مجلة الرسالة/العدد 239/بحث سيكولوجي
→ من برجنا العاجي | مجلة الرسالة - العدد 239 بحث سيكولوجي [[مؤلف:|]] |
الخلود ← |
بتاريخ: 31 - 01 - 1938 |
اعمل ما تخشاه
للأستاذ أحمد المغربي
من أشهر المجلات الشهرية العالمية وأوسعها انتشاراً وأغزرها فائدة، هي مجلة (زبدة القراء) التي يشرف على تحريرها نفر كبير من مشاهير الأدباء والعلماء، وقادة الفكر المحدثين. ولعل خير وصف لها تسميتها (بمجلة المجلات). ذلك لأن القائمين على إدارتها يختارون لها من عشرات المجلات أطيب الآثار الأدبية وأوثق الآراء العالمية وأحدث الأنظمة الاجتماعية وما إليها، ثم يجملونها ويوجزونها في صفحات قليلة يعرضونها على قرائهم بصورة جذابة وطريقة خلابة تستلفت أنظارهم، وتستهوي أفئدتهم، وتسحر عقولهم، فيقبلون على انتهال مواردها إقبالاً يفوق إقبال الصادي في الصحراء على موارد المال
وميزة أخرى يتحتم علي إلا أغفل ذكرها، هي أن القارئ يجد في القسم الأخير منها موجزاً لكتاب في مختلف ألوان الأدب والقصص والعلوم، تقره في كثير من الأحيان، جمعية (كتاب الشهر) وتوصي بمطالعته بعد أن تكون قد اختارته من مئات الكتب التي صدرت في تاريخ صدروه
ولا شك في أن مثل هذا العمل المثمر والإنتاج النافع يسدي إلى القراء خدمات جليلة. ذلك لأن الإنسان، بلغ ما بلغ من حب المطالعة لا يستطيع، بل إنه ليعجز عن أن يطالع جميع ما يصدر من كتب ومجلات، مهما اتسع وقته وتوفر فراغه. ولا ريب أيضاً في أن الأستاذ الزيات يشاركني في اعتقادي، ونحن في مستهل نهضتنا الفتية المباركة، بأن حاجتنا مُلِحةٌ جداً إلى مثل هذه المجلة الفريدة، مع نبل الرسالة التي تحملها رسالته، فعسى أن تكون كلمتي هذه حافزاً له في تحقيق هذه الفكرة وسد هذه الثغرة
كاتب هذا المقال الذي نقتبسه من هذه المجلة هو الدكتور هنري لنك رئيس دائرة الخدمة السيكولوجية في مدينة نيويورك. وتضم هذه الدائرة جماعة من علماء النفس الذين يقومون بإرشاد من يستشيرهم في المشاكل التربوية والمهنية والشخصية. ولا يزال كتاب الدكتور لنك الأخير: (العودة إلى الدين) يتمتع بشهرة واسعة وإقبال عظيم، بالرغم من مضي أكثر من سنة ونصف سنة على نشره يستهل الكاتب حديثه قائلاً:
لقد نازعتني عوامل التردد والإحجام قبل أن قررت الكتابة في موضوع (الأوهام والمخاوف)، ذلك لأن طائفة كبيرة من المخاوف التي تعتور نفوس الناس، إنما هي بلا جدال تعزى إلى كثرة ما كتب في هذا الصدد. وكم كنت أتمنى لو أن لفظة (مركب الضعة أو الشعور بالحطة) لم تخرجها المطابع إلى الوجود، إذن لما خطر لملايين البشر بأنهم مصابون بذلك، ولنقص خوف من مخاوفهم ووهم من أوهامهم
والواقع أن معظم المخاوف لا تنشأ عبثاً، بل تتولد عموماً من الإغراق في المطالعة والإكثار من التفكير والكلام. فنحن نتعهدها ونرعاها ونغذيها حتى تستحيل من أمر بسيط في غاية البساطة، وشيء تافه بعيد عن الخطورة، إلى هم مقيم وعذاب أليم
