مجلة الرسالة/العدد 241/أبو إسحاق الصابي
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 241 أبو إسحاق الصابي [[مؤلف:|]] |
الترجمة خطرها وأثرها في الأمم المختلفة ← |
بتاريخ: 14 - 02 - 1938 |
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
- 4 -
كان العصر الذي نشأ فيه أبو إسحاق الصابي عصراً زاخراً بالكتاب النابغين والشعراء المجيدين ممن خلفوا للغة ثروة ثمينة خالدة، وتركوا في الأدب روحاً فريدة صافية؛ إذ لم يعدْ الخيال وقفاً على الشعر، بل تعداه إلى الكتابة والنثر، فضرب الكتاب به في ضروب متنوعة لم تعهدها العربية، وساروا به في دروب متشعبة لم يألفها من قبلهم، وإن أعزم بها وسار على نمطها من جاء بعدهم. ولعلَّ من أعظم البواعث على رقي النثر والشعر في هذا العصر ذلك الاضطراب الذي انتظم جميع شئون الدولة؛ فهناك اضطراب ديني يدفع إلى الجدل والمنافحة، والنقد والمدافعة واضطراب سياسي، يسوق إلى المؤازرة والمعاضدة، والمنافسة والمعارضة، فكان ذلك الجو المضطرب جو صفاء للغة وآدابها، وهذا العصر المكهرب عصر ازدهار للنثر والشعر على السواء، فاتسع أمام هؤلاء وهؤلاء أفق الابتكار، ولمع مجال الابتداع، وأوحى إليهم ذلك المعترك المنطق الخلاب، والخيال الصافي والبيان الرائع والنسيج الساحر، فجاء نتاجهم عصارة أذهانهم، وذوب أفكارهم، وصفوة قرائحهم؛ تعمقاً في إبراز فكَرهم واضحة جلية، وتعملاً في تنسيق آرائهم ناصعة صفية؛ لتبدو للقارئ مصقولة مستساغة يرضاها عقله البريء؛ إذ لا يعتورها وهن ولا التواء، ولا يكتنفها غموض أو إبهام، وكثيراً ما كانت تدفعهم أحداث السياسة ودفع ما قد ينتظرهم من كوارث، وخوف ما ربما استقبلهم من حوادث، فيما لو تغير مجرى الأمور إلى الكتابة اللولبية، لا تكاد تتبين مرماها، ولا تعرف مأتاها أو مؤداها، إمعاناً في الإبهام، وإيغالاً في الإبهام. وناهيك بعصر نامت فيه السكينة وصحت الفتنة، وأشرقت الأسارير، وأظلمت السرائر؛ فملوكه متنافسون، وأمراؤه متنابزون، وقواده متحفزون، لا يخشى أحد هؤلاء قربى، ولا يأبه لزلفى، كلما جمعتهم جامعة فرقتهم شيعاً مآربُ، وإذا ألف بينهم حلف نقضته دوافع، وأولئك جميعاً يريدون الأدب للسياسة فرساً ذلولا يركضون متنه وسيفاً مسلولاً يشهرونه على ضغنهم، والويل أي ويل لمن تخلف عن الطاعة أو نكص دون تنفيذ الإرادة، إنه إذن لمن المنبوذين المبغضين، ينتظره الحيف ويترصد له الظلم كل مرصد. ومن هنا كان البطش ببعض الكتاب والشعراء سنة مسنونة، فمن أمن اليوم فهو قليل الأمن والدعة غداً، ومن سعد فترات ترقبه النحس سنوات
ومن كتاب ذلك العصر الذي أسلفت وصفه الرئيس ابن العميد، والوزير ابن عباد، والكاتب أبو بكر الخوارزمي؛ ومن شعرائه أبو فراس الحمداني، وأبو الطيب المتنبي، والشريف الرضي. ولقد كان الصابئ مع معاصرته لأولئك الأفذاذ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم، أو يسمح بمن يجري على غرارهم جملة - مرموق الأثر، موموق الخبر؛ يجري أسمه على الألسنة في مراتع اللهو والأنس، أو مهامه اليأس والبؤس، وتتناقل أنباءه الأندية إن أصابته غبطة ونعماء، أو مسته مخمصة وضراء، وتعمر به المحافل والمجالس متى صفرت منه المعاقل والمحابس، وهكذا دواليك يظهره تاريخه حركة دائبة، لا تقفها نعمى تركن بها الدعة، ولا تفدحها بؤسي، فتستسلم للشدة، فهو كادح في الحالين، وأداة عاملة لا يعطل محركاتها ميسرة أو معسرة. ولكأني به يشحذه طول الضراب، ويستثير شعوره أمل الثواب، ويستحيي وجدانه توقع العقاب، فيأتي بما يلذ السامع سمعه، ويعجب القارئ وقعه، وسيبرز هذا الوصف واضحاً جلياً ما سأقدمه بين يدي الكتاب من كتاباته، وما أعرضه على الشعراء من فرائد أبياته، فسنرى أن أروع نثره وأقواه ما جاء في الشكوى؛ وأرق شعره وأرقاه ما جرى في العتبى، ولقد عرف له فضله حامدوه وحاسدوه، ونفس عليه أدبه شاكروه وكافروه، وحسبه ذلك فخراً
