مجلة الرسالة/العدد 244/بين الوطنية والأممية
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 244 بين الوطنية والأممية [[مؤلف:|]] |
فلسفة التربية ← |
بتاريخ: 07 - 03 - 1938 |
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار بالعراق
تتمة
يجب أن تتفك أوصال الأوطان الموجودة وتنحل الروابط الوطنية الحالية. . يجب أن تزول كل هذه الروابط التي تجمع (العمال وأصحاب رؤوس الأموال) في كل وطن تحت لواء واحد، وتفرق بين العمال الذين ينتسبون إلى دول وأوطان عديدة. . . يجب أن تترك هذه الروابط الوطنية محلها إلى رابطة جديدة مؤسسة على أساس الطبقات. . . بهذه الصورة وحدها يتم النصر للنظام الشيوعي في كل العالم، وبهذه الصورة وحدها تتم سيادة العمال ورفاهتهم. . .
هذه هي - على وجه الإجمال - أهم الآراء التي تدلي بها (الشيوعية الأممية) في أمر النزعات الوطنية. . .
إن هذه الدعاية الشيوعية كانت تقوم على عواتق بعض الأفراد والجمعيات، حتى زمن الحرب العالمية. . . غير أن الشيوعيين تمكنوا - في أواخر الحرب العالمية - من الاستيلاء على مقاليد الحكمَ في دولة من أعظم دول العالم، وأسسوا فيها نظاماً شيوعياً. . . وهذه الدولة الشيوعية - أي روسيا السوفيتية - أخذت على عاتقها مهمة الدعوة إلى الشيوعية في كل أنحاء العالم، وصارت تقوم بهذه المهمة بكل ما لديها من وسائط مادية ومعنوية، من أموال وافرة إلى تشكيلات منتظمة. . .
إن آلام الفقر وآمال الرفاهة التي تستولي على نفوس العمال من جهة، والدعاية الخلابة التي تقوم بها روسيا السوفيتية - مستندة إلى تشكيلات واسعة النطاق ومحكمة الترتيب - من جهة أخرى. . . قوّت النزعة الأممية الشيوعية في بعض البلاد، وأقامت بهذه الصورة أمام النزعة الوطنية عدواً جديداً خطراً جداً. . .
والنزعة الوطنية لم تتقاعس عن العمل تجاه هذا العدوْ بطبيعة الحال. إنها أخذت تناضل الشيوعية بحزم شديد وقوة كبيرة، فانتصرت عليها في بعض البلاد، كما فعلت النازية ف ألمانيا والفاشية في إيطاليا. . . غير أن النضال لا يزال سجالاً بين النزعتين، مادة وجهاراً، كما في أسبانيا، أو معنى وخفية - كما في عدد غير قليل من سائر البلدان
فيجدر بنا أن نتعرف إلى أوجه هذا النضال من قرب، وبشيء من التفصيل:
إن الانقلاب الصناعي الذي بدأ في أوائل القرن الأخير - والذي لا يزال يستمر إلى الآن - زاد في فروق الثروة بين الناس زيادة هائلة، وأوصل مشاكل المعيشة إلى درجة لم يسبق لها مثيل. . . لا شك في أن هذا التطور العظيم الذي حدث في الحياة الاجتماعية كان يتطلب نظرات وأنظمة حقوقية جديدة تضمن للكل حق الحياة والعمل بالعدل الذي يقتضيه هذا التطور العميق.
غير أن الحكومات لم تقدر خطورة هذه الأوضاع حق قدرها، فلم تقدم على سن القوانين الضرورية لمعالجتها. . . وذلك أفسح مجالاً أمام أصحاب رؤوس الأموال للاستبداد بحياة العمال بدون تأمل، وللاسترسال في استغلال أتعابهم بدون إنصاف. . . وهذه الحالة ولدت الاشتراكية التي أخذت تطالب الحكومات بوضع حد لهذا الاستبداد، وسن قوانين جديدة تثبت حقوق العمل وتضمن إنصاف العمال، وتمنع تضخم رؤوس الأموال على شقاء الآلاف بل الملايين من العمال. . . غير أن الحكومات قاومت في بادئ الأمر الحركة الاشتراكية ومطالبها مقاومة شديدة، وهذه المقاومة أدت إلى حدوث سلسلة ثورات واعتصابات عنيفة كما أدت إلى تفرع الاشتراكية إلى فروع ومذاهب متنوعة. فاختلف لذلك المذاهب الاشتراكية اختلافاً كبيراً من المعتدلة إلى المتطرفة، ومن الوطنية إلى الأممية
إن الشيوعية هي (الطريقة المتطرفة) التي قامت لمعالجة قضية العمل على أساس هدم كل شيء يقف حجر عثرة في سبيلها، ولم تتردد في إدخال (الوطنية) أيضاً في عداد الأمور التي لا لزوم للتمسك بها. . . حتى أنها أوصلت المغالاة إلى درجة القول بأن الوطنية أيضاً من المؤسسات التي يجب هدمها. . .
