مجلة الرسالة/العدد 243/التاريخ في سير أبطاله
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 243 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
تحية العام الهجري الجديد ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1938 |
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
ما كانت الفاقة لتعوق ابن الأحراج عما كانت تتوق نفسه إليه. وهيهات أن تركن النفس الكبيرة إلى دعة أو ترضى بمسكنة. هاهو ذا فتى الغابة يهدف للثامنة عشرة، لا يذكر أنه منذ قوى على حمل الفأس كان كلا على أحد. بنى نفسه كأحسن ما تبنى النفوس، غذاء جسده من قوة ساعده، وغذاء روحه من توقد ذهنه ودأبه وجلده وبعد همته
كان ابراهام عصامياً في أوسع وأدق معنى لتلك الكلمة؛ عال نفسه وربى نفسه وعلم نفسه. وكان على استغنائه عن الناس يخفض جناحه للبعداء والأقربين. ولله ما أجمل تلك النفس في تواضعها ودماثتها، وما أجمل ذلك التواضع من فتى لا يرى لامرئ عليه يدا؛ وهو لولا كرم عنصره ونقاء جوهره جدير أن يدل بذلك وأن يزهى؛ وما الإنسان؟ أو ليس هو يطغى أن رآه استغنى؟
استغنى ابراهام بجده وقناعته في مطالب معيشته عن الناس، ولكنه أحسن معاشرة الناس وأنسوا منه لين الجانب وعذوبة الروح وهدوء الطبع وشدة الحياء. على أن ما زادهم محبة له وإقبالاً عليه حلاوة حديثه وحصافة رأيه وأصالته، وكان قد أحب منذ أن أعجب بذلك المحامي المدل أن يتحدث إلى الناس ما واتته فرصة إلى ذلك، وهو بطبعه بارع السياق قوي الحجة تمتاز كلماته - وإن لم يقصد - بقرب المأخذ وبعد المرمى، وهي صفة سيدرك فائدتها في مستقبل أيامه
ساقت إليه الأقدار وهو في التاسعة عشرة عملاً خرج به من الغابة أياماً إلى دنيا الحضارة! فقد استأجره أحد ذوي الثراء في تلك الجهة ليذهب ببضاعة في قارب إلى مدينة نيوأورليانز؛ وقبل الفتى وإن قلبه ليخفق، وإن نفسه لتتنازعها عوامل الخوف والأمل والرضاء وحب الاستطلاع. وما له لا يخاف وهو لم يقم بمثل تلك الرحلة الطويلة من قبل، ولا عهد له بالمدن وعيشتها وأهلها؟ ولكنه قبل وتأهب. وما كان حب المال هو الذي حفزه إلى القبول ولكنها كانت رغبته الشديدة في رؤية الدنيا! وهو يومئذ تواق إلى المعرفة، لهج برؤية الحياة في بيئة غير الغابة
وخرج معه فتى من أهل الجهة ليعاونه، واتخذا سبيلهما في نهر الأهايو ومنه إلى ذلك النهر العظيم: نهر المسيسبي، حتى إذا أتيا مدينة نيوأورليانز بعد أن قطعا ألفاً وثمانمائة ميل، رأيا خلاله على الضفاف حيوانات وأشجاراً وأناساً غير ما ألفا في إقليمهما. وكم كانا معجبين بما رأيا وما سمعا ممن أويا إليهم من سكان البلدان التي نزلا عندها ليالي رحلتهم. ولن ينسى الفتى ما رأى من بطولة أيب حين هاجمهما ذات ليلة وهما في نومهما سبعة من الزنوج، فقد رآه يعمد - وقد أفاق على همسهم - إلى مجراف فيحاربهم في بسالة حتى يضطرهم إلى الفرار وهم منه خائفون
دخل إبراهام وصاحبه مدينة نيوأورليانز، ولك أن تتصور مبلغ ما بعثته تلك الزيارة من أثر في نفسه، وقد جاء وهو يافع من الغابة فرأى مدينة كبيرة لأول مرة! وأية مدينة هي؟ لقد رآها تموج بأنماط من الناس وأخلاط من العبيد. ما هؤلاء السادة الذين تغدو وتروح بهم المركبات الفخمة؟ وما هؤلاء النسوة اللائي يخطرن في دلال ويبرزن في عطاف الثراء والنعمة؟ ما هؤلاء وما هؤلاء ممن يرى أمام ناظريه. . .؟ وما هذه الدنيا التي يضطربون فيها وما حياتهم وما مبلغ بعدها من حياة الغابة. . .؟ ثم ما هؤلاء العبيد. . .؟ أجل ما هؤلاء العبيد وما حظهم من تلك الحياة الفوارق بالقوة والجاه؟ أهؤلاء هم الذين قرأ عنهم وسمع من أخبارهم ما لم يفهم على وجه اليقين؟ نعم هؤلاء هم العبيد. . . وهو محررهم ومحطم أغلالهم في غد!
