الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 24/القصص

مجلة الرسالة/العدد 24/القصص

من غير عنوان Без заглавия هي قصة قصيرة بقلم الكاتب الروسي أنطون تشيخوف. نشرت هذه الترجمة في العدد 24 من مجلة الرسالة والذي صدر بتاريخ 18 ديسمبر 1933.



من غير عنوان

للقصصي الروسي تشيكوف

كانت الشمس في القرن الخامس عشر تشرق كل صباح وتغرب كل مساء كما هي اليوم. وحينما تقبل أشعتها الأولى ندى الأرض تنفض هذه عنها غبار الكرى، وتشيع في الدنيا البهجة وتحلو الأماني! وتعود الأرض في المساء إلى سكونها ثم تغوص في غياهب الليل. وقد ترى أحياناً سحابة راعدة تلوح، ويقصف الرعد وهو يزمجر، أو تهوى نجمة من شاهق وهي وسنانة، أو يقبل راهب حثيث الخطى شاحب اللون ليخبر رفاقه بأنه رأى نمراً قريبا من الدير. كان هذا كل شيء، ثم تعود ثانية الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي.

كان الرهبان يصلون ويعملون: أما رئيس الدير فيعزف على الأرغن، ويقرض الشعر اللاتيني، ويؤلف النغم الموسيقى. وكان للكهل الحلو الوديع ذكاء نادر وسجايا حميدة. فهو يعزف على الأرغن ببراعة، حتى أن معظم الرهبان القدماء الذين يضعف سمعهم كلما قربت نهاية حياتهم ما كانوا يستطيعون أن يحبسوا دموعهم كلما هفا صوت أرغنه من صومعته. وعندما يتكلم ولو عن الشؤون العامة كالشجر والوحوش الضارية والبحر الخضم، لا يسمعه إنسان دون أن ترى دمعة تترقرق في عينيه، أو بسمة ترتسم على شفتيه، فيخيل اليك أن الأنغام التي تتجاوب في الأرغن هي بعينها التي تعتلج في نفسه. وحينما يهيجه غيظ متمكن، أو يأسره فرح شديد، أو يتحدث عن أشياء مروعة تأخذه نشوة قوية، ويتسايل الدمع من عينه اللامعة، وتضرج وجهه الحمرة، ويدوي صوته كالرعد. هنا يحس الرهبان المستمعون أن أرواحهمتذيبها عظمته وأنها تفنى فيه. لقد كانت قوته في هذه الدقائق العظيمة العجيبة لا تحد، فلو أمر شيوخ الدير أن يقذفوا بانفسهم في البحر لاستبقوا اليه مسرعين.

كان موسيقاه وصوته وشعره الذي يمدح به الله منبعاً لسرور الرهبان لا ينضب. ففي مدة حياتهم الرتيبة تنقلب الأشجار والأزهار والربيع والخريف إلى أشياء مملة، ثم يقلقهم هدير اليم الزاخر، ويصبح شدو الطير مملول النغم مرذول الجرس. ولكن سجايا رئيسهم كانت لهم بمثابة القوت المحيي والقوة المجددة.

كرت السنون ومازالت الأيام تشابه الأيام، والليالي تحاكي الليالي وما دنا من الدير أحد اللهم إلا ضواري الوحش وجوارح الطير. وكانت أقرب المساكن الإنسانية بعيدة جداً. ولا تصل اليها من الدير أو تصل إلى الدير منها حتى تعبر صحراء ذرعها مائة ميل.

والذين يجرءون على القيام بهذا هم أولئك الذين لا يجعلون للحياة قيمة ولا يقيمون لها وزناً، والذين نبذوها وراءهم ظهرياً ونفضوا أيديهم منها جملة. يولون وجوههم شطر الدير وكأنهم يسيرون إلى القبر.