إن الأم التي تكثر من مطالعة الكتب المختصة بتربية الأطفال وتحرص كل الحرص على الإحاطة بدقائقها وأسرارها تصبح شديدة المخاوف. والفتاة التي تهتم بمظهرها الخارجي وتكلف كل الكلف بأناقتها سرعان ما يزداد قلقها ويتعاظم هلعها مما يراه الناس فيها، والجماعات التي تدقق البحث في أحاديثها ومناقشاتها عن وضع البلاد يؤول تشاؤمها في الغالب إلى الخوف
وصلتني رسالة من فتاة تبتدئ كما يلي:
(منذ أن بلغت السادسة عشرة من عمري كنت أخاف من التحدث إلى الغرباء. ثم تستمر الرسالة في تعداد مخاوف أخرى، كالخوف من رئيسها، والخوف من الرجال، والخوف من سوق السيارة، والخوف من تقديم تقرير في ناد للبنات، وغيرها من المخاوف التي بلغ عددها). وجميعها مخاوف من صعيد مشترك واحد، يقاسي منها ملايين البشر. والنتيجة لهذه المخاوف، في كل حالة تقريباً هي واحدة: نوع من الشلل الزاحف، شعور بالبؤس والاختناق والروع والرعب والهزيمة
شكا إليّ شاب بأن النوم يجفوه، وبعد أن شرح لي شرحاً سيكولوجياً مسهباً على ما أصابه سألني: (هل تستطيع أن تساعدني على التخلص من هذه الهواجس والوساوس؟ فأجبته: لا. فتوسل إليّ قائلاً: إذن، ماذا أستطيع أن أعمل؟ فاقترحت عليه أن يركض في الليل حول الحي الذي يعيش فيه حتى يكل وينصب ويبلغ به الجهد حداً يشعر معه بأنه سوف يسقط على الأرض إعياءً. وقلت له: إن ما تحتاج إليه، هو الإجهاد؛ لقد أنهكت قواك البدنية في التفكير والتخيل والأحلام؛ فإذا ركضت ركضاً مكداً مجهداً فلا تلبث أن تشعر بالارتخاء والفتور فتنام؛ إنك لشدة ما فكرت، جررت نفسك إلى الخوف، بفكرك، وإنك لقادر على أن تفر منه بساقيك)
ولقد فعل!
قدمت إليّ والدة منذ أمد غير بعيد، هذا الملخص المهم لتاريخ حياتها: (كنت وأنا فتاة، تعروني مخاوف كثيرة تسبب لي قلقاً واضطراباً، منها الخوف من الجنون، ولقد استمرت هذه المخاوف حتى بعد زواجي. إلا أنه بعد مدة قصيرة، رزقنا طفلاً ثم انتهى بنا الأمر إلى أن أصبح لدينا ستة أولاد. ولما كنت أقوم بنفسي بجميع أعمالي البيتية كنت كلما بدأت أشعر بالقلق، أسمع بكاء الطفل أو نزاع الأطفال، فأبادر إلى تهدئة أحوالهم. أو كنت أتذكر فجأة بأن وقت الغداء قد حان، أو بأنه يتحتم عليّ أن أتم كي الملابس، فكانت المخاوف التي تنتابني تُقطع على الدوام بواجبات عائلية، وعلى مر الأيام تلاشت تدريجياً. وأنا الآن ألقي عليها نظرة لمجرد اللهو والسلوة)
وقد يكون مغزى هذه الحادثة ألا يكون للوالدين ستة أطفال، ولكن الميل إلى تقليل عدد أفراد العائلة وزيادة أوقات الفراغ، يؤدي، في الحقيقة، إلى توليد المخاوف. ومن الحقيقة أيضاً، أن الكثيرين ممن تلازمهم هواجس مقلقة، قد يجدون لذة جديدة في الحياة لو أنهم يهتمون بشئون أناس آخرين بواسطة الاشتراك في الأعمال الاجتماعية المحلية.