عاد إبراهام بعد أن أدى مهمته على خير وجه، وقد قضى في رحلته هذه ثلاثة أشهر بعيداً عن أنديانا، ولكن ما تركته تلك الأشهر الثلاثة في نفسه من الأثر تجعلها كما لو كانت ثلاث سنين، فقد أحست نفسه الفرق بين المدنية والهمجية إحساساً قوياً. إنه يتساءل بينه وبين نفسه: أي الحياتين أقرب إلى المدنية حقاً! عاد إلى موطنه، ولكن أي موطن وهو ابن الأحراج ربيب الترحال والأسفار؟ لقد شد أبوه الرحال من جديد على رأس الأسرة إلى مقاطعة جديدة هي الينويس، تحفزه نفس الدوافع التي حركته من كنتوكي إلى أنديانا؛ وكان إبراهام هذه المرة عضد أبيه، فهو يومئذ في الحادية والعشرين. ولما حطوا رحالهم بعد أسبوعين قام كوخهم الجديد على ما شقت يده الفتية من أشجار. لقد صغرت أما قوته ومهارته قوة أبيه ومهارته، وسرعان ما أصبح أيب حديث الجيران في البقعة الجديدة
عمد إلى الزراعة فحرث قطعة من الأرض وبذر فيها القمح وسورها بسور من قطع الخشب سوتها فأسه، وكان يعاونه في ذلك فتى من ذوي قرباه؛ وترك أيب القمح ينمو وتناول فأسه وراح يعمل في الغابة أجيراً وقد ذاع صيته وتقدمه أينما سار، وهو يحس اليوم أن دخله من فأسه يزيد هنا عما كان يحصل عليه في أنديانا. ولكن أي دخل هذا إذا هو قيس إلى ما عسى أن يكسبه رجل غيره في بيئة أخرى؟. لقد أستأجره أحد الأثرياء ليقطع له خشباً يسور به مزرعته، فرضي أيب أن يقدم لذلك الرجل أربعمائة قطعة من الخشب نظير كل (ياردة) من القماش الساذج الذي طلبه أيب ليتخذ منه سروالاً!
وتجلت للناس فتوته وشهامته في عدة مواقف، فهو لا يفتأ يمد يده إلى البائس والملهوف في كرم وإخلاص، وهو لا يني يضرب بفأسه في نشاط وإقبال، ولقد تحداه ذات يوم رجل ذو قوة وبأس أن يصارعه، فنازله على كره منه، إذ كان ينفر من القسوة والعنف، وما لبث أن غلبه على أعين الناس فازدادوا له إكباراً
وما انصرف ابراهام يوماً عن المطالعة على الرغم من شواغله، فأوقات فراغه للقراءة لا لغيرها مما يقضي فيه الفراغ من ملاذ الحياة ومباهجها. وأي شيء هو أحب إليه من القراءة والدراسة؟ يا عجباً! هل كان يدري أن القدر يعده لأمر خطير سوف ينقل به تاريخ بلاده من صفحة إلى صفحة؟! كانت قراءته يومئذ في القانون، فقد ألقت المصادفات في يده كتاباً يدور البحث فيه على قوانين المقاطعة الجديدة. على أنه قد قرأ قبل ذلك كتاباً غير هذا في القانون، فهو جد مشغوف بالمحاماة والخطابة، وكأنه كان يهيئ نفسه لهذه المهنة التي هام بها وجدانه، وهو بفطرته ميال إلى محادثة الناس كما سلف أن ذكرت، وإنه اليوم ليخطبهم كلما دعا إلى ذلك داع وشاءت الأقدار أن يذهب في رحلة أخرى مع رفيقين إلى نيوأورليانز؛ فقد اختاره أحد التجار ليقوم على تصريف بضاعته وجعل له ولزميليه أجراً في نظير ذلك. ولقد صادف في تلك الرحلة حادثاً آخر: ذلك أن القارب اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيوسالم فتعلق وانحدر وأوشكت حمولته أن تهوي إلى الماء لولا ما كان من مهارة أيب وقوة ساعديه، تلك المهارة التي أعجب بها نفر من أهل تلك البلدة وقد تجمعوا يشهدون الحادث
