مجلة الرسالة/العدد 249/إبراهيم بك المويلحي
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 249 إبراهيم بك المويلحي [[مؤلف:|]] |
جولات في الأدب الفرنسي الحديث ← |
بتاريخ: 11 - 04 - 1938 |
1844 - 1906
بقلم حفيدة إبراهيم المويلحي
السيد إبراهيم المويلحي بن السيد عبد الخالق بن السيد إبراهيم بن السيد أحمد بن السيد الشريف مصطفى وكيل المويلح. ينتهي نسبه إلى الحسين من جهة أبيه، والى الحسن من جهة أمه فأسره المويلحي يمتد نسبها إذن إلى الصادق (محمد ﷺ) وإلى الصديق (أبي بكر). وهذا النسب ثابت ثبوتاً قضائياً يرجع إلى أحكام شرعية مصرية، لا إلى مجرد (الثبوت الإداري) المعروف في مصر
والمويلحي نسبة إلى المويلح (بلدة في جزيرة العرب على شاطئ البحر الأحمر كانت تابعة لمصر في عهد (علي بك الكبير) حتى سنة 1892 ميلادية، ثم ضمت إلى ولاية الحجاز
وقد انقسمت هذه الأسرة قسمين أحدهما في مصر والآخر في المويلح
وأول من وفد إلى مصر من المويلحيين السيد أحمد المويلحي بعد خدمة أداها لمحمد علي باشا الكبير في تسكين فتنة الوهابيين ثم أقام بها، وأسس بيتاً تجارياً بجهة التربيعة بالقاهرة
ورزق السيد أحمد المويلحي بالسيد إبراهيم المويلحي جد صاحب هذه الترجمة، فشب على حب الأدب وأولع به. وكان لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، فكانت ألسنة الوجهاء تلهج بذكر أدبه وشعره، حتى بلغ أمره (حبيب أفندي) كخيا المغفور له (محمد علي باشا) فجعله كاتبه
ولقد أدى إبراهيم خدمة جليلة لوالي مصر (محمد علي) فحفظها له البيت الخديوي، فانتفع بها المترجم له حالة عسره كما سيتبين لك فيما بعد
ورزق السيد إبراهيم بالسيد عبد الخالق الذي انتحى ناحية الاشتغال بالتجارة فشب على حبها وأفرغ همه فيها، فذاعت شهرته بصناعة نسج الحرير التي كانت رائجة بمصر في ذاك الوقت فجمع ثروة طائلة
ثم انجب ولدين هما (إبراهيم) صاحب هذه الترجمة، و (عبد السلام) وأستقر رأيه على أن يجعل من إبراهيم رجلاً تجارياً. فبعد تعليمه العلوم الابتدائية في البيت، أخذ يوجه نحو الاشتغال بالتجارة، وأبقاه في محله التجاري وأرسل أخاه (عبد السلام) إلى الأزهر ليكون عالماً. ولكن شاءت إرادة الله أن يكون إبراهيم هو العالم والأديب، وأن يتفرغ عبد السلام فيما بعد للتجارة ومزاولتها، فنهض فيها نهضة إبراهيم في العلم والأدب
فكان إبراهيم مولعاً بالأدب والشعر منذ حداثة سنه، وقد ورث ذلك عن جده إبراهيم، ومن حسن حظه أن كان بجوار محله التجاري عطار لم يحضرني أسمه كان من العلماء الأعلام الذين لم تتغلب عليهم التجارة فتنسيهم العلم، فتتلمذ عليه إبراهيم بغير علم من والده، فدرس عليه علوم الأدب والبلاغة والنحو والعروض حتى نبغ فيها
ومن نوادر ما يروي عن رغبته في العلم والتحايل على الحصول، عليه أنه كان معه بواب للمحل يدعى (علي الأشموني) فكان يتفق معه على أن يقف على ناصية الطريق حتى إذا ما رأى والده السيد عبد الخالق مقبلا نحو متجره راكباً مطيته يهرع إلى السيد إبراهيم المنشغل بدرسه ليقطع عليه لذة الدرس وينبهه إلى حضور والده السيد عبد الخالق، فيذهب إلى المتجر متظاهراً بمداومة العمل
