الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 235/سنان شيخ الجبل

مجلة الرسالة/العدد 235/سنان شيخ الجبل

بتاريخ: 03 - 01 - 1938


صفحة من تاريخ الأدب السياسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في القرن السادس الهجري (القرن الثاني عشر الميلادي) كانت الأمم الإسلامية تجتاز مرحلة عصيبة من تاريخها، ففي هذه الحقبة استقر الفرنج الصليبيون في فلسطين وثغور الشام، وقامت مملكة نصرانية لاتينية في بيت المقدس في قلب ديار الإسلام، وانقسمت الكتلة الإسلامية في المشرق إلى دويلات صغيرة متنازعة؛ ونشب بين الإسلام والنصرانية في تلك المهاد صراع مستمر طويل الأمد؛ وكانت المعارك سجالا بين هذه القوى الخصيمة المتفرقة؛ ولكن الفرنج الصليبين احتفظوا لأنفسهم مدى حين بنوع من التفوق؛ ذلك لأن الخلافة الفاطمية كانت تجتاز مرحلة انحلالها، وكانت الإمارات الإسلامية في شمال الشام مشغولة بمعاركها المحلية؛ وكان الفرنج ينتهزون الفرص السانحة فيعملون على إذكاء الخلاف ويظاهرون أميراً على أمير، ويحققون لأنفسهم ما استطاعوا من الأسلاب والمغانم.

ففي تلك الفترة العصيبة المضطربة كانت الشام فوق كونها مسرحا للحروب الأهلية والمعارك الصليبية المتواصلة مسرحا لنشاط بعض الجماعات السرية التي الفت فرصتها في تلك الفوضى السياسية والاجتماعية الشاملة، وكانت في مقدمة هذه الجماعات طائفة فرسان المعبد أو الداوية، وطائفة الاسبتارية، وطائفة الإسماعيلية الباطنية؛ وكانت الأولى والثانية طائفتين نصرانيتين ظهرتا بعد قيام المملكة الصليبية، وأنشئتا في البداية لبواعث وظروف دينية، ثم انقلبت كلتاهما بعد ذلك إلى جمعية سرية فدائية وكانت الثالثة تحسب ضمن الطوائف الإسلامية المذهبة، وقد أنشئت في أواخر القرن الخامس على يد داعية إسماعيلي بارع هو الحسن بن الصباح الحميري، ونظمت أولا في شمال فارس، حيث استحالت غير بعيد إلى عصابة إرهابية قوية تعتصم ببعض القلاع المنيعة، وتعتمد في تنفيذ مآربها على الإرهاب السياسي والاغتيال المنظم؛ وفي أوائل القرن السادس لما اشتدت مطاردة الأمراء السلاجفة للإسماعيلية في فارس، فر بعض دعاتهم إلى الشام، ولبثوا حيث يبثون هناك دعوتهم سراً؛ وكان الأمراء المحليون مثل صاحب حلب وصاحب دمشق يلجئون أحيانا إلى هؤلاء الدعاة الخطرين في تنفيذ مشاريعهم واغتيال خصومهم، وبذلك أضحوا قوة سياسية يحسب حسابها، ولما كثر جمعهم وقوى أمرهم طلب زعيمهم بالشام بهرام الاستراباذي من صاحب دمشق حصنا يأوي إليه مع أنصاره، فأقطعه قلعة بانياس (سنة 520هـ)، فتحصنوا بها، ولم يأت منتصف القرن السادس حتى كانت لهم في الشام سلسلة من القلاع المنيعة بين طرابلس وحماة، يتخذونها قواعد للإغارة والدفاع، وحتى غدوا عاملا قويا في حوادث هذا العصر وتطوراته.

كان الدواية والاسبتارية يعملون في البداية لخدمة القضية الصليبية ونصرة الأمراء الصليبين، وكانت نظمهم ووسائلهم تشبه من بعض الوجوه نظم الإسماعيلية ووسائلهم من حيث اعتمادهم على التآمر والدس والاغتيال المنظم، ثم استحالوا غير بعيد إلى جماعات سرية نفعية ترتكب جرائمها، وتبحث عن مغانمها حيثما استطاعت دون النظر إلى اعتبار الدين أو القومية؟ أما الإسماعيلية فإنهم بالرغم من ثوب الرياء المذهبي الذي أسبغوه على عقائدهم الدينية والسياسية، ظهروا على مسرح الحوادث طائفة مغامرة لا عهد لها ولا ذمام تبحث وراء طالعها في هذا المعسكر أو ذاك، وتتقلب في خدمة المسلمين والفرنج طبقا للحوادث والظروف، وتدس ما استطاعت بين أمراء الفرنج وأمراء المسلمين لتجني ثمار دسها؛ وكان يحسب أعظم وأقوى الأمراء من الفريقين؛ وقد ارتكب دعاتها عدة جرائم سياسية رنانة ذهب ضحيتها جماعة من أكابر الأمراء والقادة، وكان لها أثر كبير في تطور الحوادث والمعارك في بسائط الشام.