وأما المذاهب الاشتراكية الأخرى، فإنها تسعى إلى معالجة المشكلة دون أن تسترسل في تضحية المؤسسات الاجتماعية وهدمها، ودون أن تتهاون في (الوطنية) فتقدم على مخالفتها. . .
فإن (الاشتراكية الوطنية) - مثلاً - تقول بأن الحياة الصناعية تحتاج إلى معالجة جدية، غير أن هذه المعالجة يجب أن تبقى دائماً داخل نطاق الوطنية. . . إن للعمال حقوقاً طبيعة يجب أن ينالوها، غير أنه يجب أن يعرفوا - في الوقت نفسه - أن هناك أمة يجب أن يخدموها، ووطن يجب أن يعتزوا به، ودولة يجب أن يعتمدوا عليها. . . ولأصحاب رؤوس الأموال أيضاً حقوق يجب ألا يفقدوها، غير أنه يجب أن يعرفوا هم أيضاً أن هناك أمة ووطناً ودولة، وأن الأموال التي تحت حيازتهم لم تتكون وتتجمع إلا بفضل مساعي العمال وبفضل أعمال الدولة التي تضمن الأمن العام، وتنشئ المرافق العامة. فللدولة والأمة والعمال أيضاً حق في هذه الأموال. فعلى الحكومة أن تتولى بنفسها تنظيم العلائق بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال على ضوء هذه الأسس؛ عليها ألا تترك هاتين القوتين وشأنهما تتنازعان، وعليها أن تعمل كل ما يمكن عمله لجعل هاتين القوتين متآزرتين كما تقتضيه مصالح الأمة والوطن. . .
فنستطيع أن نقول بهذا الاعتبار إن الاشتراكية الوطنية السائدة في ألمانيا تكون قطباً معاكساً للشيوعية الحاكمة في روسيا. . . وأما النظم النقابية المؤسسة في إيطاليا فهي أيضاً تقف في هذه القضية بجانب الاشتراكية الوطنية موقفاً معاكساً لوقف الشيوعية. . .
فإن الشيوعية لا تبالي بالوطنية، وتدعو إلى الأممية؛ في حين أن النازية - مثل الفاشية - تتمسك بالوطنية وتعارض الأممية. . .
إن عنصر الأممية الذي يدخل في تكوين الشيوعية هو الذي يجعلها خطراً على كيان سائر الدول، ويضطر الأحزاب الوطنية فيها إلى مقاومتها بشدة، ومناضلتها بعنف. . . لأن البلشفية لا تهدد كيان الدول والأمم من جراء احتمال إقدامها على شن الغارة عليها بواسطة حملات عسكرية ترسلها من وراء حدودها فقط. . . بل تهدد كيان الدول والأمم في داخلها من جراء الدعايات التي تقوم بها بين أهليها، وبواسطة التشكيلات التي توجدها بين أبنائها. . .
وهذا الذي يجعل النضال بينها وبين معارضيها عنيفاً جداً. . .
ماذا يجب أن يكون موقفنا نحن - أبناء العرب - من هذا النضال العنيف؟ بين هذه المذاهب الاجتماعية المتضاربة؟
أولاً - يجب أن نلاحظ قبل كل شئ أن المشاكل التي نعانيها نحن أبناء العرب تختلف اختلافاً كبيراً عن المشاكل التي تعانيها تلك البلاد؛ فمن الخطأ أن نفكر في اقتباس نظام من تلك النظم على علاته. . . غير أن موقف هذه النظم المختلفة من النزعة الوطنية والقومية يجب أن يدلنا على النظام الذي يجب أن نتباعد عنه كل التباعد، ونحذر منه كل الحذر. . .
