الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 245/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 245/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 245
التاريخ في سير أبطاله
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 03 - 1938


ابراهام لنكولن

هدية الأحراج إلى عالم المدنية

للأستاذ محمود الخفيف

- 5 -

يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من

سيرة هذا العصامي العظيم

أبرزت السياسة مواهب ابن الأحراج وأثارت ما استكن في نفسه من معاني الإنسانية الصادقة؛ وأخذت الأيام تعده ليؤدي للبشرية رسالة. . . والعبقري مهما تناول من عمل فهو إنما يفرغ عليه من نفسه فيلبسه من المعاني مالا يستطيعه أو يحلم به الرجل العادي؛ ولقد يكون العمل في ذاته متواضعاً فما هو إلا أن يمر به قبس من روحه حتى يصبح وقد استعظم واستعلى وخرج بذلك عن ذاتيته

أخذ الطوال التسعة يعملون عملهم مع أقرانهم في المجلس، وكانت تشغلهم يومئذ مسائل كثير، فالبلاد تواقة إلى الإصلاح المحلي في شتى ضروبه، ومسألة العبيد يتزايد خطرها يوماً بعد يوم. . ولكن ابراهام حيال مسألة عارضة، تلك هي الدعوة إلى نقل مقر المجلس إلى مدينة أخرى يراها أحسن موقعاً وأوسع مجالا من فنداليا؛ وهو في ذلك يعبر عن رأي الكثيرين من ناخبيه، ومازال بالمجلس حتى ظفر بعد جهد - هو ومظاهروه - بإقناعه، ومن ثم أصبح مقر مجلس المقاطعة في سبرنجفيلد. . .

دخل إبراهام سبرنجفيلد على جواد هزيل استأجره، يحمل كل ما يملك من متاع الدنيا في عدل صغير، وفي جيبه مبلغ لا يقل عن سبعة دولارات! وكاهله مازال مثقلا بما سماه الدين الأهلي. . دخل المدينة الجديدة لا يدري أين يتخذ مأواه، أو على الأقل أين يلقي رحاله لساعته. وسيظل في هذه المدينة حتى يخرج منها إلى واشنجطون العظيمة ليأخذ مقعده في البيت الأبيض! وكانت المدينة يومئذ آخذة في الاتساع والنمو يسكنها ألف وثمانمائة نسمة، بيد أنها كانت لا تزال تعلق بها مسحة من الغابة إذ كان منبتها كغيرها أول الأمر وسط الأحراج؛ فهي كصاحبنا أيب تخلع عنها ما تخلف فيها من حياة الغابة شيئاً فشيئا

قصد إبراهام إلى حانوت يملكه رجل من كنتوكي كانت له به من قبل معرفة طفيفة، وأقبل على ذلك الرجل ومتاعه على ذراعه يسأله عما يلزم من المال لشراء سرير وفرش، فلما أخبره الرجل بما يلزم أخذته الحيرة وقال له: (إني سأحترف المحاماة ولي في الربح أمل، فهل لك أن تعطيني طلبتي على أن تمهلني إلى عيد الميلاد القادم؟) ثم أردف قائلاً: (وإذا أنا عجزت يومئذ عن أن أدفع لك حقك فلست أعلم هل أستطيع أن أؤدي لك ذلك أبدا؟) وكان الرجل طيب القلب فما لبث أن ملكته الشفقة على ذلك الغريب الذي يبدو له من أمانته بقدر ما يبدو من فقره؛ لذلك آواه عنده وعرض عليه أن يقتسم وإياه سريره القائم في حجرة صغيرة هناك فوق الحانوت؛ وصعد إبراهام إلى الحجرة فألقى عدله. ونزل وعلى وجهه أمارات الرضا. . .

كان إبراهام مزمعاً أن يتخذ من المحاماة مرتزقاً، وهو قد ترك العمل في البريد وفي تخطيط الأرض منذ أن هم بالرحيل إلى سبرنجفيلد، فأقبل على كتب القانون يستزيد منها علما؛ وكان يعيره بعض الكتب محام في المدينة يدعى ستيوارت. ورأى ستيوارت من ذكاء صاحبه وطيب سريرته وحسن طويته ما دعاه إلى أن يشركه في العمل معه؛ وقبل إبراهام ذلك مغتبطاً مسروراً يحس كأن الأيام توشك أن تبتسم له بعد تجهم وعبوس، فله اليوم في السياسة مجال وله في المحاماة مجال

