مجلة الرسالة/العدد 246/من صميم السيرة
→ ابن دقيق العيد | مجلة الرسالة - العدد 246 من صميم السيرة [[مؤلف:|]] |
قالت هلم إلى الحديث فقلتُ لا. . . ← |
بتاريخ: 21 - 03 - 1938 |
الإسراء
للأستاذ أمجد الطرابلسي
رقدتْ ملَء عينها البيداءُ ... واحتوتها في سرِّها الظلماءُ
وأوى موكبُ الطيورِ إلى النَّخ ... لِ وحَنَّتْ لزُغْبِها الورقاءُ
والمها أَطبقتْ على الصَّفوِ عيني ... ها، ومالت إلى الكناِسِ الظّباءُ
سكنَ اللّيلُ، لا هتافٌ ولا عَز ... فٌ ولا آهةٌ ولا ضوضاء
ليس إلاّ النجومُ تهمسُ فرحى ... في الرَّحابِ العُلى فَتُصغي الجِواء
وسَجَتْ مكَّةٌ، فلا اللَّهوٌ لهوٌ ... في حِماها، ولا الغِناءُ غناء
أَطفأَت في الخيام كلَّ سِراج ... رَقصتْ فوقَ ثغرهِ الأَضواء
وانقضى كلُّ سامرٍ أَثملته ... بالفنونِ الرُّواةُ والشُّعراء
وتهادى النسيمُ بين الرّوابي ... كلما هبّ هدّه الإعياء
ملءُ أعطافه أريج الخزامى ... وبقايا الكؤوس، والأنداء
نامت البيد! هل رأيت سريراً ... رقدتْ فوقَ صدرهِ عَذراء؟
الطُّيوفُ الفرحى تطوف حَوالَي ... هِ كما طافَ بالقلوبِ الهناء
والمنى الضاحكاتُ تلثمُ خّدَّي ... ها فيفتُّر ثغرُها الوَضَّاءُ
يا جمالَ البيداء! ماذا ينالُ ال ... وصفُ منهُ، وما يُصيبُ الثناء؟!
كلُّها السِّحْرُ والرِّحيقُ المُصَفى ... كلُّها الشّعرُ والهوى والبَهاءُ
كلُّها المجدُ والبُطولَةُ والسُّؤْ ... دُدُ والعزُّ والنَّدى والإباء!
إيهِ يا منبعَ الصَّناديدِ يا بي ... دُ إذا رَجَّ جانبيكِ نداءُ!
يا مهبَّ الفرسانِ إن صّرَّخ المج ... دُ يناديهمُ وهُزَّ اللّواء!
نامَ يا بيدُ في سكونِكِ ندبٌ ... حَفِظتهُ وهَدْهَدَتْهُ السماء
سَهِرتْ حولَه العِنايةُ ترعا ... هُو وحامَتْ من فوقِهِ الآلاءُ
من ذُؤاباتِ هاشم كلهُ طُه ... رٌ ونبلٌ ورحمةٌ ووفاءُ
أَروعٌ أينَ من عزيمتهِ السَّي ... فُ ومن وجودِ كفّه الأنواء! عَرَبيٌّ تهلَّلَ الكونُ لمّا ... كرَّمتهُ النبوَّةُ الغرَّاء
شَعَّ منهُ الهدى فهاجتْ وماجتْ ... حَنَقاً - جاهليَّةٌ رَعْناء
دينُها البغيُ والتناحُرُ والثا ... راتُ والبطشُ والأذى والدّماء
فاحفظيه يا بيدُ فهو رَجاءُ ال ... كونِ وسْطَ الظلام وهو الضّياء
ما يدومُ العمى إذا أَسْفَر الحَقّ ... ولا النور والظَلام سواء!!
إيهِ يا نائماً تداعبُ جَفْني ... هِ الخيالاتُ والرُّؤى الشمّاء!
يا نَبيّاً في صدرِهِ خفقَ الكو ... نُ جميعاً، جراحُهُ والدَّواء!!
يا رسولاً ترنو لطلعته الامْ ... لاءُ حَيْرى قد عَمَّها الإِدْجاءُ!