وما كان يخطر له ولا والده أنه سيجعل الأدب مهنته، وهي يومئذ مهنة الفقراء، ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها. فكان من اعظم نوابغها
وظل إبراهيم في حجره والده آمناً سعيداً حتى توفي الوالد سنة 1282 هجرية (1865 ميلادية) فتولى هو تجارة أبيه وقبض على ثروته التي تبلغ ثمانين ألفاً من الجنيهات، وجرى على خطته في العمل حيناً فازداد تقدماً وصار عضواً في مجلس التجار وعضواً في مجلس مصر الابتدائي
ولا يفوتن القارئ أن كل هذه المشاغل لم تحل دون ميله للأدب والشعر إذ كانت هذه الملكة تنمو فيه شيئاً فشيئاً بين مشاغل السياسة والإدارة والتجارة، فاتفق مع المرحوم (عارف باشا) أحد أعضاء مجلس الأحكام وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب على تأسيس (جمعية المعارف) وكانت جل همها نشر الكتب النافعة وتسهيل إقتنائها، ثم أنشأ (إبراهيم بك) مطبعة باسمه سنة 1285 هجرية (1868 ميلادية) لتطبع تلك الكتب، وتعد من أقدم المطابع المصرية، وكانت كثرة العمل فيها تدفع الجمعية إلى طبع جزء من كتبها في بعض الأحيان بمطابع أخرى ولا سيما (المطبعة الوهبية)
ولا شك في أن هذه الجمعية كانت صاحبت اليد الطولى في نشر كثير من الكتب القيمة ككتاب (تاج العروس) و (أسد الغابة) و (رسائل بديع الزمان) و (سلوك المماليك) و (ألف با) و (محاورات الأدباء والشعراء والبلغاء) وغيرهما مما جعل لهذه الجمعية شأناً في تاريخ النهضة الدبية الحديثة
أما صاحب الترجمة ففي السنة الثانية من إنشاء مطبعته اتحد مع (محمد عثمان جلال بك) لإصدار جريدة عربية سماها (نزهة الأفكار) ولم يكن من الصحف العربية يومئذ بمصر إلا (جريدة وادي النيل) و (الجريدة الرسمية)
ولسوء الحظ لم يصدر منها إلا عددان، ثم اظهر المرحوم (شاهين باشا) للخديو إسماعيل تخوفه مما سوف تثيره مقالاتها من الأفكار وتولده من الفتن، فأصدر الخديو أمراً بإلغائها. وظلت المطبعة على ما هي عليه من طبع الكتب الأدبية والتاريخية والفقهية لجمعية المعارف، كما كان يطبع المترجم كتباً على نفقته الخاصة
وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد بمصر، وقد تشدق الناس بمعجزاتها في سرعة الإثراء. ولما كان إبراهيم طلاباً للعلا لم يكتف بما عنده من الرزق الواسع وحدثته نفسه بطلب المزيد، فاندمج في صف المضاربين، يربح تارة فيطمع في المزيد، ويخسر أخرى فيطلب التعويض. وما هلت سنة 1289 هجرية (1872 ميلادية) حتى أستنزف ثروته، وأثقل بالديون وكاد البيت يتزعزع، فرأى الخديو إسماعيل من اللازم أن يقيم أود ذلك البيت المشهور بعزة وجاهه فقال لشريف باشا وثابت باشا: (إن ما سأصنعه لهذا البيت واجب على ذمتنا، فإن جدهم خدم جدي خدمات جليلة)
ثم طلب استدعاء إبراهيم وعبد السلام، فلما مثلاً بين يديه قال: من منكما الأكبر؟ فقال إبراهيم: عبدكم يا مولاي. فسأله: كيف تسير أعمالكما التجارية بعد موت أبيكما؟ فقال إبراهيم: إن علمها عند عبد السلام (وقد ذكرنا من قبل أنه هو الذي مارس التجارة وأدارها) لأني انقطعت للعلم والأدب. فالتفت الخديو إلى عبد السلام، فتقدم وبسط الحالة التجارية والمالية. وهنا تناول الخديو ورقة وخط فيها بيده الكريمة سطرين وناولها إبراهيم ليسلمها لرئيس الديوان
