مجلة الرسالة/العدد 246/مجد العرب والإسلام
→ الهجرة | مجلة الرسالة - العدد 246 مجد العرب والإسلام [[مؤلف:|]] |
إلى حجاج الجامعة المصرية ← |
بتاريخ: 21 - 03 - 1938 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
في سنة 1909 كنت في جامعة من جامعات انجلترة، وكان أحد أساتذتنا في الجامعة قد دعاني إلى وليمة أعدها إلى كما دعوته إلى مثلها؛ وكانت هذه الدعوات عادة الأساتذة والطلبة، فجلسنا إلى مائدة الطعام ولم يمنعنا من الحديث فيما هو عملنا وبحثنا وهو التاريخ كما تفعل كل طائفة، فإن الناس لا يمتنعون حتى في مباذلهم وأوقات راحتهم عن الحديث في أعمالهم اليومية. ولما كان الإنجليز أمة تجار وتكثر في إنجلترة الدكاكين فقد اشتقوا في لغتهم عبارة يعبرون بها عن هذه الظاهرة. فكلما تكلمت طائفة في أمر من أمور أعمالها اليومية قالوا إن حديثهم كان دكاناً أو عن الدكان حتى ولو كانت الطائفة من المشتغلين بالعلم وليس لهم دكان
فأخذنا في الحديث عن التاريخ والحضارات، وكان أستاذنا صاحب الدعوة قد عودنا الصراحة في القول والتفكير والبحث، فكان لا يخفي رأيه في أمور حضارتنا كما كنا لا نخفي رأينا عنه في أمور قومه وتاريخهم وحضارتهم. وكانت المناقشة لا تتعدى الوقار والأدب. فقال الأستاذ إن التاريخ يدل على أن مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الأوربية قديماً وحديثاً كانت أعظم من مظاهر الرحمة في الحضارات والدول الشرقية، وقال إن هذا يدل على أن الحضارات الأوربية قديماً وحديثاً أرقى من الحضارات الشرقية، وكان الأستاذ يعرف حوادث تاريخ الشرق والغرب في القرون الوسطى لأنه كان أستاذ تاريخ تلك العصور فذكر لنا قصة رجل خرج على الرشيد فظفر به الرشيد ومثل به تمثيلاً شنيعاً، ثم ذكر قصصاً عن سلخ بعض الفاطميين أسرى من أسراهم وهم على قيد الحياة. فقلت يا أستاذ: هذا تعميم كبير، ولا يتفق مثل هذا التعميم مع العلم الذي يتقضى فروق الزمان والمكان واختلاف طبائع الناس وحكامهم وتباين آرائهم وميولهم النفسية؛ وذكرت له كيف أن سيدنا علي بن أبي طالب (رضه) عندما أصابه عبد الرحمن بن ملجم أوصى قبل موته ألا يمثلوا بقاتله. وذكرته بالتمثيل الشنيع الذي كان حظ من يحاول قتل أمير أو ملك من ملوك أوربا في تلك العصور؛ وذكرت له قصصاً من قصص عدل الخلفاء الراشدين وأخرى من قصص حلم معاوية للدلالة على اختلاف الطبائع وسموها، فذكرت فيما ذكرت قصة المرأة التي لم تجد قوت عيالها وكيف بكى عمر بن الخطاب (رضه) من خشية الله عندما سمع صياحها واستغاثتها، ووصفت اهتمامه وخدمته لها وهو خليفة وحاكم من كبار حكام الدنيا؛ وذكرته بتقرب الإغريق وهم منبع النور والرحمة والعلم والحضارة في أوربا إلى آلهتهم بالضحايا البشرية في عصر من أزهى عصورهم وهو عصر حربهم مع الفرس، فقد أسروا أولاداً صغاراً من بيت الأمارة في فارس فقدموهم ضحايا لآلهتهم كي تمنحهم النصر. وذكرته بالرومان وما جره ازدراؤهم للحياة البشرية من الفضائع، وقلت إن القسوة ليست مقصورة على الشرق، وليست الرحمة مقصورة على الغرب؛ وذكرته بفضائع الأشراف والأمراء في قلاعهم في العصور الوسطى وما نال اليهود وغير اليهود من أهوال؛ وذكرته بجرائم عصر إحياء العلوم وهو من العصور الأوربية الزاهرة وأساس حضاراتها الحديثة؛ وأشرت إلى محاكم التفتيش وتمثيلها بضحاياها؛ وذكرته بالفظائع الدينية والسياسية في عهد أسرتي تيودور وستوارت، وقبلها في عهد أسر بلانتاجنت ويورك ولانكستر؛ وذكرته بقسوة القانون الذي كان يشنق الطفل الصغير الجائع من أجل لقمة، وبمغالاة رجال القانون في أوربا في العصور الوسطى مغالاة أدت بهم إلى محاكمة الحيوانات العجم وشنقها أو إعدامها أو التمثيل بها بعد محاكمة طويلة تذكرنا بقول الشاعر العربي وهو يسخر من حاكم أحمق:
