مجلة الرسالة/العدد 249/القصص
→ الفصول | مجلة الرسالة - العدد 249 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 11 - 04 - 1938 |
شارلس لام يروي عن شاكسبير
2 - قصة الشتاء
بقلم الأستاذ دريني خشبة
وهرول بها إلى كوخه ولقي زوجته هاشاً، ثم دفع بالطفلة الميمونة إلى صدرها اللطيف قائلاً: (أرضعيها يا موبسا. . . أرضعي ابنة الملوك الصيد) ونظرت الراعية إلى بارديتا تارة، وإلى طفلها أخرى، وكأنما جزعت أن تشركه هذه الغريبة النازحة في لبنه، فقال الراعي وهو يوشك أن يجن: (أرضعيها يا موبسا فقد حملت إلينا كنزاً وجعلتنا سادة الرعاة!). فانبلجت إشراقة سعيدة في أسارير المرأة، وأبرزت ثديها الكبير الممتلئ باللبن فدست حلمته في فم الطفلة. . .
وخشي الراعي أن يبدو عليه الثراء المفاجئ إذا هو تصرف في شيء من جواهر الطفلة بالبيع أو بغيره، فرحل عن الإقليم كله، ونزح إلى طرف سحيق ناء في أقصى حدود بوهيميا. وهناك تلبث غير قليل ثم باع جزءاً من الكنز الملكي الكريم، وابتاع بما حصل في يديه من ألوف قطعاناً كثيرة. وما هي إلا سنون حتى درت له إخلاف الثروة، ونضر الله الأرض تحت رجليه بالرزق، فعاش عيشه راضية مخفرجة، وعلم بارديتا ونشأها بين الضأن البهم، فشبت في هواء الطبيعة الحر الطليق وفي ميدانها السندسي الواسع، لا صديق لها إلا كلبها الأمين الوفي، ولا حديث إلا الأحلام الخافتة تتردد في فم القمر الصامت، ولا أطماع إلا أن تكبر البهم وتدر ألبانها
وشبت جميلة ناصعة كتمثال المرمر قد صقلته يد فنانة صناع. . . رزينة كأنما أوحي إلى قلبها الصغير الخلي أنه مسرح لمأساة صامتة ومعبد لآلهة وسنانة تجثم فيه لحينها!
وكان لملك بوهيميا أبن مولع بالصيد، يرتاد من أجله المسايل والوديان ومشارف الجبال. فبينا هو يصيد يوماً في ذلك الصقع إذا عيناه تقعان فجأة على بارديتا، وإذا هو يقف مسبوهاً زائغ البصر يعبد الفتاة البارعة الفينانة، ويردد عينيه في عالم جسمها الزاخر بأمواه الجمال. . .
لله لحمها الوردي. وجبينها السني، وفمها الخمري القرمزي وشعرها المغدودن الذهبي، وطرفها الساجي! ولله هذا الخمل الناعم القطيفي الذي سلبته لها الطبيعة من خوخ بوهيميا! لقد ملأت بارديتا قلب فلوريزيل وعينيه، وسرت كالحميا في دمه، فنقلته من دنيا إلى دنيا، ومن ملك إلى ملك، وركبت له قلباً غير قلبه، وإحساساً مرهفاً غير إحساسه؛ وسرت في خياله طيفاً معبوداً جعل الحياة جميلة مثلها، حبيبة لأنها فيها. . .
وهكذا عمر قلب الفتى بحب الفتاة، فبات لا يفكر إلا فيها، ولا يتوجه بأحلامه إلا إليها. . . وأخذ يكثر الصيد في هذه الجهة ويتردد على هيكل غرامه المقدس لينشق عبيره، وينعم بأرج الحب في أكنافه. . . ثم لم يطق أن يظل هذا حاله، فتنكر في ثياب شعبية، وصار يتردد على كوخ الراعي فيحدثه ويسمر إليه، وآنس فيه لطفاً وظرفاً وتأدباً، فمال إليه، واطمأن فؤاده لصحبته. . . وكان فلوريزيل فتى مشرق الشباب حلو الفم، يتحدث فتنجذب إليه الأسماع، ويصمت فتسرح في وجهه العيون
ولقي الفتاة فنمت عيناه المدنفتان بكل ما في قلبه، وجميع ما يتأجج بين أضلاعه ففتحت له قلبها الخلي. . . وهرول هو من عينيها الصافيتين الساحرتين، ومن فمها القرمزي المتمتم، إلى أبعد أغواره. . .
وذكر لها أن أسمه دوريكليز. . .!
