مجلة الرسالة/العدد 242/تحية شوبنهور
→ صاحب المعالي هيكل باشا | مجلة الرسالة - العدد 242 تحية شوبنهور [[مؤلف:|]] |
غريب الهوى ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
صديقنا القديم من جديد!
يوم قرأت أنهم سيحتفلون في معاهد الغرب الفلسفية بانقضاء مائة وخمسين سنة على مولد (شوبنهور) كان شعوري بهذا النبأ كشعور السالك في الطريق يلقاه على حين غرة صديق قديم مستحب اللقاء مذكور البدوات، على شوف إلى مراجعة عهده السابق واستئناف عشرته القديمة
هذا أنت يا صاح؟
وأين كل هذا الزمن الطويل؟
فقد مضت فترة ليست بالقصيرة لم أصاحب فيها هذا (المعري) من بني الجرمان ولم أراجع كتبه ولم أساجل آراءه وخواطره وأفانين تفكيره، فلما سمعت أنه سينبعث من جديد في ذكرى ميلاده، وأن ميلاد إمام المتشائمين القائلين بأن الولادة أدعى (الذكريات) إلى الحزن والندم - سيصبح في الملأ كله موعداً للغبطة والتبجيل، وأن الدنيا ستشهد هذا الحادث المتناقض كما شهدت نقائض شوبنهور في إبان حياته - عادت إلى الذهن تلك النقائض كلها وتلك الطوائف المقرونة بها، ولاح لي شوبنهور الظريف وهو أول ما يلوح للذهن منه قبل الفيلسوف وقبل الشيخ الوقور
وتلك أولى النقائض والبدوات من صاحبنا القديم: فيلسوف متشائم ولا يذكره الذاكر إلا ابتسم لفكاهاته ونكاته وغرائب عاداته، وولع الدنيا بمناوأته واستخراج شكاياته
فإذا ذكرت (شوبنهور) فأنت تذكر الرجل الذي يبشر بالفناء ويستنكر الحياة، ثم يسمع بظهور الهواء الأصفر في برلين فلا يقف في طريقه هرباً حتى يبلغ فرنكفورت، ولا يعود منها حتى بعد جلاء الوباء بسنين
وتذكر الحكيم الزاهد في عرض الحياة وهو لا يترك دانقاً من حسابه في المصرف، ولا يضع النقد إلا في صندوق مكتوب عليه (مادة طبية). . . كما فعل العطار الذي يكتب عنوان الفلفل على صندوق الحلوى!
وتذكر الراهب الذي يعربد حتى يلحق به تلاميذه في بيوت بنات الهوى، وينفي لذاذا الدنيا وقد أخذ من جميع لذاذاتها بما استطاع من نصيب
وتذكر المبشر بالبرهمية في بلاد الغرب وقد سمي كلبه (أتما) أي روح الوجود!! وأبى الصبية من جيرانه إلا أن يسموه شوبنهور الصغير، إذ لم يكن في البيت صغير غير ذلك الكلب المسكين. . . الذي قال بعض المعجبين بالفيلسوف إنه هو أيضاً لابد أن يكون من المتشائمين، ولابد أن يبدو على وجهه ما يبدو على وجه أستاذه من عبوس ظريف
وتذكر الفيلسوف وقد جلس إلى مائدته في المطعم وأخرج من جيبه كعادته كل يوم جنيهاً إنجليزياً فوضعه على المائدة بحيث يراه الحاضرون، ثم يفرغ من طعامه فيرده إلى جيبه ويقول: (قد كسبت الرهان). . . أي رهان؟؟ رهانه مع نفسه أن زوار المطعم من الضباط لن يتكلموا ذلك اليوم في شيء غير النساء والكلاب وخيل السباق!
وتذكر طالب الجائزة من جامعة كوبنهاجن برسالة لا نظير لها في كتابات عصره، فلما ضنت عليه الجامعة بالجائزة - غفلة منها عن قيمة الرسالة - طبعها وكتب عليها بالخط العريض: (لم تظفر بالجائزة من جامعة كوبنهاجن). . . كأن هذا تزكية لها وضرب من الإعلان!