أنت لا تحب مثل هذه الأعمال؟
إذن، يجب أن تتذكر بأن كل خطوة في التغلب على الخوف تتطلب، في البداية، قوة إرادة
إن الذين تعلموا الغطس، مثلاً، يذكرون المصاعب التي أصابتهم. فأنت أول في الأمر، توازن نفسك ثم تميل إلى الأمام، فتتردد فترتد إلى الوراء خوفاً وهلعاً، ثم تحاول مرة ثانية فتنسحب. وأنت في كل تردد تزداد مخاوفك. وأخيراً تثور ثائرتك ويشتد غضبك من هذا الخور والجبن، فتقذف بنفسك دون أن تبالي بانحراف ذراعيك، أو تكترث لاعوجاج ساقيك. تصعد، بعد ذلك. كسيفاً مضطرباً، وتزداد حالتك سوءاً حين تسمع قهقهة أصدقائك وتشاهد سخريتهم. فلو أن مخاوفك، في هذه النقطة، حالت دون أن تقوم بمحاولات أخرى لما تعلمت الغطس؛ ذلك لأن مخاوفك تصبح غير قابلة للقهر. ولكن لو أنك تشبثت وداومت على القيام بغطسات مؤلمة خرقاء غير لبقة، لأمكنك الغطس بهدوء ونعومة، والصعود مرتاح الفكر ناعم البال. ولقد كنت في طريقك إلى أن تصبح غطاساً ماهراً
تلك هي السيكولوجية الأساسية للتغلب على الخوف، واكتساب الثقة والإيمان بكل ناحية من نواحي الحياة؛ وليس ثمة مفر من هذه الطريقة. يتحتم علينا، بين آونة وأخرى، أن نخوض جدول الحياة ونغوص فيه، فنضيف نصراً إلى نصر، وننتقل من فتح إلى فتح، متغلبين على ما يعترض سبيلنا من مخاوف وأوهام، الواحد بعد الآخر. وكما قال امرش: افعل الشيء الذي تخاف منه فان موت الخوف محقق. والواقع أن مخاوفنا هي القوى التي تكوننا حين نعالجها بشدة وحزم، وهي التي تحطمنا إذا ما عولجت بالتردد والحيرة والتواني والتعقل
سألني شاب منذ مدة غير طويلة أن أقترح له بعض أعمال صعبة يقوم بها، وقال لي: (إن كتابك يوصي بالتمرن على الرقص وكرة السلة أو بعض المباريات الرياضية والبردج وحفلات السمر والألعاب، ويقول بأن على الإنسان أن يعمل حتى الأشياء التي ينفر منها ويبغضها؛ على أنني لم أكن أكرهها وأنفر منها فحسب، بل كنت أخاف من القيام بها. بيد أنني عزمت على تجربتها. فمر عليّ ردح من الزمن الرهيب كنت أشعر فيه بالبؤس والتعاسة وأعاني فيه عناء كبيراً وعذاباً مريعاً؛ ولكن سرعان ما زالت مخاوفي واستعدت نشاطي وانكببت على هذه المشروعات الجديدة. والواقع أنني أتمتع بحياة جديدة تضفي على نفسي ألواناً من الهناء والصفاء حتى بت أخشى أن أميل إلى حياة الراحة والترف. وأود منك أن تخبرني ببعض الأعمال التي أجد في القيام بها مشقة حقيقية.