وبعد أن قام الأخوان بواجب الشكر ذهبا تواً إلى حيث أمرا وهما لا يعلمان ما خبأته لهما الأقدار! وكم كانت دهشتهما عند ما علما أن بالورقة أمراً كريماً بتعيين إبراهيم عضواً في مجلس الاستئناف براتب شهري قدره أربعون جنيهاً، وبصرف أربعة آلاف جنيه لعبد السلام ليسدد ما عليهما من ديون، وليتمكن من إقامة ما أعوج من شئون التجارة، وبالإنعام على كل منهما برتبة بك من الدرجة الثانية
ولم يكتف إسماعيل باشا بكل هذا، بل أبى عليه كرمه إلا أن يصدر أوامره إلى جميع من في قصوره من النساء بأن يعدلن عن لبس الأنسجة الأوربية إلى الأنسجة المصرية من صنع المويلحي، وألا يدخل تشريفات السيدات سيدة مرتدية غير هذه المنسوجات، كما أمر بصنع كمية كبيرة منها لإرسالها إلى معرض فينا في تلك الأيام
وما زال المترجم له في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى آلت رياسته إلى المرحوم (حيدر باشا يكن) فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة (إبراهيم بك)
ولكن عناية الخديو إسماعيل ما زالت ترعاه؛ فأمر بإعطائه مصلحة تمغة (المشغولات والمنسوجات) على سبيل الالتزام (الاحتكار) على أن يؤدي للحكومة جعلا
ولما سقطت وزارة (نوبار باشا) سنة 1296هـ سنة 1879م التي كان فيها عضوان أجنبيان، وخلفتها وزارة (شريف باشا) المعروفة باسم الوزارة الوطنية، وهمت بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية - وقع الاختيار على المترجم له لوضع هذه اللائحة
ولما أن استقرت الوزارة الجديدة طلب المرحوم (راغب باشا) ناظر المالية وقتئذ من الخديو إسماعيل أن يكون إبراهيم بك معه في المالية لما يتوسمه فيه من النجابة والنباهة وعلو الهمة وسداد الرأي، فلم يمانع الخديو وسر بهذا الاختيار، وأصدر الأمر بتعيينه ناظراً للقلم العربي بها. وهنا تجلى نبوغه وظهرت جدارته فأحيلت إليه نظارة قلم (العرضحالات) مع ملاحظة (قلم تركي المالية) وعين عضواً في مجلس تسديد الديون السائرة
ولما تنازل الخديو عن العرش سنة 1879 م كما هو معروف، وصدرت أوامر السلطان بنفيه، طلب الإذن من السلطان بالإقامة في استانبول أو أزمير، فلم يصادف هذا الطلب قبولاً. فلما علم الملك (أومبرتو ملك إيطاليا بهذا الرفض، طيب خاطر صديق والده، ووضع تحت تصرفه سراي (الفافوريتا بضواحي نابولي على أن هذا النفي لم ينسه ذكر إبراهيم فبعث يستقدمه إليه. فلبى إبراهيم الأمر، واستعفى من مناصبه وظل في معية إسماعيل بضع سنوات كان يقوم في أثنائها بوظيفة كاتب يده (سكرتيره العربي) يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، كما كان يقوم بالتدريس لنجله سمو البرنس احمد فؤاد (المغفور له صاحب الجلالة فؤاد الأول) وقد أرسل إبراهيم بك كتاباً إلى أبنه المرحوم السيد محمد بك المويلحي بتاريخ 15 مارس سنة 1880 يطلب منه الإسراع بإرسال بعض كتب النحو الصغيرة لهذا الغرض
وفي نفس هذه السنة أي سنة 1880م أنشأ جريدة (الاتحاد) بإيطاليا، واصدر منها ثلاثة أعداد كانت مقالاتها شديدة اللهجة على سياسة الدولة العلية مما جعل السلطان عبد الحميد يطلب من سفارته بإيطاليا إيفاد مندوب من قبلها لدى الخديو إسماعيل ليرجوه أن يأمر (سكرتيره) بالكف عن نشر تلك الجريدة.