ويجب علينا أن نلاحظ في الوقت نفسه، أن الأضرار التي تنجم من الإصغاء إلى الدعاية الأممية لا تكون متساوية في كل البلاد، بل إنها تزداد وتنقص، نظراً إلى ضعف النزعة الوطنية والقومية السائدة في البلاد أو قوتها
تصوروا الأمة ناهضة متحدة متصفة بشعور قومي عميق، ونزعة وطنية شديدة، قد تأصلت الوطنية والقومية في نفوس أبنائها حتى أنها دخلت في طور الإفراط والتعدي، فصارت تحمل القوم على التوسع على حساب غيرها عن الأمم. لا شك في أن رياح النزعة الأممية إذا هبت على النفوس في مثل هذه الأمة لا تستطيع أن تجتث شجرة الوطنية من جذورها، فلا يتعدى تأثيرها حدود بعض الأضرار الطفيفة من نوع إسقاط الأوراق أو كسر الأغصان. . . إن انتشار فكرة الأممية بعض الانتشار بين أبناء تلك الأمة لا يزعزع بناء الوطنية زعزعة خطرة، وكل ما يعمله ينحصر في كسر ثورة الإفراط، وتخفيف أطماع التوسع والاستعمار. . .
ثم تصوروا أمة - بعكس تلك - متأخرة في حضارتها، متفرقة في سياستها، مترددة في وطنيتها، استيقظت من سبات عميق في عهد قريب؛ فلم يمض على يقظتها الوقت الكافي لاختمار الفكرة القومية في نفوس أبنائها، فلم يتم بعد (تكوّن الشعور القومي) و (تأصل النزعة الوطنية) في تلك النفوس. لا شك في أن تأثير الرياح (الأممية) على أمة كهذه الأمة يكون خطراً جداً، لأنه يوقف اختمار الفكرة القومية في بدء عملها، ويحول دون تكوّن الشعور القومي العام في بدء عهده؛ ويميت تباشر النزعة الوطنية الحق قبل أن تتأصل في النفوس. .
إنني أعتقد بأن نظرة واحدة إلى حالة البلاد العربية والأمة العربية - على ضوء هذه الإيضاحات - تكفي دلالة قطعية على أن انتشار النزعة الأممية - ولو قليلاً - يكون مضراً جداً، بل مهلكاً وقتالاً بالنسبة إلى أبناء الضاد. . .
فينبغي علينا أن نبذل أقصى الجهود لمنع تسرب النزعة الأممية إلى النفوس في جميع الأقطار العربية
هذا، وقد لاحظت أن بعض الشبان، في مختلف البلاد العربية، يخلطون بين قضية السياسة الخارجية وأمر النظم الداخلية خلطاً غريباً. فكثيراً ما يتساءلون خلال مناقشة مثل هذه المسائل: أية دولة أكثر مطامح في البلاد العربية؟ هل لروسيا مطامح استعمارية في البلاد العربية؟ ألم يكن خطر الاستعمار الإيطالي أكبر من سائر الأخطار؟
إنني أعتقد أن وقوف هذا الموقف تجاه المسائل الداخلية والاجتماعية لا يتفق مع منطق السياسة والاجتماع، لأن علائق الدول الخارجية لا تتأسس على أشكال نظمها الداخلية. فالدول تتفق أو تتخاصم حسب منافعها، دون أن تنظر إلى مشابهة أشكال إدارتها أو مخالفتها. فقد رأينا - مثلاً - خلال الحرب العالمية أن فرنسا اتفقت مع إنكلترا وروسيا، مع أنها كانت جمهورية، في حين أن إنكلترا كانت ملكية دستورية وروسيا القيصرية كانت من الحكومات الاستبدادية. وقد انضم إلى هذه الدول الثلاث، خلال الحرب العالمية، عشرات من الدول الأخرى على اختلاف نزعاتها في السياسة الداخلية
فيجب علينا أن نعتقد كل الاعتقاد بأن اعتناق أي مذهب اجتماعي لا يخلصنا من الأخطار المحدقة بنا، كما أن عدم اعتناق أي مذهب من المذاهب الاجتماعية لا يعرضنا إلى أخطار خارجية غير الأخطار التي تحيط بنا. . .
فعندما ننعم النظر في أمر صلاح أو عدم صلاح النظام الشيوعي لبلادنا لا يجوز لنا أن نبني أحكامنا على سياسة إيطاليا أو روسيا في الأمور الدولية بوجه عام، أو في أمور البلاد العربية بوجه خاص. . . بل يجب أن نفكر في صلاح أو عدم صلاح هذا النظام بالنظر إلى أحوالنا الداخلية فقط. . .
