مجلة الرسالة/العدد 245/عود إلى داء الشعور بالحقارة
→ (سارة) | مجلة الرسالة - العدد 245 عود إلى داء الشعور بالحقارة [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 14 - 03 - 1938 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
والمصاب بداء الشعور بالحقارة إذا أفدته علماً أو مالاً تباهى به عليك وتلمس الوسائل كي يظهر بمظهر المانح كأنما يمنحك فضلاً أو عوناً، إما بأخذه ما أخذ منك، وإما بدلا منه. وهو لا ينسى لك فضلاً ويحسدك على نعمتك حتى تزول ولو كان في زوال نعمتك زوال نعمته، ويحاول أن يخفي فضلك عليه حتى على أكثر الناس علماً بما أفدته، ويحاول أن يجند منهم أعواناً له ضدك بأن يظهرك بمظهر العداوة لهم وقلة الخير والزهد فيهم، فإذا عاتبته واضطررت أن تذكره بمعونتك كي تبتعث الحنان في قلبه عد إشارتك التي استثارها بعمله أو حديثه امتناناً منك عليه، فيزداد لك عداوة. وهو بالرغم من مقابلته المعروف بالإساءة يطمع في المزيد مما عندك وإن ظهر بمظهر العائف له. وهو سلاح في يد أعدائك حتى وإن لم يدر ذلك، لأنه قد يغالط نفسه أو يغالطونه ويخادعونه
ومن المصابين بداء الشعور بالحقارة من ينغص عيشة من يعاشره بإظهار حدة الطبع ورفع الصوت والعراك، لأنه يرى في كثرة العراك تعاظماً وتعالياً يخفي ما يشعر به في سريرة نفسه من الوجل والخوف من أن يحقر. ومن المصابين بهذا الداء من يعد سفاهة لسانه سياجاً يحوط به عظمته الموهومة التي يخفي بها ما هو كامن في سريرة نفسه من الشعور بالحقارة التي قد يظنها عظمة
ومنهم من يتلمس الفرص كي يسمع الناس صوته كأنما صوته جرس يدق إيذاناً بالعظمة التي يخفي بها خوفه من التحقير
وترى الواحد من هؤلاء لا يتعفف عن مدح نفسه والإشادة بآرائه وأفكاره وإعجاب الناس بها واحترامهم إياه بسببها، وهذه الخطة قد تكون مكراً ووسيلة كوسيلة التاجر في الإعلان عن بضاعته وإن عرف أن بضاعته غير مزجاة؛ وصاحبها مع ذلك مطمئن النفس لا يبالي إذا لم يصدقه السامع، ولكنها قد تكون خطة مسعور متكالب على الناس يرجو احترامهم ولا يستطيع أن يعيش من غيره ولا يهنأ حتى ولو فقد مثقال ذرة منه، وهو يتفرس في وجوه الناس كي يرى هل صدق السامع حديث إعجاب الناس به. وكلما كان الرجل من هؤلاء المصابين بداء الشعور بالحقارة مفلساً من المال أو الجاه أو العلم كان حقده أشد، ونكايته أنكى، وصوته أكثر إيذاناً بالعظمة التي يحاول أن يخفي بها المرض. وقد تزول أسباب المرض من إفلاس في مال أو علم أو جاه، ولكنه يبقى طبعاً في النفس لا تستطيع مداواته. ومن العجيب في أمر المصابين بداء الشعور بالحقارة أنهم قد يخلصون أو يتظاهرون بالإخلاص - وهو الصواب - لمن لا يرجون منه خيراً ولا نفعاً، ويختصون بالإعنات من يرجى منه الخير أو من أصابهم منه خير، لأن الدَّينَ ربما عدوه نقصا. وهؤلاء المصابون بداء الشعور بالحقارة يود بعضهم بعضا بالغريزة، ويساعد بعضهم بعضا مادام ليست بينهم خصومة على خير مرجو، ومادام لا يحجب أحدهم الآخر عن الظهور؛ وهم عندما يساعد بعضهم بعضا يكونون كأنما هم حِلف على الباطل قد عمل بحرف الحديث: (أنصر أخاك ظلماً أو مظلوما) وأغفل معناه الحقيقي؛ وهم إذا تعاونوا على الباطل يعرفون أنهم لا يشبعون نهمتهم من العظمة الباطلة التي يخفون بها ما كمن من الشعور بالحقارة إلا بالتساند؛ أما إذا تخاصموا على مظهر من مظاهر التعاظم فلا يتعففون من التحارب بأقذر سلاح كما كانوا يتعاونون به