نعم إن الصابي كان في الشكوى والاستماح، والنصح والاستنصاح قوي الصوغ والنسج رائع التصوير والخيال بارع المنطق والبرهان، لا تعوزه الحجة، ولا تنأى دون غرضه المحجة. وإذا كان (خير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة) فشكوى الاعتقال وذم الحبس يصدران عن عاطفة صحيحة قوية لا سقيمة ضعيفة؛ ودعك من حبس الجسم والحد من حريته، فذلك أهون خطبه وأيسر أمره، وإنما مر الشكاة تصدر عن سجين العقل معتقل الفكر مرهف الحس، فذلك إذ ينثر أو يشعر يعبر تعبيراً قوياً جياشاً يستثير به العواطف الكامنة، ويستجيش المشاعر الهامدة، ليبعث فيها عواطف ثائرة للعطف عليه ولتستحيل المشاعر الخامدة مشاعر مشتعلة للبر به، ومن يطالب مثل ذلك بالصبر والسلوى والسكون إلى البلوى وعدم الشكوى، أو يعتبر إعلان ألمه خوراً في أدبه، أو استظهار الناس إلى معرفته ضعفاً في خلقه، متطلب في النار جذوة نار، أو هو كما قيل:
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعىَ التجلد، وهو غير جماد
ولو أن أبا أسحاق كان في سياسته كما كان في ديانته، يكتب عن إيمان، ويصدر عن عقيدة (مهما كانت حقيقتهما) لنجا بعض النجو من كثير مما أمضه، ولكنه كما يروي الثعالبي كان يكتب كما يؤمر، وكان كالمركب السهل يوجهه راكبه حينما شاء، فهو يتحدث بما يمليه عليه ربه، ويعبر عن أفكار مولاه، ومع هذا فإنه يأتي بالعجيب، فكيف به إذ يكتب عن عاطفة أو يشعر عن حافزة؟ إنه ليجمع بين اللفظ الرشيق والمعنى العميق، ومن ذلك الذي يبلغ به فنه الجمع بين لغة الألفاظ ولغة العواطف إلا الكاتب المالك عنان قلمه؟ (لأن الألفاظ (كما يقول الأستاذ أحمد أمين) لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ، فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة، أو أنقل حباً ملأ جوانحي أو غضباً استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري! لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، وإنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن نكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف) إذا كان ذلك الرأي صحيحاً ولا أخاله غير ذلك، فقد بلغ الصابي أفقاً لم يبلغه كاتب سواه
ويجدر بنا إذ نتحدث عن نثر الصابي أن نقسمه أقساماً ثلاثة: النثر الديواني، والاخواني، والنثر العام غير المقيد بأحد هذين الوصفين
فأما كتابته الديوانية فكان يصورها باللون الذي يريده عليه سيده ويرسمها بالريشة التي يهبها له، فتارة تبرز سافرة واضحة هينة لينة، ناصعة الكلمات رقيقة الفقرات رفيعة اللمزات والغمزات، تبعث في نفس قارئها الرضا إن كان غاضباً، وتوليه العتبى إن كان عاتباً، والسكون إن كان عاصفاً، وربما لمحت في ثناياها الحكمة العابرة، والأمثال السائرة. فمن ذلك قوله يؤلف بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة على لسان أولهما:
(والله العالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من شرف المكان، وظل السلطان، وكثرة الأعوان - لأجزع في مناضلة عضد الدولة من أن أصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به، كما أكره أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بنابي)
وأحسبه خشي أن يدور بخلد أحد أن عز الدولة يتهافت على مرضاة قرنه أو أنه يرهب مصاولته وضعفه، فبدأ الكتاب بأسلوب القوي الصارم، واستهله بلهجة الغالب الظافر، فذكر العز والمنعة، والقوى والمنة، والملك والسلطان، والجند والأعوان وتأييد الله له، والتفاف الأمة حوله، ثم ثنى بالغرض الذي إليه أراد، وهي فطنة وذكانة في جزالة ورصانة. ومن ذلك قوله أيضاً وفيه حكمة ومواعظ، وتبصره وذكرى، وإن أنكر عليه الحكمة إلا قليلاً الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني حيث يقول: (وقد تصفحنا رسائله غير مرة لنرى أثر الحكمة فيها فوجدناه ضئيلاً):
(إن انتثار النظام إذا بدا - والعياذ بالله تعالى - لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسرى النغل في الأديم؛ وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرْب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب)