وطال غيابه من حضرة أبيه الملك، وتعدد، وأصبح لا يهمه أن يغشى المجالس الملكية، فجمجمت نفس أبيه بأشياء فراح يدبر أن يعرف منها ما حرص أبنه أن يخفيه عليه
وأرسل عيونه في عقبيه، فعرفوا ما بينه وبين برديتا
ودعا الملك إليه صديقه كاميللو، كاميللو المخلص الذي أنقذه من السم في بيت ليونتس ملك صقلية، فكشف له عما في نفسه وذهبا متنكرين في إثر فلوريزيل إلى كوخ الراعي. . . والد برديتا فيما زعم له الزاعمون
وكان عيد الصوف الذي يجزون فيه الأغنام، وكان الكوخ وما حوله في حركة صاخبة ومرح، وكان المدعوون جالسين إلى الموائد الحافلة بالآكال والأشربات والأشواب المعممة بالحبب، وكان الولدان والعذارى والغانيات يرقصون على نغم الناي فوق العشب الأخضر؛ وكان بائع متجول يجلس في ناحية وقد التف حوله فتيان وفتيات يشترون ويشترين، هذا رباطاً وهذه قفازاً. . . وكان فلوريزيل قد انتحى وبرديتا ناحية، وراحا يتناجيان ويتباثان، غير معنيين بهذا الحفل الراقص، المائد بالأذرع والسيقان، المائس بالقدود والنهود
ودلف الملك نحو الجهة التي أعتزل ابنه الناس فيها، ودلف وراءه كاميللو، ثم جلسا عن كثب، بحيث يسمعان نجواهما
- عجباً يا كاميللو! إن هذا الجمال وهذا السمت كثيران على ابنة راعٍ نشأت بين البهم، وشبت في جنبات المروج!
- ولم يا مولاي؟ أليس الرجل أغنى رعاة بوهيميا؟ إنه ملك القطعان، وأبنته من أجل لك ملكة اللبن والقشدة!
- إن فلوريزبل يجلس بين يديها كالحمل!
- وليس هذا عجيباً أيضاً، لأنها خبيرة بتأديب الذئاب! وتبسم الملك ثم ترك صاحبه وقصد إلى الراعي فسلم عليه ثم قال:
- عمرك الله أيها الأخ! من هذا المدنف المتبول الذي يناجي فتاتك الهيفاء؟
فقال الراعي: (ذاك الفتى! إنهم يدعونه دوريكليز، وكل منهما يهيم بصاحبه كما ترى. . . ولست أدري أيهما اسعد بإلفه من الآخر؛ بيد أنني لا أشك في أنه إذا اختارها لتشركه في حياته فإنه يفوز بشيء عظيم جداً، لأن وراءها كنزاً لا يحلم مثله بمثله!!)
ويمم الملك شطر الحبيبين فقال يخاطب ابنه وهو يمضغ كلماته ويمطها، حتى لا ينكشف أمره: (أنت أيها العاشق الصغير، فيم اعتزالك هذا العيد بما فيه من لهو ومرح وقصف وعزف! ويحك! لقد جاء علي حين من الدهر أحببت فيه كما تحب أنت اليوم. . . وكنت أسجل حبي بالهدايا والتذكارات، فما لك لا تشتري لحبيبتك من البائع المتجول كما يشتري الولدان لعذاراهم؟)
وقال فلوريزيل، وهو لا يدري أنه يخاطب أباه ومولاه:
(تالله يا أبتاه الشيخ لو أطلعت على ما في جوانحنا لا ستقللت الدينا بأسرها هدية لحبيبتي برديتا. وإن هديتي لها هي هنا. . . في هذا المكان الأمين. . . في قلبي)
ثم التفت إلى الفتاة وقال: (أوه يا برديتا! أصغي إلي يا حبيبتي! لقد سأل هذا الرجل الشيخ أن أقدم لك هدية كما كان يفعل إذ هو فتى ذو صبابة وذو هوى! فهأنذا أقدم لك فؤادي بين يديه وأجعله شاهدي؛ وهأنذا أعلن أمام الملأ أنني أكون أسعد الناس لو رضيني أبوك زوجاً لك، ويسعدني أن يبارك هذا الشيخ عقد حبنا وصحيفة ارتباطنا!. . .).
ولم يطق الملك على تصرف أبنه صبراً، فانتزع دمامه، وكشف عن حقيقته، ثم صرخ بابنه قائلاً: (بل أشهد على صحيفة طلاقكما أيها الشقي! ما شاء الله يا ولي العهد! لم يبق إلا أن تنسى دمك الملكي فتلطخه بدم هذه الراعية! تلك الغجرية التي استهوت فؤادك وسبت لبك! الويل لك يا فلوريزيل! أني أنذركما معاً! حذار أن يرى أحدكما الآخر، وإلا كان الموت جزاءكما تجرعانه يا شقيين! أتسمع أيها الراعي! ذُد أبنتك عن سيدك أو أدفع رقبتك ثمناً لعصيانك.