ولشد ما كانت دهشة الرهبان عند ما قرع بابهم في ليلة من الليالي رجل برهن لهم على أنه من سكان المدينة: وكان هذا الرجل أكثر الناس ارتكاباً للإثم وحبا للحياة. وقبل أن يصلي أو يرجو رئيس الدير أن يباركه طلب طعاما ونبيذا.

فلما سألوه عن سبب قدومه من المدينة إلى الصحراء قص عليهم قصة طويلة: خرج يطلب الصيد ومعه شراب كثير فضل الطريق، وعند ما أشاروا اليه أن الواجب عليه أن يمسي راهباً أجابهم في ابتسام: (لست لكم بصاحب!)

شرب واكل ملء بطنه، ثم رفع بصره إلى الرهبان الذين يقومون بخدمته وهز رأسه لائماً وقال:

(إنكم معشر الرهبان لا تعملون شيئا، كل ما تعنون به هو طعامكم وشرابكم، هل هذه هي الطريقة لخلاص أرواحكم؟ فكروا الآن! بينما أنتم تعيشون في هدوء هنا، تأكلون وتشربون وتحلمون بالخيرات والبركات إذا بإخوانكم هناك قد كتب عليهم عذاب الجحيم، انظروا ما الذي يحدث في المدينة! بينما بعض الناس يموتون جوعا، إذا بالآخرين لا يعرفون أين يبذرون الذهب، ينغمسون في الدعارة ويهلكون فيها كما يهلك الذباب في العسل، ثم لا صدق ولا إخلاص بين الناس. من الذي يجب عليه انتشالهم مما هم فيه؟ أأنا الذي أروح صريع الكأس من الصباح إلى المساء؟ هل أنعم الله عليكم بالخلاص، ومنَّ عليكم الحب، وحباكم بالقلوب الرحيمة، لتجلسوا هنا بين هذه الجدران الأربعة ولا تعملون شيئا؟!).

ومع أن كلام الرجل السكير كان ينطوي على الجرأة والقحة فقد أثر تأثيراً غريبا في رئيس الدير فنظر هو والرهبان بعضهم إلى بعض ثم قال رئيسهم بوجه شاحب (إخواني انه محق. فصحيح أن الحماقة والضعف البشري جرفا الإنسانية التعيسة في تيار الجحود والإثم فأهلكاها وقضيا عليها. وها نحن أولاء لا نريم من هذا المكان كأن لا عمل لنا ولا واجب علينا. لماذا لا أذهب إليهم فاذكرهم بالمسيح الذي نسوه؟).

نالت كلمات رجل المدينة من نفس رئيس الدير، ففي اليوم التالي أمسك بعكازه وودع إخوانه، وركب الطريق إلى المدينة، فأمسى الرهبان لا ينعمون بموسيقاه ولا بحلو حديثه ولا برائع قريضه.

ترقبوه شهراً ثم شهرين فما عاد، وأخيرا في نهاية الشهر الثالث سمعوا نقر عصاه المألوف فخف الرهبان لملاقاته وأمطروه بالأسئلة، ولكنه بدلا من مشاركتهم في حبورهم بكى بكاء مراً وما نبس ببنت شفة. رأى الرهبان أنه أصبح نحيلاً وأن أعراض الكبر قد بدت على ملامح وجهه.

فما تمالك الرهبان وقد رأوا منه ذلك أن أجهشوا بالبكاء وسألوه عما يبكيه، فما أجابهم بكلمة وغادرهم موصدا عليه بابه ومكث في صومعته. لبث فيها خمسة أيام ما شرب فيها شرابا ولا طعم طعاما ولا عزف على الأرغن. ولما طرق الرهبان عليه بابه وألحوا عليه في الخروج ليشاركوه في أساه كان جوابه الصمت العميق.

