الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 243/اختلاف

مجلة الرسالة/العدد 243/اختلاف

بتاريخ: 28 - 02 - 1938


حدود الحق والواجب

للأستاذ عبد الرحمن شكري

مفتش التعليم الثانوي

إن حدود الحق والواجب تختلف في الأماكن المختلفة بعض الاختلاف كما أنها قد تختلف في الأزمنة المختلفة أو في المكان والزمان لاختلاف الطبائع والصفات النفسية وما يتبعها من الآراء. وهذا الاختلاف في تعريف حدود الحق والواجب وتعيينها قد يغر الناس في عصور الانقلاب الاجتماعي فينبذونها كلها ويحاولون أن لا يتقيدوا بها وأن لا يجعلوا لها شأناً، ويحسبون أن الحياة تستطيع أن تقوم وأن تحسن وتصلح من غيرها، ويغالطون أنفسهم كي يستثمروا نبذها لجلب مطالب وقضاء لبانات

والحقيقة أن للحق والواجب حدوداً لا يختلف فيها أحد وإن اختلف الناس في حدود حقوق وواجبات أخرى، وأن كثيراً من الناس ينبذون حتى الحدود التي يعترفون بها عجزاً عن كبح أثرتهم وأن الحياة لا تصلح إلا بنصيب كبير من احترام حدود الحق والواجب التي تحددها القوانين الإنسانية والضمير والشرائع الدينية حتى في عصور التغير الاجتماعي التي يكثر فيها العبث بتلك الحدود، بل ربما كانت تلك العصور أحوج إلى طوائف من الناس يزداد تشبثها بتلك الحدود حفظاً للتوازن الحيوي لأن الحياة قائمة على التوازن وسنته هي سنتها. ومن درس كتب التاريخ وجد في الأمم المختلفة حتى في إبان الثورات والحروب والكوارث الطبيعية وفي وسط ما تبتعثه بالاضطراب الخلقي والإجرام - أناساً يعملون أعمالهم اليومية في حدود الحق والواجب، وأناساً يزداد تشبثهم بتلك الحدود حسب سنة التوازن الحيوي التي أشرنا إليها

ومن الناس من يقول إن حدود الحق والواجب إذا استعبدت الناس استعباداً مطلقاً وتقيدوا بحروفها دون معانيها وظروفها منعت من تحوير الحقوق والواجبات لإنمائها وتحسينها كما يتطلبه رقي الإنسانية. ولعل الصواب الذي في هذا القول أقل من المغالطة المقصودة أو غير المقصودة، وأقل من سوء التطبيق الذي تدفع إليه الرغبة في التخلص من بعض تلك الحدود، وأقل من الغفلة التي تمنع من يقول هذا القول من أن يعرف أن أكثر الحقوق والواجبات اللازمة لرقي الإنسانية معروف، وإنما هو القصور عن عليائها الذي يمنع من الرقي في أكثر الأحوال

ولا ننكر أن بعض عصور الانقلاب الاجتماعي التي جرت في أذيالها شيئاً مما دعا إلى طمس بعض حدود الحق والواجب القديمة قد أدى إلى تعديل وتحوير وتحسين في حالة الإنسانية، ولكن المصلحين المثقفين كانوا يختلفون عن الدهماء وأمثال الدهماء، فإن المثقفين كانوا يعتبرون هذا الطمس ضرراً عارضاً مؤقتاً لابد من منع شره من أن يستطير، وأنه ليس سبب الرقي ولا أساسه، وأنه ينبغي قصره على الحد الذي يمكن الدهماء إذا كانوا لا يمكنون إلا معه من الرغبة في الحقوق والواجبات الجديدة. أما أمثال هؤلاء الدهماء وأنصاف المثقفين وذوو الأثرة والجشع والمكر والخبث ممن ينعق في أثر كل مصلح فيحاولون طمس جميع حدود الحق والواجب كي ينتفعوا ولا يبالون ما يكون بعد انتفاعهم

وبالرغم من سنة التوازن التي تؤدي إلى زيادة تشبث بعض الطوائف الإنسانية إذا نقص تشبث غيرها بحدود الحق والواجب قد يتدهور المجتمع الإنساني بسبب قوة عوامل الخراب التي تطغى وتشل أثر هذه السنة حتى ولو كان التغير المطلوب مما يرجى فيه خير الإنسانية، وبعض التغير لا رجاء فيه فتكون المصيبة أكبر والخسارة مضاعفة

ومن المستطاع التمييز بين وهْيِ حدود الحق والواجب الناشئ من التغير المؤدي إلى رقيّ، وبين وهيها الناشئ من تغير لا يؤدي إلى رقي - وإن اختلطا في أذهان الناس ونفوسهم - فالوهي الأول لا يكون شاملاً لجميع الطوائف والطبقات والأفراد، بل نرى من الطوائف من لا يتأثر به ولاسيما طائفة المحافظين على القديم. أما الوهي الثاني الذي يؤدي إلى تدهور فيكون شاملاً، ومن دلالاته أن الطائفة المحافظة على القديم قد تكون من أكثر الطوائف تأثراً به بالرغم مما يتفاخر أفرادها من المحافظة على حدود الحق والواجب. والنوع الأول مقصور على بعض حدود الحق والواجب غير شامل لها، وإنما يقصر على ما يراد تعديله وإنماؤه من الحق والواجب. أما النوع الثاني فإنه يظهر بمظهر شامل لجميع حدود الحق والواجب أو أكثرها؛ والنوع الأول نرى من خلفه حقوقاً وواجبات أخرى يتقيد بها الإنسان. أما النوع الثاني فلا يليح بشيء من ذلك