ولما فرغ ابراهام من أمر تلك البضاعة ولى وجهه تجاه أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب وهو لم ينس يوماً ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى. ألا إنه ليهتم لهذا الأمر أكبر اهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، كل ذلك في عمق وتمحيص فتلك خلة من أبرز خلاله؛ فهل كان يعلم ابن الغابة أنه سيؤدي للعالم من عنده رسالة جديدة ويخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحريره هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا
رأى ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكوراً وإناثاً جيء بهم قسراً من مواطنهم مقرنين في الأصفاد يباعون كما تباع الماشية، يلهب التجار جلودهم بالسياط ويسوقونهم كما تساق الأنعام كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة. وما كانت نفسه الكبيرة، وما كان قلبه الرحيم ليمر بتلك المناظر كما يمر غيره من الناس، كلا بل ستبقى مسألة العبيد في أعماق نفسه حتى تحين الفرصة
أخذت عيناه فيما رأى فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام يعرضها الباعة على الأنظار وهي نصف عارية كما يعرضون فرساً كريمة، وقد افتتن بقسماتها وقوامها الشاهدون؛ وابراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال: (رأى لنكولن ذلك وإن قلبه ليدمى. لم تتحرك شفتاه وظل صامتاً، ومشت في وجهه كدرة الهم؛ وأستطيع أن أقول وأنا به عليم، أنه في تلك الرحلة قد كون لنفسه رأيه في مسألة العبيد)
ومما يروى عنه في تلك الرحلة أن عرافة لقيته فقالت وهو يمازحها: (يا فتى سوف تكون رئيساً للولايات ويومئذ سيتحرر جميع العبيد) وما كانت كلمات العرافة إلا كلمات القدر تجري على لسانها في نبوءة عجيبة!
وقفل إبراهام راجعاً إلى الغابة وقد ازدادت تجاربه ومعرفته بالحياة والناس وهو في سن الدراسة والتطلع إلى معرفة النفس البشرية وما تنطوي عليه من معاني الخير والشر. ولقد سلمت نفسه من شرور المدنية، فلم تعلق بها أو شاب! وهل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الحياة المحصورة في الغابة، أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
لم يقم إبراهام طويلا في كوخ أبيه؛ فما لبث أن خرج في طلب العيش. وقد أدرك أنه بعد أن تجاوز الحادية والعشرين يستطيع أن يغادر أباه ليقوم على شؤونه بنفسه. خرج من الكوخ إلى غير عودة إليه! فترمي به النوى مطارحها كلما تصرمت الأيام، وكان أول عمل قام به أن فتح له ذلك الرجل الذي استأجره في رحلته الثانية إلى أورليانز - حانوتاً في نيوسالم وأقامه فيه ليبيع نائباً عنه وذلك لما خبر من مهارته وأمانته. ولقد قطع أيب المسافة إلى نيوسالم على قدميه؛ وأخذ يبيع في الحانوت في خفة ولباقة كأنه مارس التجارة من قبل. وأتاح له ذلك العمل فرصة لقاء الناس، ولقد رأوا من خلاله ما امتلك به قلوبهم؛ رأوا منه لين الجانب وسعة الصدر وحلاوة اللسان وسرعة اليد وحسن الملاطفة والممازحة، ورأوا منه فضلا عن ذلك جميع الأمانة كأعظم ما تكون الأمانة. وأتاح له ذلك العمل أيضاً أوقاتاً يقضيها في المطالعة فكان يتمدد على ظهر صندوق ويقرأ حتى يقصده مشتر فيبيعه ما يطلب ثم يعود إلى كتابه