أيُّها النائمُ انتبهْ! قد أتاكَ ال ... رُّوحُ يَحدوهُ من عُلاهُ القَضاءُ
والبُراقُ السَّعيدُ حَمْحَمَ في البا ... بِ اشتياقاً فاهتزّتِ الصّحراءُ
طِرْ عليهِ تَمْضَ القفارُ سِراعاً ... تَحتَ وَثباتِهِ ويُطْوَ الفَضاءُ
طِرْ عليهِ إنّ العَوالم نَشوى ... مُذْ أَتتْها عن سعيِكَ الأَنباءُ
والسمواتُ تستعدُّ لمسرا ... كَ وقد زغردتْ بها البُشَراء
تتغنَّى فيها الملائكُ فرحى ... وتهادى البشائِرَ الأَنبياءُ
رفرفا في سماءِ مكةَ فالري ... حُ ذَلولٌ تحتَ البراقِ رُخاءُ
وامضِيا تَمَّحِ الفَلا والمسافا ... تُ كأنَّ ابتداَءهنّ انتهاءُ
فإذا شَمِتُما على البُعدِ سَينا ... َء ولاحت كثُبانُها السَّمراءُ
فاهبطا، طَرْفَةَ العُيونِ، إليها ... يا لَربّي لِما رأَتْ سيناء!!
يومَ ناجي الكليمُ في جانبيها ... ربَّهُ، ملءُ أَصغريه الرّجاءُ
فهوى مُرْعشاً وقد هاله النّو ... رُ وأعشى عيونه الأْلاءُ
ثمّ سيرا حتّى إذا (بَيْتُ لَحْمٍ) ... دَوَّمَتْ منْ بُروجِها الأَصْداءُ
فاهبطا تُرْبَها الذَّكيَّ فمنه ... (أسفرَ الرِّفقُ والهدى والحياء)
وأتيا المسجد الذي بارك الل ... هُ حَوالَيهِ منذ كان البناء
فاسجدا فيه للّذي غمَرَ الكو ... نَ نَدَاهُ وعطفُهُ والرضاء
صلِّيا يَبْسمِ المُصَلّى ابتهاجاً ... لكما في الدُّجى ويَشْدُ الفِناء واعرجا صاعدَيْن سبعاً طباقاً ... لا حِجابٌ، لا دُجْيَة، لا عماء
أَلَقٌ باهرٌ، وبحرٌ من النّو ... رِ خِضَمٌّ، وَرَوْعَةٌ، وصَفاء
ليس إلا ملائِكُ تحمل الب ... شرى ورسْلٌ أَحِبَّةٌ أصفياء
اصعدا في الجمال حتَّى تجلّى ... لكما سِدْرةُ العُلى العَصماءُ
وانظرا من عَلٍ إلى هذه الأَجْ ... رامِ طُرّاً، يَجلُّ عنها الهباءُ
نظرةً تُنْظَمُ العوالمُ والآ ... بادُ فيها وتَلتقي الأَملاء
اسموا، اسموا فما أعظم الأن ... فُسَ تفَنْى من دونِها العليا!
ما أجلَّ الأرواحَ تَعلو وتَعلو ... ثم تعلو، وإن تناهى العَلاء!
ما أحبَّ الفنَاَء في النُّور إمّا ... كُرِهَ اللَّبثُ في الثرى والفَناء!
إيه مسرى النبيِّ! قد تُنكر الأنْ ... وارَ والفجرَ مقلهٌ عمياءُ
ما على جاحديك لومٌ إذا ضَلُّ ... وا، هلِ الناسُ كلُّهم أنبياء؟!
معرجَ المصطفى! إليكَ التَّحَايا ... شَعشَتها دموعُنا والدّماء
بوركتْ أرضُكِ النَّدِيَّةُ يا قد ... سُ ووشَّتْ رياضَك النَّعماء!
