الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 236/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة/العدد 236/ليلى المريضة في العراق

مجلة الرسالة - العدد 236
ليلى المريضة في العراق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 01 - 1938


للدكتور زكي مبارك

- 5 -

أخبار قصيرة

1 - اعترضت مجلة الحاصد على عبارة (ليلى المريضة بالعراق) وقالت: إن البيت المشهور يجعلها مريضة في العراق لا بالعراق، وتسألنا عن معاني الباء، ولكنا نعرف أن الجدل في النحو أخرج سيبويه من بغداد وهو محموم، فلنصرح بأن الباء في العنوان القديم لم يكن لها في ذهننا معنى غير الظرفية، على حد ما قيل

ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريبُ

فاتركنا يا سيد أنور ما تركناك!

2 - نشرت جريدة البلاد كلمة لحضرة سكرتير الإذاعة اللاسلكية ينفي بها ما نشر في مجلة الرسالة عن إغفال اسطوانة السيدة نادرة:

يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا

ويؤكد أنه لم تصدر أية إشارة من أية جهة بمنع هذه الأسطوانة من الإذاعة، ونجيب بأننا سمعنا ذلك الكلام من ليلى وهي عندنا أصدق

3 - كثر الاستفهام عن السيد الذي يقيم بالكاظمية والذي تفضل فهداني إلى منزل ليلى، ولكن لذلك السيد مكانة اجتماعية تجعل من العسير أن نصرح باسمه في هذه الأحاديث الوجدانية

4 - طلب جماعة من أدباء بغداد أن أعلن أن ليلاي غير ليلى الزهاوي، فإن الزهاوي كانت ليلاه هي العراق، وأنا أصرح بأن ليلاي في بغداد هي ليلى المريضة في العراق، وهي معروفة لجميع الناطقين بالضاد

وبدت لي ظمياء فتاة شاعرة العواطف حين وصفت آذار بأنه شهر الأزهار والرياحين. وغلب الأدب على الطب فأحببت أن أعرف كيف رأت مصر وكيف رأت النيل. والحق أن ظمياء في جوهرها فتاة مليحة، ولكني أغالب نفسي فأقول إنها شوهاء مداراة للمرأة ج التي تفحص أسارير وجهي بعينين كأنهما عينا العقاب، وما أدري والله كيف نجحت في اصطناع التجمل والتوقر وكنت طول حياتي مفضوح النظرات

- ظمياء

- نعم يا مولاي

- كيف كان طريقكما إلى مصر يا بنيتي؟ بالسيارة أم بالطيارة؟

- لم يكن السفر بالطيارة مألوفاً في سنة 1926 وإنما ذهبنا بالسيارة إلى الشام، ثم اخترقنا فلسطين حتى وصلنا إلى قناة السويس، وقد قضينا على شاطئ القناة ثلاث ساعات مرت كلمحة الطرف بفضل ما غرقنا فيه من التأملات

- وهل التأمل يقصر الوقت يا ظمياء؟

- لا أعرف يا سيدي الطبيب، وإنما أذكر أن ليلى كانت تحفظ قصيدة شوقي في قناة السويس فظلت تنشد طول الوقت وهي في حلاوة الرشأ النشوان

- لا أعرف أن لشوقي قصيدة في قناة السويس، وإنما أعرف أن له فيها آية من آيات النثر الفني

- لا. يا سيدي، هي قصيدة

- هل تحفظين منها شيئاً؟

- أحفظ المطلع:

تلك يا ابْنَيَّ القناه ... لقومكما فيها حياه

- هذه ليست قصيدة يا ظمياء

- ليلى تقول إنها قصيدة

- القول ما قالت ليلى! ثم ماذا يا ظمياء؟

- كانت ليلى تنشد ما تنشد ثم تحاورني في أمر المصريين الذين حفروا القناة، ومن رأي ليلى أن حفر القناة أعظم عمل قام به المصريون في التاريخ