وهم يضحون بالسعادة والصحة والمال وبأحب عزيز وبسعادة كل من يعقوهم كي يبلغوا مظاهر التعاظم التي يخفون بها ما كمن في العقل الباطن وفي السريرة من الشعور بالحقارة. وإذا بلغ هذا المرض أشده لم يحجم صاحبه عن الجرائم؛ وقد يؤدي إلى الجنون وهو مرض شائع، وبعض مظاهره ليست حادة ولا مسببة للحزن والتعاسة كما تسبب حالاته الشديدة. فمن حالاته البسيطة التي ربما كانت تدعوا إلى الفكاهة أن يقابلك إنسان مصاب بهذا المرض وهو يعرف اسمك تمام العرفان فيناديك باسم آخر، فإذا كان اسمك محمدا قال: كيف حالك يا مصطفى بك؟ وهو يفعل ذلك كي يشعرك أنه أعظم شأناً من أن يتذكر اسمك؛ فإذا صححت له اسمك اعتذر ثم يعود بعد قليل فيناديك بالاسم الخطأ: قائلاً أليس الأمر كذلك يا مصطفى بك؟ ولا يناديك باسمك مهما صححت خطأه. ومنهم الصغير المنزلة الذي يقابلك فيتلطف في الحديث فإذا لمح إنساناً يعرفه رفع صوته بلهجة الآمر كي يشعر السامع أنك تقبل منه هذه اللهجة لعظم أمره. ومنهم صاحب الأباريق في قصة الموظف المشهورة الذي أحيل على المعاش فاشترى أباريق وملأها ماء وجلس عند المسجد الجامع يقول لكل طالب ماء بلهجة الآمر: خذ هذا. . . لا تأخذ ذاك. وهذا المثل الأخير قد يكون من أمثلة داء الشعور بالعظمة، والحقيقة أن مظاهر داء الشعور بالعظمة، ومظاهر داء الشعور بالحقارة قد تختلط، ولكن المحك الذي تعرف به وتميز هو إما ثقة صاحب الداء بنفسه وعظمتها ثقة لا تدعو إلى القلق، وإما أن مظاهر تعاظمه يخالطها القلق والحقد والحسد والدناءة والسفالة، فالأول أكثر اطمئناناً حتى أنه قد لا يشعر بمخر الساخر به، وقد يكون في تكبره كريماً أو رحيم النفس، وهو إذا ارتكب إثماً فإنما يرتكبه باسم العظمة والإصلاح، ويرتكبه وهو مطمئن وادع لا حقد يشوب إثمه ولا قلق ولا دناءة كما تشوب هذه الصفات إثم المصاب بداء الشعور بالحقارة، والأول إذا تواضع تواضع في كبر المبالغ الواثق بنفسه، وإذا تكبر تكبر بكبر الواثق بنفسه الذي لا يشعر بسخر الناس به، وهذا المصاب بداء العظمة لا يتلصص في تحايله ووسائله كما يفعل صاحب الشعور بالحقارة الذي هو أميل إلى الكيد والدس
والموظف الصغير المنزلة في المصرف أو في الدواوين الذي يتعالى ويتعاظم ويتصام ويتفخم ويحملق في وجوه أصحاب الحاجات ويتباطأ في إجابتهم من غير سبب أو معذرة إنما هو مصاب بداء الشعور بالحقارة. ولعله يتشفى بهذه الأحوال مما أصاب نفسه من تعاظم من هو أعلى منه منزلة تعاظماً شعرت به الذلة والمسكنة. وفي بعض حالات هذا المرض لا ترى سبباً ظاهراً له، فقد يصاب به الرجل من بيت عز وعلم فتتلمس العلل الخفية فتقول هل طغى عليه أبوه في تربيته في الصغر طغياناً يشعره الذلة والمسكنة، فإذا ورث أباه غطى ما ورثه على ذلك الداء من غير أن يعصمه من الأقوال والأعمال الناشئة منه، أم هل ورث هذا الشعور عن أجداده، أم أنه داء يعدي كما تعدي بعض الأمراض النفسية بالمحاكاة ولطول العشرة وحكم البيئة
ومما يلاحظ أن المحاكاة والعشرة والبيئة قد تنقل مظاهر هذا الداء في المدارس من تلاميذ مصابين به إلى تلاميذ على الفطرة والسذاجة. ولعل المدارس المصرية أكثر مدارس العالم ديمقراطية لكثرة مجانية الفقر للتفوق ولانخفاض المصروفات فهي تساعد انتقال الصفات من طبقة إلى طبقة، فالفقراء يحاكون الأغنياء فيخسرون، وأبناء الأسر الطيبة تحاكي أبناء أسر أقل طيبة فيخسرون أيضاً وإن كان لهذه الديمقراطية مزايا
عبد الرحمن شكري