وتذكر المتهكم الحانق الذي نقم على بعض الممثلين ارتجاله العبارات من غير كلام المؤلف حتى شكاه الكتاب إلى مدير المسرح فنهاه وأنذره بالفصل إن عاد إلى مجونه. . . قال شوبنهور: فلما ظهر بعدها في المسرح على ظهر جواده نسي الجواد موقفه وأتى بصوت لا يسمح به في مسارح التمثيل، فارتبك الممثل وصاح بالجواد: ألم تعلم أنهم يحرمون علينا الارتجال بغير تلقين؟!
تذكر هذا وأشباهه قبل أن يطرأ على بالك شأن الفيلسوف العظيم وتفصيل ذلك المذهب المستفيض الزاخر المجتمع من بديهة الحكمة وسليقة الفن وشعور الرجل المتصل بالحياة على غير انقطاع ولا مجافاة، كمجافاة النساك في صوامع الدين، أو النساك في صوامع العلم والدراسة
فإذا ذكرت ذلك المذهب فلعلك واجد فيه من وشائج القربى مثل ما وجدت من طرائف صاحبه ونقائضه وأفانينه. لأنه مذهب شعر بفحواه كل شاب عالج الفلسفة واشتغل بالتفكير في أوائل هذا القرن العشرين لقد كان التشاؤم طبيعياً معقولاً في زمان شوبنهور فأصبح طبيعياً معقولاً أن يتصل الرأي والشعور بينه وبين الشبان في مثل عهده وفي مثل حاله وإن لم يكونوا على مثاله في مزاجه وأطواره
وخير ما قرأناه في تعليل التشاؤم عند ذلك الفيلسوف الكبير كلمة (دورانت) مقدم طبعته وملخص فلسفته حيث يقول عنه وعن بعض معاصريه:
(لماذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر مبعثاً لتلك الأصوات من أصداء العصر ينطق بها الشعراء المتشائمون على غرار بيرون في إنجلترا ودي موسيه في فرنسا وهيني في ألمانيا وليوباردي في إيطاليا وبوشكين ولرمنتوف في روسيا، عدا الموسيقيين من أضراب شوبير وشومان وشوبان بل بيتهوفن المتشائم الذي حاول أن يقنع نفسه أنه من المتفائلين؟ بل فوق ذلك جميعه فلسفة الحكيم العميق في تشاؤمه ارثر شوبنهور؟
(لقد ظهرت مجموعة الويل والهول المسماة بـ (الدنيا إرادة وفكرة) سنة 1818 وكانت سنة الحلف المقدس بعد أن قضى الأمر في معركة واترلو وخمدت الثورة وقذفت الحوادث بابن الثورة إلى صخرة في البحر السحيق يبلى عليها ويذوي. وإن قبساً من تقديس شوبنهور للإرادة مأخوذ ولاشك من ذلك الأفنوم الفخم المخضب بالدماء المجسد في شخص ذلك الكورسيكي الصغير، وإن قبساً من قنوطه وإحجامه عن الحياة مأخوذ ولاشك من جوانب جزيرة القديسة هيلانة حيث صارت الإرادة إلى الهزيمة والفشل في النهاية، وأصبح الموت وهو الظافر الوحيد المحوم على ميادين تلك الحروب، وقد عاد البوربون إلى عرشهم، ورجع الأمراء والنبلاء يطالبون بأرضهم، وراح خيال الاسكندر الطامح إلى السلام يحتضن في غفلة منه عصابة تقضي على التقدم من كل صوب وفي كل مكان. فقد ولى العصر العظيم وقعد جيتي يحمد الله على أنه ليس بالشاب الفتيِّ في عصر مفروغ منه مقضي عليه بالختام
(خشعت أوربا، وانقرض ألوف الألوف من أشد الرجال، وخربت بطاح واسعات، وكتب على الحياة في كل موضع على القارة الأوربية أن تبدأ من جديد وأن تبدأ من أعمق الأعماق كي تستعيد في ألم وبطء شديد ذلك الفيض الذي التهمته الفتن والحروب. وكان شوبنهور يسيح خلال فرنسا والنمسا في سنة 1804 فيروعه ما يشهد من الفوضى والقذارة في القرى، ومن الفقر والبؤس بين الفلاحين، ومن القلق والشقاء بين المدائن والحواضر. ذهبت حروب نابليون وأعداء نابليون وخلفت وراءها ندوب الويل والهلاك على وجه كل بقعة من هاتيك البقاع: فموسكو في الرماد، والبلاد الإنجليزية على