مجلة الرسالة/العدد 240/في معرض الآراء
→ المرأة والأدب | مجلة الرسالة - العدد 240 في معرض الآراء [[مؤلف:|]] |
ليلى المريضة في العراق ← |
بتاريخ: 07 - 02 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب الأستاذ أديب عباسي في بعض الأعداد القريبة من الرسالة مقالاً سأل في عنوانه: (هل انتهت السياحات والكشوف الظاهرة في القرن السابع عشر أو بعده؟) ثم عاد سائلاً فيه: (أصحيح أن الكشوف الظاهرة أو الكشوف الجغرافية انتهت في القرن السابع عشر أو حواليه، ومن ثم بدأت الكشوف الباطنة للنفس كنتيجة لانصراف الذهن البشري عن الدراسات والسياحات الظاهرة إلى الدراسات والسياحات الباطنة؟! إنني أشك في صحة هذا الزعم، بل أكاد أنفيه قاطعاً)
ثم استطرد في جوابه قائلاً: (ليست السياحات الظاهرة وقفاً على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف كل رجأ من أرجائها؛ وليس الاستشراف للمجهول في خارج حدود النفس الإنسانية قاصراً على الحدود الجغرافية لقارات الكرة الأرضية؛ فهناك السماء بعوالمها الشاسعة، وأكوانها المبثوثة في رحاب الكون، وأسرارها المحيرة؛ وثمة الذرة بصفاتها العجيبة وسلوكها الغريب وأسرارها الدقيقة؛ وهناك أمواج الأثير من ضوء وحرارة وكهرباء وأشعة كونية. . .) إلى أن قال:
(من يستطيع أن يقول: إن الكشوف الظاهرة التي تمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداءة هذا القرن في عوالم الطبيعة والحياة تقل روعة وأسراً للخيال وشدْها للإنسان عن أروع المغامرات الجغرافية التي تمت في القرن السابع عشر أو بعده؟ ثم هذه الكشوف الجغرافية ذاتها هل انتهت حقاً في القرن السابع عشر؟ أين مغامرات سكوت وشاكلثون وبيرو وغيرهم. . .)
ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفناه في مقال (الحدود الحاسمة) الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيانات من ضرورات الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار
فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج عن (المتممات) التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير. وكذلك نقول مثلاً إن القرن التاسع عشر كان قرن الانقلاب الصناعي ولا نمنع بذلك استمرار الاختراع في عالم الصناعة إلى القرن العشرين بل إلى هذه الساعة
فالأرض نفسها كانت مجهولة قبل الكشوف التي بلغت أوجها في القرن السابع عشر وما حواليه
والبنية الإنسانية نفسها كانت مجهولة قبل تلك الكشوف، فكان من الناس من ينازع في شكل الأرض وفي القرار الذي هي قائمة عليه؛ وكان منهم من يزعم أن الإنسان في بعض الأصقاع يشبه الكلاب أو يشبه الغيلان، ويجري التناسل بينه وبين فصائل شتى من الحيوان
فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في أمر الأشكال والظواهر، وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن، أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين
ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير والأشعة الكونية، إلى أمثال هذه الكشوف العلمية التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام
ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من (الحاسة الاجتماعية) التي تتعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات؟ أو التي تتعلق بها الديمقراطية وما لها من الأثر في وصف المجتمع وتحليل أفراده وطبقاته؟
فالسائح الذي يعود من الأقطار الأسيوية وقد روى لأبناء وطنه أنباء البذخ والفخامة ونوادر الذهب والفضة والجواهر والنفائس في أيدي الناس؛ يلهب أشواقهم ويعلق آمالهم وأحلامهم وأوهامهم أضعاف أضعاف ما يفعله كشف الذرة وما إليه من كشوف لا تتصل (بالحاسة الاجتماعية) إلا من بعيد
