مجلة الرسالة/العدد 24/العالم المسرحي والسينمائي
→ صديقها عشيقها | مجلة الرسالة - العدد 24 العالم المسرحي والسينمائي [[مؤلف:|]] |
الحركة المسرحية والسينمائية في الخارج ← |
بتاريخ: 18 - 12 - 1933 |
فلم (الوردة البيضاء)
لناقد (الرسالة) الفني
- 2 -
أفضنا في الأسبوع الماضي في الحديث عن موسيقى عبد الوهاب في فلمه الأول (الوردة البيضاء) لأنها العماد القوي الذي رفع هذا الصرح الشامخ عاليا وأناله هذه المكانة الرفيعة من النجاح والتقدير. وهذه الألوف التي تزاحمت لمشاهدة الفلم انما جذبتها موسيقى عبد الوهاب وألحانه القوية الفياضة التي يصوغها من روحه فتخرج ملؤها الحياة، تعمر جوانبها، وتفيض في نواحيها، وكأن عبد الوهاب يضع فيها من نفسه ومن حاسته، ويفرض عليك عند سماعها ألوانا شتى من العواطف والاحساسات لا قبل لك بدفعها أو الفرار منها، وانك لتسمع الحان هذا الشاب بقلبك وجوانحك قبل أن تسمعها بأذنك.
شغلتنا موسيقى عبد الوهاب إذن عن الحديث في النواحي الأخرى من الفلم، وما ينبغي أن نغمط الممثلين الأكفاء الذين اشتركوا في تمثيل هذا الفلم ما أبدوه من الكفاية في أدوارهم جميعا. ونبدأ بالأستاذ محمد عبد القدوس (خليل أفندي) وكيل الدائرة، فقد كان الممثل الكامل، وليس للناقد عليه من سبيل، إذ أدى دوره على أحسن ما يكون، في بساطة وسهولة ويسر، وفي كثير من الدقة والأمانة للشخصية التي يمثلها، وهو ما اشتهر به عبد القدوس في تمثيله السهل الممتنع. وعبد القدوس لا يمثل، ولكنه يعيش الدور الذي يقوم به. وهذا هو المثل الأعلى لفن التمثيل.
والأستاذ سليمان نجيب في دور (إسماعيل بك) والد رجاء كان كثير التوفيق في مشاهده المختلفة، غير أن نزعته المسرحية كانت تبدو واضحة في حركاته وإشاراته وحديثه. ولو حاول قليلا أن يتخلص منها لما كان ما نأخذه عليه. ويبدأ سليمان جملته قوية، في صوت مرتفع واضح، وما يزال يخافت بها حتى يتلاشى صوته في النهاية فلا نسمع الكلمات الأخيرة التي تخرج أشبه ما تكون بالهمس أو المناجاة. وهذا العيب لا يغتفر في المسرح فمن باب أولى في السينما. على أن مظهر سليمان نجيب بقامته المديدة، وطلعته الوضاحة، وأناقته المعروفة، مما يكسبه دائما طابعا خاصا يجعله بارزا، ويكسب الشخصية التي يمثلها اهمية خاصة، ويحيطها بجو ملائم لها مما من الترف والنعيم. وسليمان يعد بحق في مرتبة الممثلين المجيدين بين الهواة والمحترفين على السواء. وكم كنت أود أن أراه في موقفه من جلال عندما يطلب منه قطع علاقاته بابنته رجاء، خيرا مما رأيته، وقد كان ذلك في وسعه.
وشخصية (شفيق بك) التي مثلها الأستاذ زكي رستم مضطربة بعض الشيء، وأنت لا تستطيع أن تفهمها من سياق القصة تمام الفهم، ويبدو التناقض في تصرفات هذا الشخص وفي أعماله طول الرواية، وتستطيع أن تقول عن شفيق بك انه رجل لا طعم له ولا لون، وهذه الشخصيات التي لا تجد لها معالم أساسية واضحة من الصعب أن تحاسب الممثل على أدائها حسابا دقيقا. على أن زكي رستم استطاع بجهده انه ينقذ بعض المشاهد. وليس الذنب ذنب الممثل إذا كان المؤلف لم يخرج الشخصية واضحة محدودة المعالم والمظاهر.
وقد أدى الأستاذ توفيق المردنلي دوره (ناظر العزبة) بتوفيق يغبط عليه، وكان فيه طبيعيا لا تلمح في مشاهده أثراً للتكلف، بل كان صورة صادقة للفلاح المصري الطيب القلب السليم الفطرة الصادق في خدمه مولاه، وبرغم قلة مشاهده استطاع أن يبرز شخصيته ويجعل منها مكانة واضحة.