بيد أن هناك من الأمور ما لا يزال يكدر خاطره ويكرب نفسه. . . ذلك ما كان من غرامه الثاني إن جاز لنا أن نسمي علاقته الجديدة بعد موت آن غراما

الحق أن هذا الجانب من حياة لنكولن، جانب علاقته بالفتيات، أمر يدعو إلى العجب حتى ليحمله المرء على ما كابد من شذوذه أكثر مما يحمله على ما كان من حصافته ولقانته. عرف لنكولن فيمن عرف من أهل نيوسالم امرأة كانت تضيفه أحياناً فتحسن ضيافته، وظل يغشى منزلها زمناً حتى أصبح كأنه من أهلها. وحدثته تلك المرأة فيما حدثته عن أخت لها غائبة ألقت عليها من الصفات ما تبتكره أخت لأختها حين تبحث لها من الشباب عمن يطلب يدها. ورد إبراهام مرة فقال وهو لا يدري أمازح هو فيما يقول أم جاد: إنه يرحب بالزواج من تلك الأخت، وكان قد رآها قبل ذلك بثلاثة أعوام، فلما عادت كانت تجلس إليه ويجلس إليها. . .

وصور له خياله الخصب أن كلمة ميثاق لن يسمح له ضميره أن يتحلل منها. بيد أنه في حيرة دونها كل ما سبق من حيرة! لا يحس في قلبه ما يحسه المرء حين يمر به طائف من الحب؛ وهو مع ذلك لا يستطيع أن يقطع أنه لا يحبها!

لعل ما هو فيه اليوم من أمور السياسة ومن شؤون المحاماة يصرفه حيناً عن وساوسه وهواجسه؛ لقد أخذ ستيوارت القضايا الكبيرة وترك لإبراهام ما خف من القضايا؛ ولكن الحوادث ساقت إليه قضية معقدة اكتسبها ونمى إلى الناس خبرها فما لبث أن أصبح في مهنته الجديدة ملحوظ المكانة

وكان دستوره في المحاماة منبعثاً من أعماق نفسه، لذلك كان قائما على توخي الحق والدفاع عنه ونصرة المظلومين والضعفاء؛ كان لا يقبل قضية لا يقتنع بصدقها، ولا يقرب قضية يعلم أن الدفاع فيها يمس الخلق من قريب أو بعيد، وكان أسلوبه في المحاماة كذلك صورة لنفسه، لا يعرف اللجاج ولا المطاولة ولا يلتوي في أمر أو يخفي في نفسه شيئاً لغاية في نفسه إلا إذا كان ذلك لستر عرض أو لحفظ كرامة، على ألا يكون للمجاملة حساب في نفسه إذا انبنى عليها إساءة إلى الفضيلة أو انتقاص للعدالة

وخفت وطأة الأيام عليه حيناً، فمكانه في المحاماة - وهو يومئذ لم يعد الثامنة والعشرين - كما علمت؛ ومكانه في السياسة قد جعله رأس حزبه في المجلس، وهو كما مر بك حزب الهوجز؛ وهو إلى ذلك حبيب إلى أهل سبرنجفيلد لما كان له من يد في نقل المجلس إليها، ولما آنسوا من طلاوة حديثه وروعة قصصه وعذوبة نفسه. ولقد توثقت المودة بينه وبين الكثيرين وعلى الأخص بينه وبين سبيد صاحب الحانوت. . .

وكان من أحب الساعات إليه تلك التي يجتمع فيها وجماعة من حزبه في حانوت سبيد فيتحدثون ويقلبون الآراء في السياسة وقضاياها. ومن تلك الجماعة من سيكون لهم في الغد شأن في سياسة بلادهم، على أنه مهما يبلغ من شأنهم فسيظل دون ما سيكون لابراهام من شأن. وممن كانوا يختلفون إلى ذلك المنتدى رجل من الحزب الديمقراطي صغير الجرم يدعى دوجلاس، عرف لنكولن أيام كان المجلس في فنداليا، وقد اشتهر بلباقته وحدة ذكائه وعرف إلى جانب ذلك بالأثرة والغيرة والطمع في عليا المراتب. وكأنه كان يغار من لنكولن؛ أو لعله كان يدرك منذ ذلك التاريخ أنه إن بذ الرجال جميعاً فإنه لن يلحق بهذا الرجل. وسيكون بينهما من التنافس ما يفتح صفحات ممتعة في حياة لنكولن

ولم يكن نشاط لنكولن قاصراً على المجلس والمحكمة وحدهما بل لقد كان نشاطه خارجهما باعثاً على الإعجاب جديراً بالثناء، فهو داعية إلى الثقافة، حاث على الإصلاح بما ينشر ويذيع؛ وذلك لعمري جد عجيب من رجل كان قبل ذلك ببضع سنين يقطع الأخشاب في الغابة يشتري بالمئات منها سروالا!

