الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 241/جوامع النجف الأشرف

مجلة الرسالة/العدد 241/جوامع النجف الأشرف

بتاريخ: 14 - 02 - 1938


للشيخ ضياء الدين الدخيلي

من ذكرياتي التي أنتعش كلما حلقت في سمائها سويعات ممتعة ألقيت فيها محاضرة على زمرة من أساتذة العالم العربي في مدرسة، طالما حنت أضلاعها على جهابذة قادوا الرأي العام الإسلامي وبقوا مصابيح هداه في عصر كانوا هم المهيمنين على جميع مقدرات أمة القرآن. منذ بضع سنوات طرق النجف الأشرف وفد الجامعة المصرية وفي طليعته الأستاذ أحمد أمين والأستاذ الزيات حين كان رسول الأدب إلى عاصمة المأمون. إذ ذاك تحفزت لمقابلة تلك العبقريات اللامعة التي أنفقت ليالي في الاستمتاع بثمراتها الغنية بالغذاء الروحي؛ ما هي إلا خطوات أثقلتها الخواطر والعزمات حملتني أن أغادر مدرسة السيد كاظم البزدي (إحدى المدارس الإسلامية الكبيرة في النجف الأشرف) لاستقبال موكب االثقافة، وإذا بجلبته تملأ مدخل المدرسة الشمالي، فوقفت تحت مصباح زيتي يلفظ أشعته الباهتة كأنه رمز عصر ينقرض؛ في سكون المدرسة الذي زاده اعتكار الليل وروعة المفاجأة - هيبة وجلالاً - وقفت أحدث أفلاذ القاهرة عن قطعة من جسم مزقته الحوادث القاسية عن الحركة العلمية والأدبية في هذا البلد الطيب، أحاطوا بي يصغون إليّ وقد تآلفت القلوب الخفاقة وألهبت العواطف دم العروبة الإسلامية فكللنا بهالة من روابط روحية قدسية. وتمضي الأيام وإذا بسماحة السيد أمين الحسيني ورفيقه دولة محمد علي علوية يزوراننا فأجتمع بهما في نفس البنية لأحداثهما عن حياتنا الدراسية، فأجد في إقبالهما وابتهاجهما طلائع الوحدة العربية والإسلامية تتجلى متجلببة هذه النزعة للتعارف فالتآلف فالتضام؛ وحقاً إن الحركة العلمية في هذه البقعة وأساليب الدراسة - ذات أطراف وأفانين شائقة تتطلع لتفرسها النفوس تواقة لما فيها من مزايا وصبغة خاصة وليدة عوامل عديدة لم تجتمع لغير هذه المعاهد، فقد لاحظت ذلك حتى في الغربيين إذ جاءنا سرب من الأمريكان والإنكليز منذ أيام فزاروا المدرسة وبينت لهم طرفاً من سير الدراسة وترجمت لهم إلى الإنجليزية حديث بعض إخواني من أساتذة ذلك المعهد، فأثار الوضع إعجابهم ولم نشعر إلا وآلات التصوير صوبت شطرنا تلتقط المشاهد المختلفة كأنها تحاول أن تلقي علينا درساً عن تقديس السياح الغربيين للمادة المحسوسة في موضع لم يكترث فيه أبناء مصر وسورية لغير روحياته، وكم بين الشرق والغرب من شذوذ وفوارق!

الحياة المدرسية في حاضرتنا متشعبة الأطراف، حسبي أن أزودك منها بقطفة العجلان ولمحة الطائر، مخططاً لك فكرة عامة سوف أشفعها بتفصيل واف قد يرضي الأستاذ علياً الطنطاوي ومن شاطره رغبته

يزدحم في جوامع النجف الأشرف ألوف المهاجرين لانتجاع الثقافة الإسلامية قد امتطوا ظهور الأسفار من كل حدب وصوب من شتى الأقطار الشيعية. ففيها العشرات من سورية من جبل عامل وغيره، والألوف من مختلف أنحاء إيران وفيها من سمرقند وبخارى وغيرهما من تركستان، وفيها من أذربيجان وفيها الكثير من الهند والأفغان وهضبة التبت، هذا عدا من يرتادها من أطراف العراق ومن شيعة الحجاز. لذلك قد شيدت في النجف الأشرف المدارس العديدة ذات الغرف المعدة للإيواء الغرباء حيث يكفل المجتهدون (وهم أئمة الشيعة الذين يرجعون إليهم في بيان أحكام دينهم مستنبطيها من القرآن والحديث وأسس التشريع الإسلامي) ضمان معاشهم وتجهيزهم بأهبة الدراسة، ينفقون عليهم من بيوت المال التي تصب فيها الشيعة الذهب والفضة من كل ناحية وجانب باسم الزكاة والخمس وحق الإمام وأثلاث الموتى وغير ذلك من الوجوه الشرعية