أنتِ أمُّ الدُّنى، ومهدُ النُّبُوَّا ... تِ ومنكِ استفاءتِ الآناء
فيكِ موسى ألقى عصاهُ ارتياحاً ... بعد أن طوّحتْ بهِ الأَرزاء
والمسيحُ العظيمُ فيكِ تجلى ... يملأُ الأرضَ من هُداه السَّناء
علَّمَ الكونَ رحمةَ العبدِ للعب ... دِ، فلا قسوةٌ ولا إيذاءُ
وغذاه الحبَّ الطَّهورَ فلا بغ ... ضٌ، ولا نَفْرَةٌ، ولا أَعداء
يا حماةَ المسيحِ في القدسِ! ما في ... دينهِ أن يعذَّبَ الضُّعفاء!
ليس فيه طردُ الهزارِ من الأي ... كِ لتَحْتَلَّ وَكْرَهُ رقطاء!
يا جيوش الصليب في القدس! ما في ... شرعِهِ أن تُقَتَّلُ الأبرياء!
ليس في شرعِهِ هوانُ المواثي ... قِ، إذا ما تواثَقَ الشُّرَفاء!
ليس فيه أن يبذلَ العَرَبُ الأَنْ ... فُسَ كي تسترِقَّها (الحلَفاء)!
يا لدمعِ المسيحِ ما كان أصفا ... هـ! ولكنَّ روحَكم كدراء!
سائلوا مهدَهُ المُطَهَّرَ هل صا ... نته إلا العُروبةُ العَرْباء؟! سائلوه يا ناسُ عن عُمَرَ الفا ... روقِ: (ما كانَ عدله والوفاء؟)
سائلوه عن ابنِ أَيُّوبَ لما ... عصفتْ جُنَّةٌ بكم هَوجاء
يومَ جاءتْ جُيوشُكم مثلَما انحطَّ ... تْ على المنهَلِ النُّسُور الظِّماء
تُغرِقُ المهدَ مثلَما تُغرقُ الم ... جدَ منها الدِّماء والأَشْلاء
يوم ضاقت عنها الأَباطح في الب ... رِّ وناءتْ بحمِلها الدَّأْماء
يُلهِبُ الحقدُ والعِداء مآقي ... ها، وتَنْزو في صَدْرِها الأَدْواء
وابنُ أيُّوبَ يُطفئ النَّارَ بالحِلْ ... مِ وتجري بنصرِهِ الأَنباء
ويفكُّ الملُوكَ صَفْحاً وَمَنّاً ... بعدَ أَسْرٍ يعزُّ فيهِ الفِداء
أنتمُ تَعرفونَ عدلَ صلاحِ ال ... دّينِ وسْطَ العجاجِ يا طُلقاء؟
لم يهجكم للنّار دينٌ، ولكنْ ... جَشَعُ الذّئبِ أَثملَتْهُ الدّماء
أي دينٍ يُحلُّ ذبحَ اليتامى ... أيُّ شرعٍ تُبادُ فيه النساء
الأحابيشُ دينُهم مثلكم سَمْ ... حٌ كريمٌ، لكنَّهمْ ضُعفاء
وجلودُ الغُزاةِ بيضٌ لِطافٌ ... أين منهنَّ جِلْدَةٌ سَوداء؟!
إنما العُرْبُ نعمةُ اللهِ في الأرْ ... ضِ وهْم في ظَلامِها الأضْواء
لَهُمُ العزَّ والنَّبَوَّةُ فيها ... ولَهُمْ دونَ أهلِها الكبرياء
حملوا مشعلَ الحضارةِ والكو ... نُ ظلامٌ وحيرة وعَماء
هم شموسُ وصَفْوَة خلقِ اللّ ... هـ والمُخلَصونَ والحُنَفاء
كلُّ مجدٍ لمجدِهم يخفضُ الرَّأْ ... سَ خشوعاً ولو نَمته السَّماء!!
دمتِ قُدْسَ العُلى ودام لكِ العِزُّ ... وذلَّتْ في غابكَ الدُّخَلاء
دمتِ فوقَ السُّها ودامَ لكِ العُرْ ... بُ فداءً، وطابَ هذا الفِداء!
(دمشق)
أمجد الطرابلسي