وربما كان وضع الدولة التركية تجاه هذه المسألة من أحسن الأمثلة وأقطع الأدلة في هذا الباب
تعلمون أن تركية مدينة بشيء كثير من حياتها الآن إلى أوضاع روسيا السوفيتية. . . لأن الدولة الروسية كانت عدوة تركيا التاريخية حتى نهاية الحرب العالمية. . . غير أنها بعد أن تبلشفت تركت عداءها القديم، بل بعكس ذلك أخذت تسند الدولة التركية ضد الدول الأوربية، وصارت تساعدها بكل الوسائط الممكنة، وفعلاً أمدتها بالأموال والأسلحة والعتاد خلال مناضلاتها الاستقلالية، وحافظت على هذه السياسة نحوها منذ ذلك الحين. فتركية كانت أول دولة تصادقت مع روسيا السوفيتية، وهي لا تزال من أخلص أصدقائها. . . وهي مع كل هذا من أشد أعداء البلشفية، وهي تطارد وتعاقب بشدة كل من ينتسب إلى الشيوعية أو يقوم بدعاية للشيوعية. . . وروسيا البلشفية لا تزال صديقة تركية، بالرغم من مخالفة الأخيرة للنظم البلشفية في أمورها الداخلية. . .
هذه حقيقة واقعية. . . وكثيراً ما يصادف المرء في الصحف التركية عدة فصول في صحف حفلات التكريم التي تقام للوفود الروسية. . . وبجانب هذه الفصول عدة فقرات تذكر أخباراً متنوعة عن محاكمة الأشخاص الذين سجنوا لانتسابهم إلى الشيوعية، وعن الأحكام العقابية التي صدرت عليهم من المحاكم المختصة
فلا بد لي أن أذكر في هذا الصدد كلمة مشهورة قالها أحد عظماء فرنسا خلال مناقشة برلمانية، قبل مدة تزيد على نصف قرن: كان (جول فرى) من أبطال الفكرة العلمانية في فرنسا. حارب الكهنوتية أشد المحاربة، ووضع القوانين التي تحدد ساحة عمل رجل الدين تحديداً كبيراً، وسعى طول حياته إلى حرمانهم حق فتح المدارس والاشتغال بالتربية والتعليم. . . ومع كل ذلك لم يتوان عن مساعدة رجال الدين في الأعمال التي يقومون بها خارج فرنسا. . . حتى أنه لم يتردد أحياناً في مساعدة أعمال الإرساليات التبشيرية بالوسائط الدبلوماسية أو بالقوة العسكرية. . . فقد اعترض البعض على هذه السياسة المتناقضة، واستنكروا حماية أعمال رجال الدين في خارج فرنسا في نفس الوقت الذي كانت تمنع فيه هذه الأعمال داخل فرنسا. . . فصعد (جول فري) على المنبر وقال كلمته المشهورة: إن عداوة الكهنوت ليست من الأمتعة التي يجوز تصديرها إلى الخارج. . .
وأراد أن يقول بذلك: إن عداوتنا للكهنوت يجب أن تبقى من خصائص سياستنا الداخلية وحدها. . . وهذه العداوة يجب ألا تمنعنا عن الاستفادة من رجال الدين في سياستنا الخارجية في أمر توسيع نفوذنا خارج فرنسا. . .
إنني أعتقد بأن الوقائع والحقائق التي سردتها لكم لا تترك مجالاً للشك في أن كل من يقول بوجوب اعتناق المذهب الشيوعي لدفع أخطار دولة أو لاسترضاء أخرى يكون قد سلك مسلكا لا يقره (منطق الحقائق) بوجه من الوجوه. . .
فعلينا أن ننظر إلى القضية في ذاتها كمسألة داخلية صرفة مجردة عن كل الاعتبارات الخارجية فنسأل أنفسنا: هل يجوز لنا أن نصغي إلى نداء الأممية الشيوعية أم لا؟. . .
إنني أعتقد أن وضع المسألة على هذا الشكل الواضح لا يترك مجالاً للتردد في الجواب اللازم لها. . .
فقد قال أجدادنا:
بلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام!
أعتقد أن هذا القول يتضمن أحسن وأبلغ الأجوبة على نظرية الأممية الماركسية. . .
لا أود أن أقول - بذلك - إنه يجب علينا أن نترك الأمور على حالها، فلا نفكر في إزالة الجور عن أفراد الأمة. . . بل أقول - بعكس ذلك - يجب علينا أن نبذل كل الجهود لإصلاح الأحوال وإزالة الجور بأعظم ما يمكن من السرعة. . . على ألا نخرج في أعمالنا وتدابيرنا عن مقتضيات الوطنية، وأن نعتقد في كل حين: أن الوطن قبل كل شيء وفوق كل شيء. . .
ساطع الحصري