- ولكنها أضرت مصر يا ظمياء

- هذا يا سيدي كلام الساسة لا كلام الأطباء. وهل يضر مصر أن تكون صاحبة الفضل على العالمين فتنشئ من المرافق ما بخلت به الطبيعة القاسية على الإنسانية؟ إن الحياة يا سيدي الطبيب لا تنهض إلا بفضل التضحية، وقد ضحت مصر بمالها وسلامتها في سبيل الإنسانية، وسيجزيها الله على ذلك خير الجزاء

- هذه فلسفة يا ظمياء، وما تهمني الآن، ثم ماذا؟

- ثم دخل الليل ونحن على الشاطئ، وطلع القمر فتحول الوجود إلى موجة فضية تفتن القلوب، ونظرت إلى ليلى فرأيت انعكاسات القمر على وجهها آية من آيات السحر والفتون

- دخلنا في الغزل يا ظمياء

- أنت الذي شجعتني على الوصف يا مولاي

- اسمعي، هنا سؤال مهم: هل رأيت ليلى على القناة في حال تختلف عما كنت تعهدين وهي في بغداد؟

- أنا أصغر من ليلى سناً كما تعرف

- مفهوم، مفهوم، وهل تخفى على مثلي هذه الفروق!

- لم أكن أعرف يومئذ ما هو الحب، لولا علاقة سطحية بابن عمي عبد المجيد

- يظهر أنك فتاة متعبة وحمقاء. ما شأني بعلاقاتك السطحية أو العميقة مع ابن عمك عبد المجيد؟

- أنا أريد يا سيدي أن أقول إني لم أكن يومئذ أدرك كيف تتغير أسارير الفتاة حين يطلع القمر، أو حين يهب النسيم، وإنما فطنت إلى ذلك بعد ما ثارت العواصف حول ليلى. وأقول لك إني فهمت الآن أن ليلى كانت تتأهب لحب مجهول، فقد كان للقمر على وجهها أضواء وظلال يطير لها لب الحكيم، وقد مددت ذراعي فطوقتها فانعطفت علي وقبلتني قبلة عطف لن أنساها ما حييت!

(وهنا تذكرت الوجه الذي كان القمر يسبغ عليه ألوان الأضواء والظلال، وجه الإنسانة النبيلة التي أتحفتني بصورتها الغالية لأدفع بها ظلام الليل في بغداد. وكدت أتنهد ثم تماسكت ولي قدرة على ضبط النفس في بعض الأحوال)

- كفى، كفى

- تحب يا سيدي أن أصف كيف رأينا القاهرة أول مرة؟

- إن كنت تحبين ذلك. . .

- أحب أن أقول لتسمع الست جميلة، فهي تحب ذلك

- وأنا أيضاً أحب أن أسمع وصف القاهرة، فقد طال شوقي إلى القاهرة

- تعرف يا سيدي محطة باب الحديد؟

- أراها يا بنيتي في طيف الخيال!

- لقد أرهقنا الحمالون. . .

- أنت يا ظمياء تتكلمين بلغة السائحين. إن لمحطة باب الحديد سحراً لا تعرفينه يا حمقاء

(ثم سكت لحظة، فقد تذكرت أني زرت تلك المحطة أكثر من مائة مرة على غير ميعاد، لأشهد أسراب المودعين والمودعات في القطار الذي يقوم إلى بور سعيد كل مساء. وتذكرت أني كنت أضحى بمكاني في قطار البحر فلا أصعد إليه إلا بعد أن يدق الناقوس لأمتع عيني وقلبي بالحسن الذي يموج فوق الرصيف وتذكرت الفتاة التي استقبلتها في تلك المحطة عند منتصف الليل في الشتاء الماضي، تلك الفتاة التي جاءت من نورمنديا خاصة لتزور معي الأهرام في ليلة قمراء. تذكرت وتذكرت حتى كاد يفضحني الدمع، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو وحده يعلم ما يقاسي قلبي من الغربة بين القلوب)

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم اخترقنا شارع كامل

- هو اليوم شارع إبراهيم

- أفادك الله!

- يا لئيمة، فيك أشياء من دعابة بغداد!

