودته. . .

وغضب مخلوف وتألم، ولكنه طوى صدره على ما فيه. . . وكنا جماعة من مدرسي اللغة العربية نصلي الجمعة كل أسبوع في مسجد المنشاوي بطنطا، فلقينا هناك مخلوف؛ فما رآه المدرسون حتى انهالوا عليه وركبوه بالعتب القاسي، وكلهم قرأ مقال العقاد في الطعن على مدرسي اللغة العربية بسبب مخلوف، وما منهم من قرأ مقال مخلوف إلا قليل. وحاول مخلوف أن يعتذر، ولكن اعتذاره ضاع بين ضجيج إخوانه وحملتهم عليه فلم يستمع له أحد!

وقلت للرافعي مازحاً ولقد لقيته بعد ذلك: (لقد كنت أنت السبب فيما نال مخلوفاً من إخوانه، وفيما نال مدرسي اللغة العربية من لسان العقاد؛ فأنت الذي هجت مخلوفاً إلى هذه المعركة، فانتهت إلى ما انتهت إليه بينه وبين إخوانه؛ وكانت سبباً فيما كتب العقاد عن دار العلوم ومدرسي اللغة العربية. . .)

وكان لمخلوف عند الرافعي منزلة، ولدار العلوم في نفسه مكان. ولكنه أجابني: (وماذا علي أنا فيما كتب مخلوف، وفيما رد العقاد؟)

قلت: (لولاك لم يكتب مخلوف فيتعرض لما تعرض له من لسان العقاد ومن عتب إخوانه. ولولا ما كتب مخلوف لبقيت دار العلوم بريئة من العيب لم يطعن فيها العقاد ولا غير العقاد!)

وقصدت فيما قلت - ومعذرة إلى الأستاذ العقاد - أن أهيج الرافعي للكتابة عن العقاد، فيشهد أدباء العربية معركة جديدة بين الأديبين الكبيرين يكون لهم من ورائها نفع ومتاع ولذة. . . وبلغت ما قصدت إليه، ووعد الرافعي بأن يكتب ما في نفسه من ديوان وحي الأربعين، ولكن على شرط: أن أشتري له نسخة على حسابي من الديوان، لأن عليه قسماً من قبل ألا يدفع قرشاً من جيبه في كتاب من كتب العقاد. . .!

ونفذت الشرط، وتهيأ الرافعي للكتابة عن وحي الأربعين؛ ومضت أيام، ثم دعاني ليملي علي مقالة الأول في نقد وحي الأربعين.

(شبرا)

محمد سعيد العريان