إن هذا الشاب تعلم درس استخدام مخاوفه كواسطة للفوز والانتصار والهناء والمرح البهيج. واتجه إلى حياة أوسع نشاطاً وأغزر حيوية من الناحيتين الحيوية والفكرية
والخطوة الأولى في التغلب على الخوف هي أحياناً عملية بسيطة أولية جداً. أتذكر شاباً غمرته المخاوف إلى حد كلما كان يتمكن من الكلام بصوت مسموع. كان يعمل في مصرف كبير ويعرف اثني عشر رجلاً في دائرته، إلا أنه عندما كان يذهب إلى مكتبه لا يحيي أحداً. فاقترحنا عليه أن يبدأ بتحية رفاقه من صميم قلبه قائلاً: صباح الخير، إبراهيم، يا أهلاً، زهير،. . صباح الخير، يا سيدي، أثناء مروره بهم. فجرب ذلك وكانت تجربته مرضية مدهشة حتى أنه تشجع لتجربة أعمال أشد صعوبة كان الفوز في أحدها يقوده إلى فوز آخر
إن أكثر المخاوف شيوعاً وانتشاراً، كالخوف من الجنون أو الاضطهاد والظلم، أو الخوف من الأغراب والأجانب، أو الضعة هي عادة، نتيجة فشل الإنسان في التغلب على مخاوف صغيرة كافية وقهرها بمثل هذه الطريقة التي أشرنا إليها. إلا أنها تغري أحياناً، إلى أن الإنسان، لسبب ما، كالفشل في الحب، أو موت قريب عزيز، أو لكوارث مالية، أو لخسارة عمل أو وظيفة - ينزوي عن الناس وينسحب من أعماله المألوفة. ويتحتم على الإنسان، إذا ما مني بكارثة، خصوصاً ألا يتابع أعماله القديمة فحسب بل يوجه إرادته ويعزم عزماً أكيداً على أن يبدأ بمساع جديدة يستحسن أن تكون مكدة عنيفة
ومع أن التعاميم مخطرة جداً فإني أجرأ على القول بأن في قرار معظم المخاوف فكراً مجهداً، وجسما خاملاً، ولهذا فأنني نصحت كثيراً من الناس في سعيهم وراء السعادة أن يقللوا من استعمال رؤوسهم ويكثروا من استعمال أذرعهم وسيقانهم في عمل أو لعب مثمر نافع. فنحن نولد المخاوف بركوننا إلى الراحة، ونتغلب عليها باللجوء إلى العمل؛ وما الخوف إلا نذير الطبيعة بدعوتها إلى العمل
إن ملايين البشر الذين يعتمدون في معاشهم على المساعدات الحكومية إنما هم يربون في أنفسهم المخاوف والأوهام من حيث لا يشعرون. وقد يكون من الواجب المحتم علينا أن نضع نصف سكاننا في مخيمات الخدمة الاجتماعية - هي مخيمات تضم عدداً من الشبان في سن الدراسة الثانوية والجامعية العاطلة عن العمل، تستخدمهم الحكومة الأميركية في القيام ببعض الأعمال الاجتماعية كتعبيد الطرق وبناء الجسور والمحافظة على الغابات من الحريق الخ. . . لقاء أجور زهيدة تدفع قسماً منها إلى أهليهم كما أنها تهذبهم في المخيمات تهذيباً منظماً وتدربهم على الأعمال الفنية التي تفيدهم بعد تخرجهم فيها) حتى نستأصل شأفة المخاوف التي تقلق الأمة
والخوف في أدواره الخفيفة الأولية يتخذ شكل النفور من بعض المشاريع والاشمئزاز من بعض الناس وانتقادهم، فيقيم بذلك شاهداً ودليلاً على أن الإنسان يبرر خموله المستمر.
إن العالم مليء بالمستائين والساخطين، غني بالشيوعيين والنظريين الاجتماعيين، لأنهم لا يريدون أن يغيروا أنفسهم، يتحدثون عن تغيير نظام العالم بأسره. ويظهر أن الكثيرين منهم لا يدركون انه، في أي نظام اجتماعي، مهما كان نوعه ولونه، لا بد من وجود مفاسد ومساوئ، وهم بأحاديثهم يصوبون غضبهم من العالم ويسبغون على سخطهم وتذمرهم رداءاً من الحكمة والتعقل بدلاً من أن يسخطوا على أنفسهم ويهبوا إلى القيام بعمل صالح نافع
(بغداد)
أحمد المغربي
مدرس العلوم الاجتماعية بدار المعلمين الابتدائية