يبدأ الطالب بدراسة النحو والصرف فينكب على الأجرومية ثم شرح القطر لأبن هشام، ثم شرح ألفية ابن مالك لأبن بدر الدين (هذا منهاج الطلاب العرب، أما الفرس فيدرسون كتباً بعضها بالفارسية يلمحها مجلد باسم جامع المقدمات، ويدرسون شرح السيوطي لألفية ابن مالك) ثم يتناول الطالب مغني اللبيب لأبن هشام، ثم يشرع في المنطق فيدرس حاشية الملا عبد الله على منطق التهذيب، ثم شرح الشمسية، ويتوسع بشرح المطالع ومنطق إشارات ابن سينا وشرحه وكتب كثيرة كحاشية الخبيصي ومختلف كتب المنطق مجهداً نفسه بمراجعة الشروح والحواشي عليها بأسلوب ودراسة لا تعرف النظرة السطحية؛ ومن ثم ينكص قافلاً إلى الأدب فيدرس شرح التفتازاني المطول لتلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع ويتوسع بمراجعة الإيضاح ومفتاح العلوم للسكاكي وشرح السيد الشريف للقسم الثالث منه، ولا يذر مؤلفاً في البيان إلا ويوسعه تمحيصاً

وبعد علوم البيان يخوض الطالب غمار التشريع الإسلامي وقد سبب انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة أن تشعبت أطراف علم الفقه وكثرت المؤلفات فيه وفي أصوله

نبدأ بدراسة (المعالم) في أصول الفقه للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني نضم إليها كتاب (الشرائع) في الفقه للمحقق الحلي ثم ندرس (القوانين) في الأصول للمحقق القمي مع (شرح اللمعة الدمشقية) في الفقه والأصل للشهيد الأول والشرح للشهيد الثاني ثم ندرس (الكفاية) في الأصول للشيخ ملاَّ كاظم الخراساني ثم في الأصول العملية (رسائل) الشيخ مرتضى الأنصاري مع كتابه في الفقه (المكاسب) ولا يقنع الطالب بهذه الكتب بل يكثر الترداد على المصادر الأخرى للتوسع فيطالع في الأصول (بحر الفوائد في شرح الفرائد) وحاشيتي سلطان والشيخ محمد تقي على المعالم و (حقائق الأصول) و (عدة) الشيخ الطوسي و (أنيس المجتهدين) و (تشريح الأصول) للشيخ ملا على النهاوندي و (خزائن) الدربندي و (منهاج الأصول) و (غاية المسئول) و (شرح العضدي) و (تهذيب الأصول) إلى غير ذلك من الكتب العديدة في الأصول التي قضيت في دراستها زمناً ذهبياً (بأوراقها الصفراء) ونطالع في الفقه (جوهر الكلام) وهو في عدة مجلدات من أهم الكتب يتوسع مؤلفه كثيراً في أبحاثه ولا يترك مذهباً في المسألة لا ينقد أدلته، و (الحدائق) و (المسالك) و (المدارك) و (البرهان القاطع) و (تذكرة العلامة) و (قواعده) و (سرائر) ابن إدريس و (الرياض) و (مستند الشيعة) و (مختلف) العلامة و (تحريره) و (جامع المقاصد) و (جامع الأعرجي) وشرح منظومة بحر العلوم و (كشف الغطاء) و (المبسوط) و (طهارة) الشيخ وهو مجلد واحد، وقد وجدت للعلامة الشيخ دخيل كتاباً في عشرة مجلدات أسماه (بأنوار الفقاهة) وإن هذه المجلدات العشرة كلها تبحث في فصل واحد في الفقه وهو فصل الطهارة فياله من توسع في البحث.!