خرج من معتكفه أخيرا وجمع حوله الرهبان وأخذ يقص عليهم ما حدث له خلال الشهور الثلاثة التي خلت والدمع ينضح وجهه والألم يأكل قلبه، ثم هدأت نفسه وتهللت أساريره حينما أخذ يصف لهم رحلته من الدير إلى المدينة. غنى الطير وخر الجدول على جوانب الطريق، وجاش صدره بالأماني الحلوة والآمال المعسولة. شعر بانه جندي يتهيأ لاقتحام الموقعة والوصول إلى النصر المحقق. سار حالما يقرض القصيد ويصوغ النشيد، وسرعان ما وجد نفسه في نهاية الرحلة. على أن عيونه أومضت باللهب، ونفسه جاشت بالغضب، وصوته ارتعش عندما بدأ يحدثهم عن المدينة والإنسانية. ما كان رأى ولا تخيل قبل اليوم كل ما رآه وأحصاه في قلب المدينة. رأى وفهم لأول مرة في حياته سلطان إبليس وسيادة الجور وضعف القلب الإنساني الخاوي. هنا خمسون أو ستون رجلا جيوبهم مترعة بالمال يقصفون ويشربون النبيذ دون حد. أخذوا وقد تملكتهم نشوة الراح يرفعون عقائرهم بالغناء الساقط، وينوهون في شجاعة بأشياء جارحة لا يجرؤ إنسان يخاف الله جل سلطانه أن يشير اليها. فهم أحرار سعداء شجعان لا يخافون الله ولا يخشون الجحيم ولا يهابون الموت. يقولون ويفعلون ما يشاءون، ويذهبون إلى حيث تسوقهم رغباتهم الجامحة.

اما النبيذ فصاف صفاء الكهرمان! وهو أيضا ذكي الرائحة لذيذ الطعم، لأن كل من يعب منه يطفح وجهه بالبشر ويرغب في الشراب ثانية. وهو يجزى على ابتسام بابتسام، ويتهلل غبطة كأنه يعرف أي ضلال جهنمي يختبئ تحت حلاوته.

غلى مرجل غضبه، وبكى أحر البكاء وأشجاه. ثم استطرد يقص عليهم ما رأى: (وقفت امرأة نصف عارية على منضدة وسط القاصفين، ويصعب عليكم أن تتصوروا شيئا اكثر فتنة وسحرا منها، صبى ناصر زاهر، وشعر طويل جثل، وعيون سوداء لامعة، مكتنزة محمرة، ثم سفاهة وجرأة وقحة. هذه البهيمة تبتسم فتفترعن عن أسنان بيضاء كالبرد كأنها تقول: (انظروا إني جميلة، ومستهترة. . . .) وتتدلى من عاتقها الملابس الحريرية البديعة المشجرة. على أن جمالها لا تخبئه ملابس، لأنه بشره يفسح لنفسه الطريق بين طيات ثوبها. . . . كأنه الأعشاب الصغيرة وهي تشق لنفسها الطريق في الأرض زمن الربيع. وتشرب المرأة التي لا تستحي النبيذ، وتغني الأغاني، ثم تستسلم بعد ذلك للمعربدين. . . .).

لوح الرجل الكهل بذراعيه حانقا ثم استمر يصف لهم سباق الخيل، وصراع الثيران، والملاعب، وحوانيت الفنانين، حيث يعرض هيكل المرأة العارية مرسوما بالزيت أو منحوتا من الصلصال.

كان الرجل في حديثه لسِناً ملهماً جهوري الصوت حلو الجرس كأنه يعزف على آلة موسيقية لا تقع عليها العين. والرهبان ذاهلون عن أنفسهم غائبون عن رشدهم وقد أسرتهم كلماته وسحرهم بيانه، فهم يلهثون من فرط السرور. ولما فرغ من وصف إغواء إبليس وفتنة الفسوق وسحر المرأة لعن إبليس ثم غادر المكان واختفى وراء بابه.

فلما خرج من صومعته في صباح اليوم التالي لم يجد راهبا واحدا في الدير. فقد انطلقوا جميعاً مسرعين إلى المدينة!!

محمود البدوي