ما أصابها من فخر الانتصار قد مُني فيها الفلاحون بكساد القمح وغلات الزراعة، ومُني فيها صناع المعامل بكل ما يبتلى به الصناع في معمل لا رقيب عليه ولا حسيب، وزاد تسريح الجنود في نكبات البطالة. وروي كارليل عن أبيه في تلك الآونة أن العمال كانوا يذهبون يومئذ فرادا إلى البرك والجداول يملأون بطونهم بالماء بدل الطعام ولا يعنيهم إلا أن يستروا ما بهم من الضنك عن الآخرين. ما كانت الحياة قط أفرغ من معنى ولا أخس مما كانت يومذاك)
هذا منشأ الفلسفة الشوبنهورية من أحوال السياسة وأطوار الدول والمجتمعات. ولهذه الفلسفة منشأ آخر من أطوار الفكر والعقيدة لا يقل في أثره عن حروب نابليون وهزائم الجيوش، وذاك هو شيوع الشك في العقائد والأديان والأمثلة العليا بين الأوربيين بعد عصر النهضة العلمية وعصر الثورة الفرنسية، فلا أمل في الدنيا ولا في الآخرة، ولا معنى للسعي ولا للقعود، ولا خير في التفكير ولا في التسليم، ولا مناص بعد ذلك من ترجمة هذه الحالة في فلسفة منظمة منسوقة مقنعة كتلك التي بشر بها صاحبنا رسول التشاؤم ونذير الفناء
أي حالة هي أشبه بحالة الشاب القارئ في أوائل القرن العشرين من حالة ذلك العصر أو حالة ذلك الانتقال؟
كل شاب يخرج من حظيرة البيت إلى معترك العالم فإنما يخرج من دنيا أحلام وظنون إلى دنيا صراع لا هوادة فيه، ولاسيما في أوائل القرن العشرين حيث كان للعقائد سلطان، وكان للأمثلة العليا بين الشرقيين خاصة مجال لم تضيقه الحقائق والتجاريب
لهذا كان بين شوبنهور وكثير من الشبان القارئين عندنا نسب قريب في أوائل هذا القرن العشرين. ثم تقلبوا مع الحياة فنسوه بعض النسيان من أثر الواقع تارة ومن أثر التشاغل تارات، أو من أثر التصحيح والتهذيب الذي لا محيص عنه مع تعاقب الأيام وتعدد القراءات
فلما قيل إن العالم سيحتفل بميلاد إمام المتشائمين كان في القول ما يشبه الفكاهة والدعابة؛ ولو قيل إن العالم سيحتفل بيوم وفاته لكان في القول بعض المجاراة لموضوع الاحتفال وصاحب المذهب. ولكن الرجل ظريف على الرغم منه ومن فلسفته، فلتكن هذه من دعابات الزمن معه، ومن وفاء الزمن له في قرن واحد
أما فلسفة الرجل بتفاصيلها فيطول شرحها ولا يتسع لها مقال ولا سلسلة مقالات، وهي مستمدة من حياته ومن سيرته ومن عصره. فمن عرف تاريخه عرف الكثير من بواعث آرائه وعلل أحكامه، وعرف مكان الصدق في المطابقة بين الوحي ومصدره وبين البيئة والتعبير عنها. ومجمل تلك الفلسفة في سطرين: أن الإرادة هي صاحبة السلطان في أعمال الأحياء وحركات الحياة؛ وأن الإنسان يلتمس الأسباب والبراهين لأنه يريد، ولا يريد لأنه يلتمس الأسباب والبراهين؛ وأن الفكرة تلغي الإرادة وتشل الحركة وتنتهي بالحياة إلى سكون كسكون (النرفانا) عند الهنود؛ وأن الإرادة تتعلق بالفردية، أما الفكرة فتتعلق بالعمومية الشائعة في الكون كله. ومن ثم يجيء الفن والدين والعبقرية على رأس الفكرة ومن وراء الإرادة أو من وراء عالم الأعمال والحركات، فالمصير الذي يطوينا جميعاً ويطوي أعمالنا وآمالنا إنما هو الفناء أو ما يشبه الفناء
وفي مقال آخر سنطابق بين سيرة الرجل وفلسفته، وبين العرض والجوهر في هذه المطابقة. وحسبنا الآن وهم يحتفلون بميلاده في الثاني والعشرين من شهر فبراير أن نزجي إلى ذكراه تحية المودة والإكبار، وأن نهتف به: مرحى! ومرحباً صديقنا القديم من جديد!
عباس محمود العقاد