أقاد لنا كلباً بكلب ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وذكرته بالويل والهلاك وكانا نصيب كثير من النساء اللواتي كن يتهمن بالسحر في أوربا حتى في العصور القريبة المتحضرة. ثم ذكرته بما كانت عليه أوربا من القسوة والهمجية بينما كانت مظاهر الرحمة والنور تنبعث من أسبانيا العربية. وذكرته بما كان يرتكب في الحروب الدينية في أوربا من قسوة لا حد لها وتمثيل شنيع؛ وذكرته باستعباد الأطفال والنساء في المصانع قبل التشريع الحديث؛ وذكرته بأسبانيا وما صنعته مع العرب واليهود، وما ارتكبته في ممتلكاتها الأمريكية مع الهنود الحمر من فظائع تقشعر منها الأبدان، وما فعله المخاطرون الأوربيون في جزر المحيط الهادي من قسوة، وما فعله رجال بعض الدول الأوربية - حتى في عصرنا هذا - مع السكان الآمنين في أوقات الحروب من قسوة وتعذيب وتقتيل وتمثيل. قال الأستاذ: كل هذا لاشك فيه، ولكن كان الحكام في أوربا إذا فعلوا شيئاً مما ذكرت يجدون في شعوبهم من يجرؤ على نقدهم؛ أما في الشرق فلا. فذكرت له كيف كان الواعظ يدخل على الخليفة فيقرعه حتى يبكي كما فعل أحدهم مع هرون الرشيد، وذكرت كيف أن من القضاة من كان يزهد في منصب القضاء وإن أوذي من أجل رفضه. قال الأستاذ: يخيل إلي أن الحكم على حياة أمة من الأمم حكما عاماً من حيث مظاهر الرحمة أو القسوة فيها من الصعوبة بمكان، أو لعله ليس من المستطاع، لأن المؤرخين لم يكن ميزانهم للحضارات وقياسهم لها بميزان الرحمة ومظاهرها فلم يحصوها كلها، ولو فعلوا لاستطعنا أن نحكم بإحصائهم. قلت: إذاً. لا نستطيع أن نقول على التعميم إن مظاهر الرحمة في الحضارات الأوربية كانت دائما أكثر من مظاهرها في الحضارات الشرقية أو العربية الإسلامية. قال الأستاذ: ربما كان الأمر كما تقول، ولكن العرب أصلهم قوم بدو، والرحمة في كثير من الأحايين لا تصل إلى قلوب البدو، لطبيعة أرضهم الجرداء القاسية وصعوبة نيل الرزق، فأعدتهم أرضهم القاسية بقسوتها. ولعلك تذكر غارات القبائل بعضها على بعض حتى بعد الإسلام، وما كان يحدث في تلك الغارات في بعض الأحايين من قتل النساء والأطفال. ولعلك تذكر أيضاً كيف كانوا يعاملون الحجاج الذين يقصدون مكة. ومن أجل هذه الطباع فيهم دخلت الحدود في الإسلام لتكبح جماح البد، وأريد تطبيقها في بلاد طبيعة أهلها وطبيعة أرضها غير هذه الطبيعة. ومن أجل شدة الحر في بلاد العرب وإطلاق البدو أنفسهم على سجيتها دخل في الإسلام رجم الزاني ثم نقل إلى بلاد أخرى. قلت: يا أستاذ فرض على الحاكم أن يدرأ الحدود بالشبهات، وذكرت له قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي بكرة، وكيف أنه جعل يلتمس الشبهات في شهادة الشهود حتى نجي الرجل من حد الزنى، وذكرته أن التعزيز من عقوبات الإسلام، وذكرته بما يفعله الناس في أمم أوربا وأمريكا إذا قصر القانون أو استبطئوه، فإنهم يختطفون المتهم ويعاقبونه أقسى عقاب، وقد يمثلون به أشنع تمثيل؛ وقد يكون الرجل بريئاً مما نسب إليه. وذكرته بما تفعله أحدث الدول الأوربية إذا اضطرب حبل الأمن في بقعة شرقية. وقلت له إن الحدود لم تمنع انبعاث مظاهر الرحمة والنور في أسبانيا العربية بينما كانت أوربا غارقة في بحر من ظلمات الجهل والقسوة، ويشهد بذلك كثير من المؤرخين الأوربيين
