الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 239/من مشاهد المهرجان

مجلة الرسالة/العدد 239/من مشاهد المهرجان

مجلة الرسالة - العدد 239
من مشاهد المهرجان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 01 - 1938


كنت أمشي في شارع إبراهيم عصر يوم الأحد الرابع من أيام الزفاف الملكي السعيد، ونظري وفكري يتبعان فلول الزوار وهم يسيرون زمُراً في باحة الطريق يلقون أنظارهم الطائرة على بقايا الزينة من أقواس وأعلام، وينفقون قروشهم الأخيرة في مغريات النفس من شراب وطعام؛ وكان الملايين الثلاثة الذين ساهموا بآمالهم وأموالهم في زفاف الفاروق قد انتشروا في ميادين القاهرة وفنادقها وحدائقها ثم تركوها أشبه بمروج الربيع نفشت فيها قطعان الشاء فجعلتها كالصريم؛ ولكن هذه الأفواه الفرحة التي لم تفتر عن الضحك والهتاف، أو عن المضغ والارتشاف، قد أفعمت جيوب القاهرة مالاً وغمرت جنوبها بهجة. فكان منظر هذه الشراذم المتخلفة وهم يودعون مجال العُرس والأنس يبعث في النفوس شعور الأسف على انقضاء فترة من فترات الجنة اجتمعت فيها القلوب على السرور المصفى والوداد المحض

كنت أقول لنفسي وأنا أسير الهوينى في غمر من الصفاء استفاض على أوجه الناس حتى شاع حولهم في النسيم وشع فوقهم في الأفق: متى يتاح لسلائل الطين أن ينزعوا من صدورهم الجشع والأثرة فيعيشوا كما عاشوا في هذه الأيام حُشْداً على الخير عكفاً على الجمال خلصاً على المودة، ولهم على الله هواء يفعم كل رئة، وغذاء يتخم كل معدة، ورخاء يعمر كل قلب؟

ليت شعري أعجز ابن آدم ومعينه نور قلبه ووحي ربه وهدى عقله أن

يجعل دنياه الفانية كرياض الطير مسارح للشدو ومجاليّ للبهجة

ومشارع للحب، فيعيش على فضل الله كما تعيش الطير تغدو خماصاً

وتروح بطاناً وتغفوا أوامن؟ إن بقاء النفس أو القوت، وبقاء الجنس أو

الأنثى، هما الأصلان لكل غاية، والمصدران لكل عمل، فهل أعيا على

شريعة الخالق وفلسفة المخلوق أن تهذبا هاتين الغريزتين فتقطعا

أسباب الشر وتقلعا أصول الجريمة؟

ألا. . . ولكنني شعرت فجأة بجسمي الطليق الهائم ينحصر في زحمة ضاغطة من السواع والأكتاف، فاطلعت فرأيتني أضطرب في سيل دافق من الأخلاط والطوائف يموج بعضهم في بعض، ويهدرون بذكر الله هديراً طغى على كل صوت وغطى على كل حركة. كان ذلك موكب الطرق الصوفية تجمعت ألوفه من جوانب القطر ليرفعوا إلى ملكهم الصالح فاروق تهنئات الطريقة. لم أستطع الخلوص إلى طوار الشارع من شدة الزحام، ولم أطق السير لا إلى الخلف ولا إلى الأمام، فتركت نفسي إلى تدافع الموكب أرسب في لججه واطفوا على أمواجه حتى أنصب في ساحة عابدين. وهناك رأيت على حواشي الميدان صفوفاً متراصة من الناس يحجزها عن الموكب الذاكر سلسلة من الجنود والشُّرط؛ ووجدت نفسي تحت البنود الخفاقة وبين الفرق الدفاقة أمام الشرفة الغربية من قصر المليك، وقد شرقت من حولي الساحة على رحبها بالطوائف المختلفة الإشارات والشارات والأناشيد، تملأ السماء بالأنغام، وتجلل الأرض بالأعلام، وتجعل من الميدان غابة من شجر الزان تسقسق تحت أفيائها الوريفة أسراب من الطيور الغريبة

أدركت القوم حال من حميا الوجد فترنحوا مهللين ومنشدين، واختلطت على غير نظام ولا انسجام هتفات الناس ونقرات الدفوف وصدحات الناي، فما كنت تسمع إلا لجباً لا يتبين فيه نشيد ولا يتميز به نغم. ثم قرَّت فورة القوم حين تنقَّل على أفواه المريدين أن جلالة الفاروق سيشرق عليهم، فخشعت الأصوات وسكنت الحركات واتجهت النظرات إلى الشرفة الملكية يرقبون منها طلعة المحيا الأبلج الموموق؛ ولكن الشرفة ظلت في سدْلها القرمِزي المتوَّج كأنها شفق الفجر يبشر بالحياة والنور والبهجة قبل أن تهصر الطبيعة ستائرها الوردية عن خِدْر الشمس. فلما طال الانتظار عاد النقباء والخلفاء يرتبون ما يقول الأتباع عند تجلي المليك: - لا ينبغي أن نصفق كما يصفق الأفندية - لا يجوز أن نهتف كما يهتف العامة - قولوا في صوت واحد: الله! الله! - بل قولوا: الله أكبر! - ولم لا نقول: عاش الملك الصالح! عاش أمير المؤمنين؟

- هذه الجهة تهتف بهذا ثلاثاً، ثم تسكت فتهتف الجهة الأخرى: ليحي حامي الإسلام

- أرى أن يهتف المرغنية: عاش ملك مصر والسودان، ويهتف النقشبندية: عاش خليفة الرحمن، ويقول الرفاعية. . .

- لا لا. هذه كلها هتفات لا تزكوا بأهل التصوف. اتفقوا على دعاء واحد تجأرون به إلى الله أن يحفظ عبده الفاروق لإعلاء كلمته وإعزاز دينه

وأخذت كل طائفة تروض ألسنتها على النداء والدعاء وأعينها شواخص إلى شرفات القصر ونوافذه

لعل الملك يخرج من هذا الباب يا فرحات! أظنه يطل من هذا الشباك يا مسعود! ربما يخرج إلى الميدان مع المشايخ فيعرض (الأشاير)

ثم انعقدت الألسنة وعُلقت الأنفاس واتجهت الأنظار بجاذب خفي إلى الشرفة. وهنالك تجلى ملك الناس للناس!! فهل رأيت البحر إذا مار به الإعصار، أو الغابة إذا رجفت بها العاصفة؟ لقد أصيب القوم بما أصيب به الكليم يوم الجبل، فوقعوا في بُحران من الحماسة السَّكرى لا يملكون غير حناجر تصيح، وشفاه تدمدم، وأذرع تلوِّح، وأكفٍ تصفق

تلك حال القروي الذي زعموا أنه بات ليلة القدر سهران يقلب طرفه في النجوم يرصد (الطاقة) أن تنفتح فيطلب إلى الله الغنىَ والعمر؛ فلما جاءت الساعة المرقوبة وانشقت السماء عن كوة من النور تلتهب التهاب البوتقة، التمس لسانه فلم يجده، فانطلق يعوي عواء الذئب حتى ثاب إلى نفسه فارتد من العواء إلى البكاء.

وجلال الفاروق قبس من جلالة السماء، وفيض من قداسة الأنبياء، فهل تقوى على بَهَره عين، وهل يثبت على سحره فؤاد؟

أحمد حسن الزيات