ولشد ما أعجب الناس بإبراهام وخلاله وصار يعرف بينهم باسم أيب الأمين، وصارت تلك الصفة منذ ذلك اليوم أشهر صفاته وأحبها إليه وإلى الناس. حدث أنه أعطى لامرأة ذات مرة على جهل منه مقداراً من الشاي أقل من حقها، فلما أدرك ذلك سار إليها آخر النهار مسافة طويلة يحمل إليها باقي الشاي؛ وحدث أنه أخذ خطأ بعض دريهمات من رجل فلما عد ماله آخر النهار سأل عنه اهتدى إليه ودفع له دريهماته. وكان الناس يعلمون هذا وغيره فيقبلون عليه معجبين. ولم ينس في تلك البلدة ما جبلت عليه نفسه من النجدة والمروءة والحدب على الضعفاء. ونمى أمره في ذلك إلى جماعة من الفتيان في البلدة كانوا يجعلون العربدة هويتهم والشغب مسلاتهم؛ وكان على رأسهم فتى مفتول الساعدين شديد المراس يقال له أرمسترنج. فجاءوا عصبة إلى ابراهام يسخرون منه ويتحدونه أن ينازل زعيمهم، وهو يعرض عنهم وتأبى عليه نفسه أن يحفل بهم؛ ولكنهم يسرفون في التحدي والقحة، حتى يخرج إليهم ويسير إلى قائدهم ويشتد الصراع بين الفتيين ويستجمع ابن الغابة قوته ويدفع خصمه فإذا هو ملقى على وجهه متدحرج كأنه كتلة من الخشب! والفتية لا يصدقون أعينهم من الدهش. ولقد نهض صاحبهم فصافحه وسلم له بالغلبة. وشاعت في الناس بطولة فتى الحانوت وشدة بأسه. وما كان ابراهام غليظاً أو رجل شر، بل لقد كان يسعى أبداً في القضاء على الإحن والمنازعات، وكم له من يد في هذا المضمار
عرف الناس ابراهام فوق ذلك باستقامته فما عهد عليه من سوء قط؛ كان لا يقرب الخمر ولا الميسر ولا يعرف الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأين ذلك الرجس من تلك النفس العصامية الطامحة؟ إن له من نفسه خير عاصم، وله من الكتب ما يملأ به فؤاده؛ وكانت كتبه إلا قليلاً مستعارة؛ يسمع عن كتاب يطلبه فيجده عند أحد الناس فيسعى إليه ويرجوه أن يعيره إياه حتى يقرأه فيعيده إليه؛ ومن ذلك أنه سمع وهو في الحانوت عن كتاب في قواعد اللغة الإنجليزية، وكان قوي الرغبة في تعرف قواعد اللغة ليستعين بها على ضبط عبارته، فمشى نحو ستة أميال حتى جاء صاحب الكتاب فأعاره إياه، فأكب عليه حتى أتقن فهمه. ومما قرأه أيب في تلك الآونة صحيفة كانت تكتب في السياسة، اشترك فيها وهو مملق، وكان يقبل على قراءتها في لذة واستمتاع قراءة تعمق ودراسة
ساقه إلى السياسة رجل رأى من فطنته وطلاقة لسانه وصدق إخلاصه وتطلعه إلى المعرفة ما أيقن معه أن سوف يكون له شأن غير شأنه إذ ذاك. وكان إبراهام يحادث الناس كما ذكرنا كلما سمحت بذلك فرصة، وقد ألفوه جذاب الحديث بارع السياق يضرب الأمثال في غير توقف ويسوق الأدلة في غير عوج! وإنك لترى من ذلك أنه يستطيع أن يخوض السياسة، فماذا اعتزم؟ عقد النية على أن يتقدم للناس ليختاروه نائباً عنهم في مجلس المقاطعة النيويس! وكان في تواضعه يرى الخطوة جريئة. على أنه كان يدرك أن اليد قصيرة والجيب خال والجاه منعدم. فعلام يعول ابن الغابة والى من يستند؟ ليس أمامه غير نفسه؛ ولكنه حسبه تلك النفس