والى هنا انتهى حديثي مع ذلك الأستاذ الجامعي بعد أن ذكرته بأن سوء ظن الأمة بالأمة، وأهل القارة بأهل قارة أخرى، هو من قبيل سوء ظن الإنسان بإنسان آخر لا يعرفه أو لا يعرف عنه إلا القليل، وهي ظاهرة في النفس الإنسانية عامة يستوي فيها العالم والجاهل والفطن والغبي والمنصف والظالم
أقول إن هذه الظاهرة هي سبب ما نراه من نكران بعض المؤرخين الأوربيين لفضل العرب على الحضارة الأوربية أو تهوينهم أمر أثر العرب في تلك الحضارة، فبعضهم لا يقرون للعرب إلا بأنهم كانوا قنطرة عبرت عليها علوم الحضارة الإغريقية الرومانية إلى الحضارة الأوربية الحديثة، وبعضهم يقول إن الحضارة الأوربية كانت نامية لا محالة حتى لو أن أوربا لم تتأثر بالحضارة العربية. ويقول إن العرب لم يكونوا كل مصادر الحضارة الأغريقية، وإن المصادر الأخرى الأوربية كانت أجدى وأنفع وألصق. ومما يؤسف له أن بعض الشرقيين قد جاروا هؤلاء في دعواهم من غير تقص ولا بحث عميق
إن الحضارة الأوربية كانت حقيقة نامية لا محالة لأسباب داخلة في تاريخها؛ ولولا استعداد الأوربيين للتأثر بالحضارة العربية ما أمكنهم قبولها؛ واستعدادهم هذا يدل على بدء نحو الحضارة فيهم؛ ولكن هذا لا ينفي أنهم تأثروا بالحضارة العربية تأثراً كبيراً. ولا تزال المعركة الكلامية قائمة بين من يمجد أثر العرب في الحضارة الأوربية ومن يقلل من أثرهم من المؤرخين. والفريق الثاني ينظر إلى العيوب ويغفل عن الحسنات، فينظر مثلا إلى إضاعة بعض علماء العرب وقتهم وجهدهم في محاولة كشف إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة، ويغفل كشوفهم العديدة وفضلهم على العلوم الحديثة على اختلاف أنواعها، فيغفل فضلهم في نقل الورق إلى أوربا، ولولاه ما أجدى اختراع المطابع وتحسينها، ولا كانت للحضارة الحديثة مظاهرها الشاملة؛ ويغفل ما نقلوه إلى أوربا من المصنوعات والمنسوجات والمزروعات المختلفة، وما أعطوهم من مخترعات مثل الإسطرلاب وبيت الإبرة والعدسة؛ ويغفلون فضلهم على الطب والتشريح والفلك والعلوم الرياضية وأنواع الهندسة والكيمياء، كما يغفل أثرهم وقدوتهم في وسائل الري وإعداد المدن بوسائل الراحة والرفاهية والنظافة كما فعلوا في إسبانيا وغيرها. ويغفل أثرهم في العلم والتعليم وكيف انتشر التعليم والاشتغال بالعلم انتشاراً لم يكن له مثيل. وقد أقر المؤرخ دريبر في كتاب (نحو الفكر الأوربي) بهذا التعصب ضد الحضارة الإسلامية كما أقر به ماكاب في كتاب (مجد إسبانيا العربية). وقد ظهر أثر العرب في التحاق أبناء الأغنياء الأوربيين بمدارسهم، وكانوا يتجشمون الأسفار من أجل ذلك. وقد تعلم في مدارس العرب بعض رجال الدين المسيحي ومنهم البابا سلفستر؛ ونشر العرب مبادئ الفروسية وأخلاقها وسجاياها من شهامة ونجدة ظهرت في بدء عصر الفروسية، وكان لهم أثر في تكوين آداب اللغات الأوربية الحديثة، فظهر أثرهم في شعراء الرومانس والتروفر والتروبادور كما ظهر في آراء المصلحين الدينين وفي رحلات الكشوف
وللمؤرخ (ماكاب) رأي يتفق ورأيه الديني وهو أن الحضارة العربية في الأندلس لم يقض عليها الترف والتنعيم والضعف، وإنما قضى عليها التعصب الديني من جانب الأسبان المسيحيين بعد أن أضعفها التعصب من جانب المرابطين والموحدين وإن صدوا الأسبان عنها زمناً. ولا يقصر هذا المؤلف وصفه على الحضارة العربية في الأندلس، بل يصف الحضارات العربية في بقاع أخرى
ولم يكن العرب وحدهم بناة هذا المجد وهذه الحضارة، بل اشترك في بنائهما الأمم التي اعتنقت الإسلام وتعلمت اللغة العربية حتى صارت لغة لها
عبد الرحمن شكري