مثلت الآنسة سميرة خلوصي دور (رجاء) وهي المرة الأولى للآنسة التي تظهر فيها على الشاشة، كما أنه لم يسبق لها مران على مهنة التمثيل، وإنها ولا شك خطوة جريئة أن تمثل دورا له هذه الأهمية في الفلم، ولا يكاد يخلو منه مشهد من مشاهده. ولذلك كان التقصير الذي يبدو من الآنسة انما يلام عليه المخرج، وهو في هذه الحالة المسئول الأول عن رجاء، لأنه هنا يعمل في عجينة لدنة يشكلها كيف شاء، ويدربها جهد ما تستطيعه مقدرته، وما تتحمله موهبتها واستعدادها. وقد استطاعت الآنسة سميرة أن تجتاز بعض مشاهد الفلم موفقة، كما بدت في مشاهد اخرى كالطفل الخائف الذي ينفذ أوامر بنصها خوفا من (العلقة) التي تنتظره إذا حاد عن هذه الأوامر قيد شعرة. ولذلك كانت تبدو حركاتها أحياناً وفيها بعض التكلف، وتحس باضطرابها تحت نظرات المخرج الواقف لها بالمرصاد في احدى الزوايا. وبرغم كل هذا نستطيع أن نقول انها نجحت في دورها ووفقت في اداء بعض مشاهده توفيقا كبيرا. وفي صوت الآنسة رنة مستحبة، عذبة الوقع في الأذن، ساعدتها كثيرا على أن تجد لها مكانا رفيعا في قلوب النظارة، فكسبت بذلك عطفهم وإعجابهم، وبين الاثنين خطوة قصيرة المدى، وأريد أن أهنئها على ذوقها السليم في اختيار ملابسها التي ظهرت بها في الفلم: كلها أنيقة بديعة التنسيق تناسب جسمها وتلائمه.
قامت السيدة دولت بدور زوجة إسماعيل بك والد رجاء. وكان من سوء الحظ ان بدت ممتلئة الجسم إلى درجة كبيرة أضاعت عليها كثيرا من رشاقتها المعروفة، ولم يبذل المخرج جهدا في ملافاة هذا العيب. والسيدة دولت ممثلة معروفة، فلست بحاجة إلى الإفاضة في هذه الناحية، غير إني آخذ عليها أنها أسفت بشخصيتها كثيرا في المشهد الذي تشتم فيه (رجاء) فقد أتت فيه من الحركات ما لا يتفق والاحترام الذي نحمله لشخصية الدور، وما لا ترتجله سيدات الطبقة الراقية مهما كانت الظروف.
ولا أنسى الأستاذ ادمون تويما في مشهده القصير الذي قام فيه بتمثيل دور المستأجر الأصم، فقد كان من مشاهد الفلم الموفقة. أخطاء الإخراج كثيرة في الفلم، وعلى الأستاذ محمد كريم أن يتقبل نصيبه من اللوم بشجاعة وسعة صدر، فلا يزال إلى اليوم في خطاه الأولى، ونرجو له إذا تفرغ لدراسة هذا الفن، فن الإخراج السينمائي بنواحيه المختلفة وأبوابه المتعددة، أن يكون في المستقبل أكثر توفيقا وإلماما بعمله.
أول ما آخذه على المخرج أن مشاهد (جلال) وخصوصاً الغنائية منها لم تظهر في المستوى الفني الذي كان يجب أن تظهر فيه، وقد حد بذلك من حرية عبد الوهاب ولم يهيئ لبعض أغانيه الجو الذي يلائمها فيزيدها جلالاً وسحراً ويضاعف تأثيرها في النفوس، وشتان بين المشهد الختامي والمشهد الذي يغني فيه عبد الوهاب (جفنه علم الغزل) وبين مشاهد (يا وردة الحب) و (سبع سواقي) ومشهدي التخت.