وكان أيب في الثالثة والعشرين من عمره وإنه ليحق لنا أن نتساءل كيف خلت حياته إلى ذلك اليوم من الحب على قوة روحه ونبل عواطفه وشدة بنيته؟ الحق أنه كان ينفر من النساء ومخالطتهن، وكان شديد الخجل خافض الطرف متلجلج اللسان متبلبل الخاطر كلما وجد نفسه على رغمه في مجلس يضم فتاة أو فتيات. وكان هذا الحياء الشديد مما عرف من صفاته؛ بيد أنه يحس اليوم كأن شيئاً يختلج بين جنبيه، فلقد زار ذات ليلة ذلك الرجل الذي وجهه إلى السياسة في خانه، وكان صاحب ذلك الخان؛ ورأى هناك ابنته، وكانت حسناء في الثامنة عشرة، فمال إليها قلبه ولكنه ما لبث أن علم أنها خطيبة فتى غيره؟ وهل كان لمثله أن يطمع في تلك الفتاة على ما هو فيه من خصاصة وعلى ما كان ينعم به أبوها من ثراء؟
وهو في شغل اليوم بالسياسة؛ ذهب إلى الخان حيث يجتمع فتية الحي ورجاله، وبعد أن استمع إلى حديثهم برهة وثب إلى مرتقى وقام فيهم خطيباً! ولعلها كانت أولى خطبه إذا أردنا معنى الكلمة. راح يحدثهم عن رغبته في الإصلاح وعن أفكاره في السياسة؛ ولما كان يجهل السياسة العليا فقد قصر حديثه على إصلاح الطرق والأنهار وهو جد خبير بها. ومما قاله (إن سياستي قصيرة حلوة كرقصة العجوز، إني أحبذ مشروع المصرف الأهلي وأحبذ الإصلاح الداخلي والحماية الجمركية. هذه هي ميولي ومبادئي السياسية، فإن اخترتموني فأنا شاكر وإلا فلن يغير ذلك شيئاً من نفسي) وقال في نداء مطبوع أذاعه في الناس (ولدت ونشأت في مدارج متواضعة، وليس لدي ثراء أو أهل ذوو جاه، أو أصدقاء يقدمونني إليكم؛ وقضيتي مبسوطة بين أيدي الناخبين الأحرار، فإن اخترت فقد أولوني جميلاً لن أوفيه مهما بذلت في خدمتهم، وإن أملت عليهم حكمتهم أن يتركوني حيث أنا فإني قد ألفت من مواقف الانخذال ما لا أحس معه لذلك غماً)
تلك هي صراحة لنكولن، وتلك هي بسالته تتجلى في كلماته كما تجلت فيها بساطته وإخلاصه وسمو تواضعه وعزة نفسه
وكان صاحب الحانوت قد أدى بمسلكه المعوج إلى بيع حانوته إلى تاجر آخر، وترك إبراهام أول الأمر بلا عمل، ولم يكن لديه مال يستعين به حتى على القوت، اللهم إلا ما تسوقه الأقدار إليه من وجوه الرزق. ومنها أنه قاد زورقاً بخارياً ليخرجه من منطقة عسيرة في مجرى الماء، وكان أجره على ذلك أربعين دولاراً
وساقت إليه الأقدار بعد ذلك عملاً غريباً بالنسبة إليه! ذلك هو التطوع مع فرقة من شبان الجهة لمحاربة الهنود الحمر! وكان كبيرهم - ويعرف باسم الصقر الأسود - قد هاجم البيض يريد أن يسترد أرضاً كان باعها للحكومة؛ وما كان أيب يميل إلى الحرب ولكنه تطوع إذ لم يجد لديه عملاً، ولعل تطوعه هذا وما عساه أن يبديه في الحرب يشفع له في الانتخاب ويزيد صيته رفعة. . . وعلى ذلك خرج مع المتطوعين على رأس فرقة ولكن الحرب لم تدم طويلا، ولا هي استدعت مقاومة عنيفة. وما عرف عنه أنه مس إنساناً بأذى وهو في الميدان، بل لقد تجلت مروءته في حادث نرويه لدلالته على نفس أيب وخلقه: آوى إلى معسكر المتطوعين أحد رجال الصقر الأسود وفي يده بطاقة أمان من أحد القواد؛ ولكن بعض المتطوعين وكانوا محنقين هموا به ليقتلوه فوقف بينهم وبينه ابراهام، وبنادقهم مصوبة إلى صدره وهو يصرخ فيهم (إنكم لن تقتلوا هذا الرجل) ولم يكن بعيداً أن تنطلق إليه الرصاصات في ثورة غضب كتلك الثورة ولكن الله وسلم ونجا الرجل ونجا مخلصه!
وبعد أن رجع أيب إلى نيوسالم جرت الانتخابات ولكنه خذل فيها، إذ لم يكن الحزب السياسي الذي يدين بمبادئه محبوباً يومئذ للناس! خذل ابراهام ولكن طابت نفسه الأمر وارتاحت، ذلك أنه وجد أن أكثر أصوات بلدة نيوسالم كانت له
(يتبع)
الخفيف