وبهذا القياس نستطيع أن نقيس حالة الأمم. فإذا كان احتقار حدود الحق والواجب شاملاً لطوائفها وطبقاتها حتى وإن أنكر بعضهم شموله، وإذا كان غير مقصور على بعض الحدود، وإذا كان لا يبشر بحدود أعلى وأتم وأحسن، وإذا لم كان غير مصحوب بالغيرة على المثل العليا، ولم تكن تلك المثل الداعية إليه، فهو نذير شؤم وتدهور واضمحلال

ولكن مما يؤسف له أن بعض المثقفين لا يميزون هذا التمييز ولا يعيرون هذا القياس اهتماماً بل يكتفون برؤية مظاهر تغير اجتماعي مصحوبة بوهي حدود الحق والواجب فيحسبون أن ذلك إنما كان لتسهيل قبول حدود حقوق وواجبات جديدة أكثر قداسة، ويفترضون أن مظاهر التغير هذه لابد أن تؤدي إلى الرقي المؤجل الدائم. وما يسهل انخداعهم أن تكون تلك المظاهر مصحوبة برقي في الماديات، ويحسبون أن ذلك الرقي في الماديات سيكون خالداً ومؤدياً حتما إلى زيادة حدود الحق والواجب متانة وظهوراً في النهاية وإن أضعفها وطمسها في البداية، ولا يميزون أنواع ذلك الضعف والطمس ولا يقيسونها بما ذكرنا من الشرائط. وربما يسهل انخداعهم أيضاً أن بعض المصلحين يعمدون إلى إضعاف تلك الحدود أو بعضها تقريباً لمبادئ جديدة كما يُعمل الهادم معوله في البناء القديم كي يهدمه وكي يؤسس مكانه بناء جديداً. وأكثر هؤلاء يحسبون أنه مهما بلغ من الفساد بسبب طمسهم حدود الحق والواجب فإنهم قادرون على علاج الفساد الذي سببوه. وهذا نوع من الغرور يختص به بعض دعاة الإصلاح ويسلكهم في زمرة المفسدين الذين لا يبالون أصلحت الدنيا أم خربت، حتى أن المفكر لا يستطيع أن يميز بين الطائفتين وأن يحكم على رجل من أي نوع هو

وينبغي للمفكر أن يميز بين المجتمع الإنساني والبنيان، فالبناء حجر أصم يمكن هدمه وإقامة بناء آخر مكانه ولا خطر في ذلك إذا تهيأت الأسباب والوسائل، أما المجتمع الإنساني فهو حي نام شبيه بجسم الإنسان الحي النامي لا بالبناء الأصم، والذين حاولوا إدخال إصلاحاتهم على اعتبار أن المجتمع كبناء من حجر أصم ما لبثوا أن عرفوا خطأهم، وزادتهم خبرتهم وزادتهم أخطاؤهم يقيناً أن المجتمع الإنساني ليس كالبناء المصنوع من حجر أصم بل كجسم الإنسان النامي الحي، ولكن بعض هؤلاء أخطأ في حسابه وبالغ فأفلتت منه الأمور واضمحلت. وينبغي لكل من يعالج أمراً من أمور المجتمع الإنساني أن يقدر أنه قد يكون مخطئاً أو مغالياً حتى على شدة الثقة برأيه فيتخذ الحيطة. واجتماع هذه الأمور لا يكون إلا في مراتب الثقافة الإنسانية العالية. وينبغي لهذا المعالج لأمور الناس أن يحذر من أن يؤدي عمله إلى احتقار حدود الحق والواجب احتقاراً يصبح ناراً تلتهم كل الحقوق والواجبات أو تحاول التهامها ويصير مرضاً مزمناً في المجتمع الإنساني، وهو إذا حاول استخدام احتقار حدود الحق والواجب الناشئ من المكر والخبث والجشع، واستثمارها بتقديم أصحاب هذه الصفات كان عمله آفة لا إصلاحاً، وصارت أمور الناس ضيعة يستغلها من لا يبالي أصلحت الدنيا أم خربت. وقد يستغلها ويخربها باسم الإصلاح بقدوته ونفوذه العلني والسري، والثاني شر من الأول لأنه مختف فيندفع صاحبه غير هياب ولا وجل في إفساد الأخلاق والذمم والضمائر والنفوس. ويكون معالج أمور الناس الذي قدمه كالمرأة التي تغزل بيد وتنقض غزلها باليد الأخرى، وربما سطت بتلك اليد الأخرى على غزل غيرها ونسجه فتتلفه أيضاً.

عبد الرحمن شكري