- ثم نزلنا عند أسرة عراقية تقيم في شارع قصر النيل، وكانت ليلى قد تعبت فظلت في البيت يومين كاملين

- وهل في الدنيا إنسان يرى القاهرة أول مرة ثم يحبس نفسه في البيت يومين؟

- قلت إن ليلى كانت تعبت، والحق أن ربة البيت الذي نزلنا فيه نهتنا عن الخروج، لأننا نزلنا القاهرة ملفوفتين بالثياب على نحو ما ترى عقائل بغداد، وكانت تلك السيدة تخشى إن خرجنا بتلك الصورة أن يرانا الجمهور من الغرباء، والغريب لا يسلم من فضول الناس. وفي يومين اثنين أحضرت تلك السيدة الكريمة ما ترى أن نلبس من الثياب. أما أنا ففرحت بثيابي ورأيت أني تجددت؛ وأما ليلى فقد غضبت أشد الغضب وأعلنت أن الخروج بهذه الثياب ينافي الحياء. وفي الحق أن ليلى بدت في تلك الثياب كالحورية الهاربة من الفردوس، فقد كان يجب أن تمشي في الجادة وهي سافرة الوجه، وكان الثوب المصري يكشف بعض الطلائع من صدرها الجميل. ولو رأيت ليلى في تلك الساعة وهي غاضبة لرأيت العجب العجاب، فقد توهمت المجنونة أن الشبان المصريين سيخطفونها حين تقع أبصارهم على حسنها المرموق، وبلغ بها الوهم أن تزعم أن خطفها سيكون فضيحة للعراق

وعندئذ قهقهت ربة البيت وقالت: (اسمعي يا ليلى، إن المصريات لا يخرجن إلى الشارع بهذا الثوب وإنما يلبسن فوقه المعطف. فسكنت ليلى قليلاً، ثم لبست المعطف فوق الفستان، ونظرت في المرآة فرأت أن حالها مقبول، ولم تر بأساً من الخروج بهذه الصورة لرؤية المعرض)

- ثم ماذا؟

- وخرجنا فعبرنا جسر قصر النيل

- هو اليوم جسر إسماعيل

- أفادك الله!

- يا مضروبة، هل تخرجت في الأزهر الشريف!

- دخلنا المعرض، أو دخلت أنا ثم تبعتني ليلى، وقد كانت على غاية من التهيب والاستحياء، ثم رأينا أفواجاً من الشبان قيل إنهم طلبة الجامعة المصرية وعلى رأسهم أستاذ يشبه سيدي الطبيب

(وهنا ابتسمت ابتسامة خفيفة لأنه لا يبعد أن أكون ذلك الأستاذ، فقد كنت صحبت جماعة من تلاميذي لزيارة المعرض، فيهم إبراهيم رشيد وإبراهيم نصحي ومحمود سعد الدين الشريف ومحمود محمد محمود ومحمد عبد الهادي شعيرة ومصطفى زيور وعزيز عبد السلام فهمي ومحمد حمدي البكري وعبد الحميد مندور ومحمود الخضيري، ويسرني أن أقول إنهم أصبحوا اليوم رجالاً يتشرفون بخدمة الوطن الغالي. ثم شعرت بحسرة لاذعة حين تذكرت أنه كان يمكن الفرار من أولئك الطلبة الشياطين لرؤية من في المعرض، ولعلني كنت أعثر بليلى فأصبح من أقطاب الشعراء، ولكن ما فات فات فاقتل نفسك إن شئت يا صريع الملاح)

- ثم ماذا يا ظمياء؟

- ثم طوفنا بالمعروضات فلم يرقنا غير معروضات سليم عبده

- مات، يرحمه الله

- يا عيني، لقد كان رجلاً لطيفاً، ومن عنده اشترينا أشياء كثيرة، وقدم إلينا هدايا لا نزال نحتفظ بها إلى اليوم

- ثم ماذا؟

- ثم ركبنا القطار، قطار المعرض، وكان أمامنا شاب يسارقنا النظر بعينين خضراوين، فتكلفت الشجاعة وهممت بزجره، ولكن ليلى ضغطت على يدي فاعتصمت بالصفح الجميل

(للحديث بقية)

زكي مبارك