وحسبك منه ما ترى في تلك الخطبة التي ألقاها في ناد من أندية المدينة، وإليك بعض ما قاله: (إذا كان ثمة خطر يتهدد الولايات فمصدر ذلك الخطر من داخلها. يجب أن نعيش أبداً أمة حرة أو نقتل أنفسنا؛ إنما أشير إلى ما يتزايد من عدم مراعاة القانون في البلاد) ثم يذكر حادثاً خطيراً من حوادث الاغتيال ويعلق عيه بقوله: (تلك هي المناظر التي تتزايد يوماً بعد يوم في هذه الأرض التي اشتهرت أخيراً بحب القانون والنظام. . . وماذا عسى أن نصنع لنقف في وجه هذا؟. الجواب يسير: ليقسم كل أمريكي، كل عاشق للحرية، كل ذي نية طيبة نحو الفَلاح، ليقسم كل بما جرى من دماء في الثورة ألا يتعدى قوانين البلاد في أي جزئية منها، وألا يسمح للغير بتعديها، وكما فعل رجال عام 1776 في تعضيدهم حركة إعلان الاستقلال، كذلك ليفعل اليوم كل أمريكي في حرصه على الدستور والقانون؛ وليقدم كل في سبيل ذلك حياته وشرفه المقدس وما ملكت يداه. إن في النابهين الطيبين من الناس ممن تتوفر فيهم الكفاية لأن يحسنوا أي عمل يوكل إليهم - كثيرين لا تمتد أطماعهم إلى ما هو أبعد من مقعد في المؤتمر أو من مركز في الحكومة أو من وصول إلى كرسي الرياسة؛ ولكن هؤلاء لا ينتمون إلى أسرة الضراغم ولا إلى جماعة النسور. واهاً! أتظنون أن مثل هذا يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد! كلا. إن العبقرية الشامخة لتحتقر الطريق التي وطئتها الأقدام من قبل. . . لقد كانت العواطف قبل عوناً لنا ولكنا لن نركن إليه اليوم ولسوف تكون في المستقبل عدواً لنا، ألا لتكن الحكمة الباردة الحاسبة التي لا تعرف العواطف هي التي تمدنا بما يلزمنا في مستقبلنا من أسباب القوة والدفاع) يا ابن الغابة يا ربيب الفقر والبأساء! أنى لك هذا كله! ألا إنها العبقرية تستعلن في الخطابة وتحمي على الحماسة وإن خفيت في الحديث الهادئ أو في القصة الوادعة!

وماذا يريد لنكولن بإشارته إلى العبقرية الشامخة وما تتطلع إليه؟ هل كان يرسم لنفسه ما يجب أن يفعله في غد؟ كلا. ما كان يدرك يومئذ أو يحس أن له في غد من عمله ما هو حري أن يملأ عين اسكندر آخر أو قيصر ثان أو نابليون جديد

ومما عرف عنه في السياسة موقفه فيما كان في تلك الأيام من أمر العبيد. فلقد انبعثت صيحات قوية من أولئك المتطرفين من أهل الشمال الذين أهابوا بالمؤتمر أن يعلن تحرير السود في جميع الولايات؛ وهو يومئذ مطلب جريء بل لقد كان يعد في تلك الأيام حلماً من الأحلام. وقف ابراهام من تلك الدعوة موقفاً ينطوي على الكياسة وبعد النظر، ويكشف عن ناحية أخرى من نفس هذا السياسي الناهض، تلك هي ناحية التعقل والنظر إلى حقائق الأمور دون مغالطة فيها أو تغاب عنها