وتارة يشاء الموحي إليه صرامة وحزماً، فتقرأ له كتباً أقوى من كاتبها منة، وأرصن من منشئها قوة، تخالها إذ تقرؤها لرجل مارس الحروب، وخفقت فوق رأسه الألوية والبنود، وسبح فوق متون الجباد، وأوتي قوة وعزمة في القيادة والجلاد؛ فهو يتقمص روح مليكه، أو يستعيره قلبه الفتي عندما يهم بكتابة رسالة من هذا النوع. وكأني به يعصر فكره، ويقدح ذهنه، ويكد عقله، ليأتي بالمعاني الشاردة تتصدع لها القلوب، والألفاظ الصادعة تصك الآذان؛ فكل كلمة من كلماته وعيد ونذر، وكل فقراته نار يتطاير منها الشرر؛ وقد يخلطها أحياناً بالسخرية اللاذعة، والتهكم الساخر والهزء الممض، دون إفحاش في ذلك أو بذاءة. فمن ذلك ما كتبه على لسان عز الدولة إلى سبكتين الغزني:
(ليت شعري بأي قدم تواقفنا، وراياتنا خافقة فوق رأسك، ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيولنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ على أعدائنا في يدك). ويقول له أيضاً: (تناولتك الألسنة العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراُ لا يرحضه الأعتذار، ولا يعفيه الليل والنهار). وتحدث عنه فقال:
(هو أرق ديناً وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانة من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة)
ومن هذا الطرز قوله أيضاً:
(ولما بَعُد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبه الرجال، وتضرمت بحسده جوانب الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته فأدركته شقوته، ونزع به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه)
وإنا لنجد في كتبه ورسائله محاولة قد تكون ناجحة في هدم الرجال وتخضيد شوكتهم وتعضيد قوتهم، تلك هي التهوين من شأنهم والحط من قيمهم، فيصمهم بوصمة الذل، ويسمهم بسمة الرق؛ وذلك أحز في النفس، وأعلق بالذهن، وأجرى على الألسن؛ وربما كان حديث تنادر، وطرف فكاهة. وهو يلم بالموضوع الذي يتناوله، فلا يترك فيه فرجة إلا سدها، ولو كوة إلا رقعها، وربما استخدم في سبيل ذلك الطب الذي تعلمه في يفعه استخداماً نافعاً؛ فقد عهد الخليفة إلى عالم بالقضاء فكتب إليه يوصيه، فكانت وصاته خليطاً من حكمة الأطباء، وطب الحكماء، فذكر بأن البطنة شر الأدواء، ونبهه على أنها تذهب الفطنة، ثم بصره عواقب البطر، وخوفه آثار الشره، وأنهما يفسدان عليه أمره، ويحطان من قدره، وإليك كتابه:
(وأمره أن يجلس للخصوم وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حده من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم، ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده)
وهذه فقرات من رسالة يصف فيها حرباً نشبت بين المسلمين والروم، وكانت الغلبة للمسلمين، يصور فيها الحرب وقد حمي وطيسها، واشتعل أوارها، فتتخيل إذ تقرؤها أنه أحد قوادها وبطل من أبطالها؛ فإنه ليبعث النخوة في النفوس، ويثير الحمية في الرؤوس، فكأنه يشرع الأسنة لا اليراع، ويشهر الرماح لا الأقلام؛ وإن القارئ ليحسب أن كاتب الرسالة رجل من صفوة المسلمين، وتقي من خلاصة المتقين، لا صابئ من الكفار الجاحدين، فهو يقول:
(فلما استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة، ودارت رحى الحرب، واستحر الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح، تداعى الأولياء بشعار أمير المؤمنين المنصور، وتنادى الكفار بالويل والثبور، فنكصوا على أقدامهم مجدين في الهزيمة، واعتدوا الحشاشات لو سلمت لهم من أعظم الغنيمة، واستلحمتهم السيوف، واحتكمت فيهم الحتوف، وأخذ المسلمون منهم الثار، وعجل الله بأرواحهم إلى النار)
ورسائله الديوانية كثيرة، فلقد خدم عدة ملوك، وطال به العمر فاتصل بكثير من الولاة والأمراء. ولعل ما بين أيدينا من كتابته في هذا الباب قُل من كُثر، فقلما يعني المؤرخون بمثل هذه الرسائل، وإلا لكان له ولغيره ممن اتصلوا بالسلطان عن قرب أو بعد مجلدات يعيا بها العبء، فلنجاوز هذا الضرب من النثر، فقد عرضنا منه ما فيه الغناء؛ وسنتحدث مستقبلاً عن الضربين الآخرين إن شاء الله، ولن تقف بنا دورة الفلك
عبد العظيم علي قناوي