وألف كشف من كشوف (الذرة) لا يغير وصف الأبطال في القصص والروايات إلا أن يصل إلى اختراع طيارات أو سفن أو أسلحة أو ما شابه هذا من أمور تتصل (بالحاسة الاجتماعية) على نحو من الأنحاء فالمعول فيما كنا نبحثه من اختلاف وصف الأبطال في القصص بين العصور القديمة والعصور الحديثة إنما هو على شعور الناس بها، أو تعلق (الحاسة الاجتماعية) بموضوعها، وليس المعول على حدوثها في عالم الواقع أو تسجيلها في دواوين العلماء
و (الذرة) بعد لا يكشفها إلا عالم أو مشتغل بعلم وصناعة؛ أما البقاع فيكشفها كل من شاء الرحلة من المغامرين، ويعني بها كل من قعد وراءهم من المتخلفين، ويشتغل بها من يراقب الجماهير ويدرس النفوس ويسجل أطوار الشعوب والأفراد. فهي لا تنعزل عن الحياة الاجتماعية ثم الحياة النفسية التي هي موضوع الروايات ومحور وصف الأبطال، وليست كذلك كشوف الكواكب أو كشوف الذرات
ولعل فيما تقدم توضيح ما التبس على الأستاذ (أديب) فهو غني عن المزيد من التوضيح
وقد كتب إلينا الأستاذ عبد الحميد العبادي يسأل عن كتاب الدكتور ويلكوكس وأسمه باللغة الإنجليزية، فذكرنا هذا الاسم في العدد الـ (236) من الرسالة، ووعدنا بالإجابة عما استوضحه الأستاذ من أثر الطريقة الزراعية الحديثة في أحوال العالم بأسره، وأنه ربما فاق في اتساعه وبعد مداه أثر الانقلاب الصناعي منذ قرن من الزمان
أما شرح الطريقة الزراعية العلمية التي تكفل لكل قطر من الأقطار أن يعيش على موارده الداخلية فليست الرسالة محله، ولسنا نحن أصحاب الاختصاص فيه
وأما الأثر الاجتماعي فيستطاع العلم به إذا عرفنا ما كان من أثر الانقلاب الصناعي في القرن الماضي، وعرفنا البواعث التي أفضت إلى ذلك الأثر ولا تزال تفضي إليه
إن الانقلاب الصناعي قد أحوج الدول إلى مستعمرات لجلب (الخامات) وبيع المصنوعات وتسخير الأيدي العاملة بأبخس الأجور
وإن الانقلاب الصناعي قد أخرج للأمم طبقات العمال وأثار بينهم وبين أصحاب الأموال ذلك الصراع الذي قوض ما قوض من دول، وأقام ما أقام من مذاهب في السياسة والدين والأخلاق
وإن الانقلاب الصناعي قد أذكى ضرام التنافس بين الحكومات، وأنشب ما أنشب من حروب وثورات
فكل هذا يتغير لا محالة إذا استغنت كل أمة عن الخامات واستغنت عن الأسواق كل هذا يتغير إذا نجحت طريقة المجددين في الزراعة العلمية واستطاعت الأمم أن تعيش على مواردها الداخلية كما يقول الدكتور ويلكوكس في كتابه الذي أشرنا إليه
كل هذا يتغير، ويتغير معه تقسيم المجتمع وتقسيم الثروة وتقسيم عناصر الحكومة وتقسيم عوامل السياسة وما يتبعها من أهبة الحرب وأهبة الفتح وأهبة (التحالف) من جهة، والتعادى والتباغض من جهة أخرى
لا خامات في الخارج فلا مستعمرات، ولا أسواق في الخارج فلا منافسات، ولا احتكار فلا تكديس للثروة ولا نزاع بين العاملين وأصحاب رؤوس الأموال، ولا تسليح من ثم ولا توجيه للمصانع إلى غير المفيد من صناعات العمار والإنشاء دون التدمير والتقويض. وإذا احتاجت الأمم إلى بعض الخامات أو بعض الأسواق، فإنما يكون ذلك في أمان واستقرار وتعاون واشتراك على النحو الذي يجري به البيع والشراء بين الأفراد، أو على النحو الذي يجري به التبادل بين جماعات التعاون ولا سيما في بلاد الشمال ونعني بها بلاد الدنمرك والسويد والنرويج
ذلك مجمل الدعوة التي يبشر بها المجددون في علم الزراعة والمشفقون على بني الإنسان من أهوال الحروب
والمذهب معقول في أصوله وفروعه. ولو أنه مشكوك في مقدماته أو في نتائجه لكان مع ذلك جديراً بالبحث والمتابعة والجد في تحقيق ما يستطاع من خيراته وحسناته، لأن متابعة الأحلام قد تجوز إذا عظمت الغاية وعظم الخطر المرهوب. وأي غاية أعظم من اتقاء الحروب؟ وأي خطر أعظم من خطر الفجائع التي تطبق على الشعوب المسوقة إلى تلك الحروب؟
إن متابعة الأحلام قد تجوز في هذا المقام، فكيف بالبحوث العلمية وكيف بالوقائع والأرقام؟
عباس محمود العقاد