وقطعة النيل كان في مقدور المخرج النابه أن يستفيد مما فيها من حركة وحوار ووصف، وكان يمكنه أن يخرج منها مشهداً رائعاً. فالنيل في ضوء القمر على مقربة من الأهرام، وبعض المراكب الشراعية تسير على مهل، ورجاء وجلال في قارب منها، وفي خلوة رقيقة بين أحضان الطبيعة، هذا وأنغام اللحن الشجي تنساب في مثل رقة النسيم وخرير الماء؛ فأية روعة كانت تكون لهذه القطعة؟ ولكن المخرج حبس جلالاً بين اربعة جدران وهو يغني أنشودته الجميلة، ولم يحاول حتى أن يستفيد من وجود (رجاء) في الغرفة المجاورة، فقد كان في وسعه أن يتنقل بين الغرفتين، فنرى جلالاً يغني، ثم نرى (رجاء) مأخوذة بسحر صوته، وتبين على وجهها ملامح الانفعال والنشوة والطرب، مما يكسب القطعة حياة. وأي فارق بين هذا المشهد كما أخرجه كريم وبين أن نسمع هذا اللحن من الحاكي؟!
وفي مشهد (يا وردة الحب) اضطر عبد الوهاب أن يقف ويدور، ويجلس تارة على الكرسي، وتارة على المنضدة. وأن يتكلف في الجملة كثيراً من الإشارات والحركات حتى ينتهي من اللحن، كما أن إنشاده لقطعة (سبع سواقي) في مكتب العمل لم يكن طبيعيا مطلقا، وكان يمكن أن يهيأ الجو المناسب للقطعتين.
وإني لأعنى اكبر عناية بمشاهد الغناء في الفلم لانها الأساس فيه. ولذلك أطلت الحديث عنها عامدا. وكنت أود أن تكون عناية الأستاذ كريم بها اكبر، وتوفيقه في إبرازها أقوى واظهر. وقد كانت ميداناً صالحاً لإبراز الكفاية والموهبة والذوق الفني للمخرج.
ومما يعاب على الفلم القفزات التي فيه من ناحية الحوادث، والتي لم يمهد لها المخرج تمهيدا كافيا، ثم بساطة الإخراج في مجموعه مما يجعله اقرب إلى تسجيل الحوادث على طريقة مخبري الجرائد اليومية منه إلى الإبراز الفني الصحيح الذي يطبع الرواية بطابعه، ويجعل لها قيمة فنية تكسبها ذاتية خاصة. وكان في الوسع الاستغناء عن بعض مشاهد الفلم واختزال البعض الأخر. وكان يفيد ذلك في اضافة مشاهد جديدة تستقيم بها الحادثة، أو إطالة بعض المشاهد الموجودة التي تبدو كأنها مبتورة.
ومن المشاهد التي ضاعت تماما وكان يمكن أن تكون من المشاهد الفنية القوية التي لا ينساها المتفرج ابدا، مشهد إسماعيل بك عند زيارته لجلال يطلب منه كوالد قطع صلاته برجاء.
ولست أدري كيف غابت أهمية هذا المشهد عن المخرج، مع انه يكاد يكون أهم مشاهد الرواية، وهو نقطة التحول فيها. كان مشهدا فاتراً عليه مسحة التكلف وقد يكتفي مخرج نابه قدير بخلق موقف كهذا في سياق القصة ليبني عليه مجده وشهرته، وليضفي عليه من فنه حياة وقوة، لما فيه من أهمية الحادث وصراع العوامل المختلفة، مما يجد فيه المخرج مجالاً لإبراز كفايته.
وكان يستطيع المخرج بفنه وبما يظهره في ثنايا المشهد من العراك القوي العنيف بين إسماعيل بك وجلال وما ينتاب كلا منهما من مختلف عوامل النفس، وشتى الانفعالات، واضطراب جلال وألمه الدفين، وقسوة إسماعيل بك وإلحاحه إلى غير ذلك من المواقف التمثيلية التي يخلقها المخرج، كان يستطيع بذلك أن يقوي نقطة الضعف في الرواية من قبول جلال للتضحية دون مسوغ أو مبرر، بل كان يمحوها محوا، ويخلق الرواية خلقا جديدا.
ولم يلاحظ المخرج التلاؤم بين الأضواء والأشخاص في بعض مناظر الفلم، كما فاته أن يلائم بين ملابس الممثلين وألوان المنظر والأثاث، كما أن ساعات الليل والنهار امتزجت امتزاجا كبيرا بحيث كان يصعب علينا أحياناً أن نحددها: فترى مثلا ضوء النهار، ثم مصباحا كهربائيا منارا في نفس الوقت.
وقس على ذلك كثيرا من الأخطاء المنثورة هنا وهناك، على أن هذا الفلم يعد خيرا من فلمي (زينب) و (أولاد الذوات) اللذين إخرجهما كريم من قبل فلنهنئه إذن.