ثم أمر كاميللو أن يتبعه مصطحباً فلوريزيل، وامتطى هو جواده، وذهب يعدو به، وكأنه شيطان على فوهة بركان!!
وغلى دم الملكي في عروق برديتا، فوقفت تردد عينيها في أثر الملك وتقول: (ويحك! أيهذا الملك! على هينتك، فوالله ما أزعجتني غضبتك، ووالله لقد هممت أن أقول لك كما قلت لي، وإن الشمس التي تشع بأضوائها على قصرك هي هي التي تشع بلألائها على كوخنا هذا الهادئ الصغير! ولكن! وا أسفاه! لقد أيقظتني لهجتك الجافة ذات الصرير من أحلامي السعيدة التي رفعتني حيناً إلى مصاف الملوك! فيا أحلامي. . . وداعاً. . . . ووداعاً أيها الأمير! وداعاً يا مولاي.! اتركني أرجوك!
اتركني لخرافي ونعاجي الحبيبة أرعاها وأحتلبها. .! وأبكي معها فوق المروج الخضر والعشب الحلو!
وانهمرت عبراتها فجأة، فوجم ولي العهد المعذب، ووقف كاميللو ساهماً متأثراً. . . ثم خطر له أن ينقذ الحبيبين، وأن يصل حبلهما المقدس، لأن قضيتهما من قضايا القلوب التي لا سلطان لأحد عليها، والتي لا تقوى على فصمها حتى يد الموت التي هدد بها الملك المغيظ المغضب
وكان كاميللو قد علم بما كان من حزن ملك صقلية وتوبته وحسن أعذاره وجميل إنابته، بعد موت هرميون، وكان الشوق إلى الوطن والحنين إلى الأهل قد برحا به، ففكر لتوه أن يفر بالحبيبين من وجه ملك بوهيميا، إلى رحاب ملك صقلية، حيث تقي شفاعة ليونتس، من غضب بوليكسينز، وحيث تتيح الفرصة للود القديم فيحيا ويتجدد، وتتهيأ القلوب للمصافاة فتنسى
وعرض عليهما ما بدا له من الفرار فانشرحا له ووافقا عليه؛ ثم كلم الراعي في شأنه ونعمه وقطعانه فتركها في عهدة صديق له وجمع ما خف حمله من مال وما أحتفظ به من جواهر برديتا وثيابها التي وجدها فيها والورقة التي كتب عليها أسمها وشيء من نسبها وحديث مأساتها. . . ثم لاذ الجميع بالفرار
وكانت مجازفة مليئة بالشجن، في طريق محفوفة بالمخاطر
وأستأذن كاميللو على صديقه ملك صقلية، فتلقاه بعينين باكيتين محزونتين، وضمه إلى صدره كأنما كان يعانق أشباح الذكريات الحبيبة، ويضم طيف الماضي العزيز. . .
- مرحباً كاميللو. . . مرحباً بحبيبي المخلص، ومشيري الأمين.
- مولاي!. . .
ثم انحبس منطق الرجل فلم يزد على هذا، وترك لدموعه أن تتكلم!!
ولما هدآ، وسكنت نفسهما، قدم إليه كاميللو ولي العهد بوهيميا، ابن صديقه الأعز، وحبيبه الأوفى، بوليكسينز! فتبسم له الملك، وتلقاه بالأهل وبالسهل، ثم طبع على جبينه قبلة التكفير عما ظن بأبيه من سوء. وقدم فلوريزيل فتاته برديتا قائلاً: (خطيبتي الأميرة برديتا يا مولاي!) وهش لها الملك وبش، ولكن سرعان ما تبددت ابتساماته في جو من الذكرى دهم فؤاده فجأة!
لقد نظر الملك إلى الفتاة الجميلة الرائعة فكأنما وقف في ظهيرة غائمة قاتمة فوق قلة جبل، ينظر إلى أشعة الشمس تغمر سهلاً نائياً كله ورود ورياحين وأزهار!
لقد ذكر ماضياً سعيداً حافلاً بالهناء عند ما رأى برديتا!
لقد رأى في عينيها أحلامه المواضي الرائعات!
لقد أحس بقلبه يثب من صدره إلى حدقته ليرى إلى الأميرة القادمة؟!
وي! ترى! هل من الجنة آبت هرميون!
أليس هذا هو طيفها الحبيب يتمثل له في هذه العذراء المفتان؟
ولحظ الراعي ما بده الملك من برديتا فوجب قلبه، وطفت ذكرياته القديمة فوق بحر لجي من عباب نفسه، لكنه صمت مع ذلك ولم ينبس
(يتبع)
دريني خشبة