كان إبراهام يمقت نظام العبيد من أعماق نفسه وهاهو ذا يجد نفسه اليوم بين أمرين: تطرف الداعين إلى القضاء على هذا النظام طفرة، وما اتخذه مجلس مقاطعته من قرارات رجعية لم يستطع هو وأنصاره تلافيها. أما عن قرارات المجلس فإنها كانت على الأرجح تعبر عن ميل أعضائه وخاصة الديمقراطيين إلى محاربة الدعوة القائمة لتحرير العبيد؛ وكان أن أعلن إبراهام هو وزميل له احتجاجاً على قرار المجلس يتضمن أنهما وإن كانا يريان مسألة العبيد قائمة على الجور وخطل السياسة إلا أنهما يعتقدان أن ما يدعو إليه المتطرفون إنما يساعد على ازدياد الخلاف بين الولايات؛ كذلك هما يعتقدان أن موقف المجلس في قراراته لا يطابق الدستور. ولقد ذاع في الناس هذا الاحتجاج فأضافوه إلى ما عرفوه عن لنكولن من حميد الخلال؛ وهاهو ذا ينتخب للمرة الثالثة وهو في التاسعة والعشرين؛ يطول باعه في المحاماة كلما تصرمت الأيام، وترسخ قدمه في السياسة، ويعلو كعبه في الخطابة. وكان أكبر معارضيه ومناوئيه إذ ذاك دوجلاس وكانت له مواقف يظهر فيها على إبراهام في المجلس بلفتات ذهنه ولباقته، وسرعة انتقاله من فكرة إلى فكرة ومن قضية إلى قضية؛ ولكن إبراهام كان المتفوق الظافر إذا كان الأمر أمر إخلاص أو أمانة أو بعد نظر أو دقة تحليل. وأحب الناس في المجلس وخارجه مما أحبوا من صفات لنكولن الخطيب تساوق عباراته ودقة ألفاظه في التعبير عما يريد؛ وأحبوا منه فوق ذلك براعته في التهكم، تلك الخلة التي كان لا يطيقها معارضوه، كما أنسوا إلى تلك الأمثال البارعة التي لم يك يفتأ يضربها للناس في جلاء وبصيرة يستعين بها على بيان ما يريد

لم تلهه السياسة وشواغلها ولا المحاماة وقضاياها، ولا الجلسات في حانوت سبيد وما كانت تثير في نفسه من لذة. . . لم يلهه ذلك كله عن نوازع قلبه وخلجات نفسه؛ وأنى له ذلك وقد كانت ماري أوين، تلك الفتاة التي ارتبط بها، تلقاه بعد أن تزور أحياناً بعض ذوي قرباها في سبرنجفيلد فتراه ويراها، كما كان هو يذهب إلى نيوسالم فيغشى بيت أختها. إن أمره عجب في ذلك! لا يستطيع أن ينصرف عنها ولا يستطيع أن يؤمن أنه يحبها! تلك حال من حالات الشباب؛ أو هي حال من حالات لنكولن العجيب

كانت علاقتهما علاقة فتور يتجلى لهما في عدة مواقف، ولكنهما كانا في موقف تحسب الفتاة أنه لم يبق إلا أن يتقدم صاحبها بالاقتراح، ويحسب الفتى أنه لم يبق إلا أن تنأى بجانبها عنه فتريحه. لقد كان منقبض النفس لهذه الحيرة يجعل للمسألة من الأهمية أكثر مما لها. نلمس ذلك في مثل قوله: (لم أجدني مرة مدة حياتي في قيد حقيقياً كان أو خيالياً أرغب في التحرر منه مثلما أرغب في التحرر من هذا القيد)

وجمع أمره فكتب إليها خطاباً رقيقاً محكماً يشير فيه إلى دخيلة نفسه ويتلمس معرفة طويتها دون أن ينالها بكلمة قاسية. تكلم عن فقره وما عسى أن تجد عنده من تكون زوجة له، ثم قال (ربما كان ما قلته لي من قبيل المزاح وإلا فأظنني لم أفطن إلى مرماه. إن كان كذلك فدعيه إلى النسيان، وإن لم يكن كذلك فإني أحب أن تفكيري تفكيراً جدياً قبل أن تقطعي في الأمر؛ وسأكون عند ما قلت إذا كان ذلك ما تشائين. وإني أرى ألا تشائي ذلك فإنك لم تتعودي البأساء وربما كان الأمر أقسى مما تخالين) وكتب لها بعد ذلك لها بعد ذلك خطاباً أكثر صراحة جاء فيه: (إذا كنت تشعرين أنك مقيدة نحوي بأي رباط فإني أميل الآن إلى أن أطلقك منه إذا كانت هذه بغيتك؛ بينما أراني من جهة أخرى أميل إلى أن أمسكك عليّ إذا اقتنعت أن ذلك يزيد من سعادتك بقدر خليق بالاعتبار. تلك في الحقيقة هي المشكلة بالنسبة إلي)

تلك هي تعللات المتردد الحائر تصور لنا حالا من الحالات المستعصية على الفهم، بيد أن المسألة قد آلت آخر الأمر إلى الرفض وانصرفت عنه ماري أوين. وظل بعد انصرافه عنها حائراً لا يدري أيحمل ذلك على الفوز أم يحمله على الخيبة؛ على أنه يعلن في عزم مصمم أنه لن يفكر بعد في الزواج

ومن العظماء من تنطوي نفوسهم على نواحي ضعف تكافئ نواحي القوة فيها؛ ومن هؤلاء لنكولن، من نواحي ضعفه هذه الحيرة الخوارة إذا كان الأمر أمر نساء؛ فهل كان يرى في سكنه إلى زوجة قيداً يحرمه من حريته، أم هل كانت تعوزه الكفاية لهذا الغرض؟ من العسير أن نرد هذا إلى سبب واضح محدود. .