وفي أثناء إقامة الأسرة الخديوية بإيطاليا مرضت إحدى الأميرات من زوجات سمو الخديو إسماعيل (بالروماتزم)، ووصف لها الأطباء بلدة (بورسة) خشية عليها من المكث في الجو الذي هي فيه. فأشكل الأمر على الخديو، وبث همه إلى (سكرتيره) وطلب منه أن يكتب لجلاله السلطان عبد الحميد رسالة يشرح له فيها حالة المريضة بذلك الأسلوب المتين الساحر
فكتب إبراهيم بك رسالته المشهورة عن لسان الخديو إسماعيل التماساً لدخول حرمه الآستانة وأفرغ فيها كل أوتي من بيان
ولما ترجمت وعرضت على السلطان عبد الحميد تأثر بها وأرسل برقية إلى سفيره في إيطاليا بدعوة حرم الخديو إسماعيل إلى الآستانة للاستشفاء بمياه (بورسة) المعدنية
وقد يلذ القارئ أن يطلع على هذه الرسالة وهي رسالة طويلة نقتطف منها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، أطال الله بقاءه، وجعلني من كل مكروه فداءه. من عبد أكتنفه حرمان الرضا من ولي نعمته، ومالك ناصيته، فساعته شهر، وليلته دهر، وعبرته نهر، وكذلك جواب دعائه جازعاً مما يقاسي من غضب أمير المؤمنين وقد قال الله تعالى حاثاً على العفو (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. .) وأمير المؤمنين أولى العالمين في الاقتداء بآي الكتاب العزيز. وإني أتضرع إلى مقام خلافتكم العظمى، وسلطتكم الكبرى متوسلا بجانب صاحب الرسالة ﷺ أن يلحظ ما اعرضه لدى سدتكم الملوكية بعين الرضا، ولو أن العذر إقرار بالذنب لملأت الصحائف اعذاراً، ولعرضت التوبة ليلا ونهاراً
وهبني يا أمير المؤمنين جئت بكل ذنب. أليس في سعة عفوكم وساحة إحسانكم ما تغفر به الذنوب! وأمير المؤمنين أعلى نظراً أن يؤخذا بقول وهو إفك الوشاة، أو يعاقب بكلام وهو بهتان السعادة، من الذين اتخذوا حرفتهم انهم يحرفون الكلم عن مواضعه، بعد أن أفنيت حياتي لهذا البيت المعمور في خدم قدمتها، وأوامر أطعتها، ونواهي امتثلتها، موالاة جعلتها شرطاً سادساً لديني ومعتقدي، وإتباعاً لقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). . . إلى أن قال في آخرها:
(. . . وإني أذكر أمير المؤمنين - فان الذكرى تنفع المؤمنين بقوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) وإن بين جلالتكم وبين رعيتكم، وهذه المريضة فرد من إفرادهم - الرحم الديني - الذي هو أولى بوجوب الصلة من رحم النسب، قال تعالى: (إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) أي واتقوا في اخوتكم في الدين برعاية عهودكم وحفظ حقوقكم، فعلمنا أن الأخوة الدينية تقتضي مزيد الشفقة والرحمة، ولا معنى للرحمة والشفقة إلا أن تنقذ المؤمن من المهالك، وتؤمنه من المخاوف، وتخلصه من الآفات، وأن توصل إليه المبرات ما استطعت؛ ولا يكمل عبد من الإيمان حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه. وإني أتوسل إلى الله أن يلحق أمير المؤمنين بنزاهته وشفقته ورحمته وعدله وإيمانه ورعايته، ما في يديه من ودائع الله التي هي أرواح المسلمين وأعراضهم. وصمته: الاستمرار على حرمان هذه المريضة من علاجها الممكن؛ فإنها إنما تدخل تحت سطوة السلطنة العظمى وقوة الخلافة الكبرى، في بلدة صغيرة من مماليك الدولة العثمانية
(ولو شاهد أمير المؤمنين هذه المريضة المسكينة وهي سائلتي: بماذا أجاب الخليفة؟ أيرضى أمير المؤمنين أن أقول لها: قد أغضى عن الإجابة!؟ وهو تصريح بهتك الحجاب أو الموت - كبرت كلمة تخرج من الأفواه! - فإذا قالت: فأين الدين والإيمان والحديث والقرآن والعدل والإحسان؟ فلا مساغ يا أمير المؤمنين للجواب!
(يا خليفة رسول الله: هذه فرد من أفراد رعيتكم، وقال ﷺ: (وكل راع مسؤول عن رعيته) فألتمس من أعتاب مولانا المعظم أن يصدر أمره العالي بما يوافق شفقته وإرادته وأن يصفح عن عبده. وإني لممتثل لجميع أوامر مولانا أمير المؤمنين، أعدها فرضاً واجباً، فإن الحياة والله لا تصفو لعبد سدتكم وفي التصور أن ولي نعمته مغض عنه
(وأنا واقف على العبد أتلقى أوامركم بفريضة الامتثال، وإن لم يصادف تضرعي ودعائي قبولاً فإني أخشى أن هذه المريضة وهي في الاحتضار، تمد يدها بكتاب الله قائلة: بيني وبين أمير المؤمنين هذا الكتاب العزيز في الدنيا والآخرة. والأمر لله من قبل ومن بعد. . .!)
(البقية في العدد القادم)
إبراهيم المويلحي