وبعد دراسة كتاب (الرسائل) في الأصول يحضر دروس العلماء الكبار الذين يحاضرون في التشريع الإسلامي وأصول الفقه متخللة أبحاثهم جولات في علم الرجال وفي التفسير والفلسفة (التي يدعونها هنا الحكمة) إذ يرتفع المجتهد على منبر عالٍ حيث يزدحم تحته المئات من الرؤوس (البيضاء والسوداء بعمائمها) تلك الرؤوس التي هذبتها الدراسات الفردية فعادت لا تستند إلى كتاب تفتحه بينها وبين أساتذتها كما كانت في الأول، إنما يتناول المجتهد أطراف العلم فيناقشه طلبته بكل حرية ويتنقلون في الفصول المختلفة من دون التزام بكتاب واحد وإنما يستعرضون المذاهب في المسألة وينقدونها من جميع وجوهها على ضوء حرية الفكر ثم يرجحون ما يختارونه من الآراء، وهنا يقضي الطالب عدة سنوات حتى يدرك درجة الاجتهاد وهي ملكة يقتدر بها على استنباط أحكام الشرع لشريف من مصادرها، حينئذ يمتحنه مجتهدوا عصره ليعطوه إجازة الاجتهاد وهي الشهادة العليا. وفي السنين الدراسية الأخيرة يتجه البعض إلى دراسة الكلام والفلسفة الإسلامية فيدرس فيهما (شرح المنظومة) للسبزواري و (شرح التجريد) للعلامة الحلي و (شرح إشارات ابن سينا للخواجه نصير الدين الطوسي و (أسفار) ملا صدرا و (الشوارق) لعبد الرزاق اللاهجي و (الشفاء) لأبن سينا. والحق أن جوامع النجف الأشرف تدرس الفلسفة الإسلامية بتوسع لا مزيد وراءه. كنت أدرس شرح إشارات ابن سينا لدى شيخ فارسي يدعى (الدامغاني) فكان يتمعن في تدقيقه فلا يدرس في اليوم أكثر من نصف صفحة أو ربعها بالرغم من أن الدرس يستغرق ساعة أو أكثر وكنا نذهب إلى داره بعد الظهر بقليل وذلك في صيف النجف الأشرف تكليف شاق لا يطاق لشدة الحرارة في هذه البقعة الجافة. في هذه البلدة الجاثمة على حدود الصحراء العربية الملتهبة بضرام حصاها ولا سيما أني كنت أخرج من سراديب مدرسة السيد كاظم اليزدي التي تتوغل عميقة في الأرض حيث تغوص بك في مناخ بارد شتوي يضطرك إلى الالتحاف بما يقيك أذى البرد القارس. ولربما يتذكر تلك السراديب الأستاذان الزيات وأحمد أمين وصحبهما فقد أنزلت الوفد إلى سراديب المدرسة وحملت له المصباح وجلنا في أحشاء هذا المعهد العلمي. ولكم أعجبت تلك السراديب السياح فكتبوا عنها الكثير وهي ابتكار لطيف في التغلب على الطبيعة القاسية والتمرد على عذابها - ولكن أستاذي الدامغاني كان أقسى. فكم أجهدنا في خوض معارك الفلاسفة الدامية يقذف بنا في جحيم الخصومة العنيفة بين الخواجه نصير الدين الطوسي وبين محمد بن عمر الخطيب الرازي وكل منهما شارح للإشارات، ولكني ابتليت قبله بأستاذين درست عليهما الفلسفة في حلقتين كبيرتين تضم العراقي والفارسي والتركي والسوري الخ كأنها سفينة نوح في الأساطير، كان كل من هذين الأستاذين مفتوناً بسعة إطلاعه في المذاهب الفلسفية وما نسجه العقل البشري من أحابيل وأضاليل وما كشف النقاب عنه من حقائق ناصعة فكانا غفر الله لهما يركضان بنا في ميادين واسعة من أفكار فلاسفة اليونان من مشائين وإشراقيين ومن محاجّات فرق المسلمة وطوائفها من أشاعرة ومعتزلة وشيعة وصوفية وباطنية حلولية إلى غير ذلك؛ فإذا حمى الوطيس بين هذه المذاهب فليس عليك إلا أن ترهف سمعك ليفيض عليك هذان الأستاذان بخلاصة جهودهما الفكرية، ألا أزيدك أن النجف الأشرف في هذا العصر تدرس الطب اليوناني القديم وفيها أطباء من خريجي جوامعها يعالجون الأمراض المختلفة حسب تعاليم شرح النفس في الطب وغيره؛ وفي جوامع النجف الأشرف يدرس علم الهيئة والفلك عدا العلوم الرياضية الأخرى؛ أما علوم الأدب من لغة وعروض وقافية وتاريخ أدب وشرح النصوص الأدبية، أما التاريخ الإسلامي والعلوم الاجتماعية، فان طلبة جوامع النجف الأشرف لا يتركون كتاباًُ جديداً إلا ويقتنونه موسعيه بحثاً وإنعام نظر، وقد خرجت هذه المدرسة كثيراً من الشعراء النابغين

والمكتبات في النجف كثيرة منها الخصوصية وبعضها يفتح لعامة الناس كمكتبة آل كاشف الغطاء ومكتبة المعارف. وعندي مكتبة تضم حوالي ألف كتاب كثير منها مخطوط عزيز، وقد زارها البحاثة عبد العزيز الميمني الهندي المعلق على أمالي القالي فرأى كتاباً مخطوطاً قديماً أعجبه فقال: (لو ضربن آباط الإبل إلى الصين ولم أحظ بغير رؤية هذا الكتاب لكفاني ذلك غُنما)

وإن الطلبة هنا مشغوفون باستشراق الحركات الأدبية في العالم العربي من مصر وسورية والمهجر، ولمؤلفات (لجنة التأليف والترجمة والنشر) سوق رائجة لدينا

ولكننا لا يسعنا أن نفيض في الحديث أكثر من هذا فيمل القارئ الكريم وإنما هذه نبذة تحدثت بها بصفتي أحد خريجي هذه الجوامع المقدسة

(النجف الأشرف - العراق)

ضياء الدين الدخيلي