وما باله يتورط بعد ذلك في صلة جديدة؟! ينصرف عن ماري أوين ليتصل بماري تود؟ كانت هذه الفتاة تنتمي إلى درجة دونها درجته، وكانت مهذبة مثقفة، شديدة الذكاء، تدير الحديث إذا جمعها بالنابهين من أهل المدينة مجلس، فتسخرهم بتوقد الذهن وقوة المبادهة ولطف الإشارة وأناقة العبارة. وكانت ماري إلى ذلك ذات طمع وطموح، فكانت نظرتها إلى الشباب من طبيعة نظرتها إلى الحياة؛ المقدم فيهم عندها من تعرف أنه إذا نالت يده يخطو بها إلى ما تمد عينيها وخيالها من جاه ونفوذ. وكانت فتاة قلقة كأنها من فرط توثبها الطائر المدل لا يحط على غصن إلا ليثب منه إلى غصن. . .

وكان لنكولن ممن يختلفون إلى دارها الجميلة التي تدور بها حديقة صغيرة فينانة، كما كان دوجلاس ممن يختلفون إلى تلك الدار؛ كأنما صحت عزيمة هذا الرجل أن يأخذ على منافسه كل طريق! وأخذت الرجلين عينا ماري السريعتان النافذتان ولكنهما استقرتا على إبراهام. وكان دوجلاس خليقاً أن ينال عندها الحظوة بما كان يبدو من ذكائه ودهائه ولباقته وكياسته، وبما كان يشع من ظرفه وحسن سمعته وأناقة هندامه، ولقد كان يبتغي إليها الوسيلة، لا تفلت منه في ذلك فرصة ولا تفوته حيلة. ولكنها اتجهت إلى ابن الغابة في هندامه المتهدل القصير على جسمه المرهف الطويل ولم ينب في عينيها وجهه المسنون الذي يحمل من البلاهة بين يديها قدر ما يحمل من هموم الأيام، ولم ينب عن ذوقها شعره الأشعث الذي يصور للعين ألفاف الغابة!

ومضت الأيام وابراهام يتزيد من حبها بقدر ما يفقد دوجلاس؛ ولكنه يسر إلى صديقه سبيد أنه لا يشعر نحوها من الحب بما عساه أن يفضي إلى الزواج، ويهم أن يكتب إليها ذلك، فيشير عليه صاحبه أن يشافهها بالأمر، فيفعل، ولكنه يعود إلى صاحبه ليخبره أن لا مناص ولا حيلة، فهو اليوم رهين أسير، ذلك أنه ما كاد ينبئ ماري بما يعتقد حتى هبت من مقعدها صارخة تقول: أصبح المخادع هو المخدوع! قال لنكولن: (ووجدت الدموع تنحدر على خدي أنا فأخذتها بين ذراعي وقبلتها)

وظلت ماري بعد ذلك مدة عامين تحرص على ابراهام وتتحايل على كسب قلبه؛ فلقد كانت ترى منه ما يبشر بأملها المرجو، قالت عنه بعد ذلك بسنين: (لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أن قلبه كان من الكبر بقدر ما كان ذراعه من الطول). ولكن ابراهام كانت تأخذه من الهم غاشية كلما مال الحديث إلى الزواج، وعاد إليه تردده وتلدده، وعاودته الرغبة في التخلص من ماري تود كما تخلص قبل من ماري أوين. وكان يومئذ في حال إن لم نحملها على الخبل نحار على أي شيء غيره نحملها. وحسبك أنه ابتعد عنها بغتة في اليوم السابق ليوم الزفاف، وهو يأمل أن يسترد احترامه لنفسه ومقدرته على الحكم، ولكنه أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس. كتب إلى صديقه سبيد: (إما أن أموت وإما أن تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنا فيه من المستحيل) وبعد ذلك بأيام كان عند الطبيب

الخفيف