كان الإسماعيلية يمثلون في الشام نفس الدور الذي كان يمثله زملاؤهم في فارس، وكان أولئك الدعاة والمتآمرون الأذكياء يبثون أينما حلوا بذور التوجس والروع، وكانوا يمتنعون بقلاعهم الشاهقة يتحينون فرص العمل الخفي الغادر؛ وكان الفدائية منهم - وهم الذين يناط إليهم تنفيذ الجرائم السياسية - رجالا من أخطر طراز يمتازون بالإقدام المدهش، لا يتهيبون الموت، ولا يردهم عن غايتهم شيء؛ ولم يتخذ زعماء الإسماعيلية قط لقب السلطنة أو الإمارة، ولكنهم كانوا يقنعون بلقب المقدام أو الشيخ أو شيخ الجبل؛ وكان هذا اللقب الأخير يطلق بنوع خاص على زعيم الإسماعيلية في الشام، وإن كان الرحالة مركوبولو الذي عرف الإسماعيلية ودعاتهم في فارس يحدثنا بأن كبيرهم ينعت أيضا بشيخ الجبل؛ وعلى أي حال فإن كلمة الشيخ تعني هنا السيد أو الرئيس خلافا لما ذهب إليه الرواة الفرنج المعاصرون من اعتبارهم الشيخ هنا بمعنى (الرجل العجوز)، وهو خطأ شائع في معظم التواريخ الفرنجية.

وكان مقدم الإسماعيلية أو شيخ الجبل في الشام في أواسط القرن السادس زعيماً وافر الجرأة والذكاء هو راشد الدين سنان ابن سلمان؛ ولا تعرف الرواية سناناً إلا بأنه مقدم الاسماعيلية، ولا تحدثنا عن أصله ونشأته، ولكن لاريب في أنه أحد أولئك الدعاة المغامرين الذين يكتنف الغموض حياتهم الأولى، ثم يظهرون فجأة على مسرح الحوادث. وكان مقره في حصن مصياب (أومصياف) على مقربة من طرابلس وهو يومئذ أمنع حصون الإسماعيلية بالشام؛ وكان هذا الداعية الإسماعيلي يخفي مشاريعه ومطامعه الدنيوية تحت ستار من الورع المؤثر، ويبدو دائما في صفة الإمام الديني، ويرتدي الثياب الخشنة، ويعظ أنصاره طول اليوم من فوق رابية، ويحيط كل حياته بحجاب من الغموض حتى قيل إنه لم يوقظ نائماً أو آكلاً أو شارباً؛ على أنه كان بالرغم من هذه المظاهر الورعة الخلابة مغامراً لا ذمام له، يتربص فرص الوثوب والفتنة، ويتقلب في خدمة الصديق والعدو معاً؛ ولم ير سنان بأسا من مخالفة الفرنج الصليبين، فنراه يتصل بأموري ملك بيت المقدس، ويرسل إليه الداعي بهاء الدولة سفيراً ليسعى لديه إلى إعفاء الإسماعيلية من الجزية التي تعهدوا بدفعها؛ ونجح السفير في مهمته، ولكن قتلة الداوية (فرسان المعبد) حين عودته؛ وخشي ملك الفرنج عواقب هذه الجريمة، فاعتقل القتلة وقضى عليهم بالسجن، وذلك استبقاء لمودة الإسماعيلية واتقاء بطشهم.

ولعب سنان في حوادث هذه الفترة دوراً عظيما؛ ومع انه لم يكن قويا بجسمه وقواه المادية، فقد كان قويا بدسائسه ووسائله الإرهابية الخطرة؛ وكان أمراء الشام المسلمون يرهبون جانبه ويلتمسون محالفته؛ ولما تألق نجم صلاح الدين وقبض على زمام الأمور في مصر اتجهت أبصار خصومه إلى الإسماعيلية أو الحشيشية كما تسميهم الروايات المعاصرة، لما عرف من انهم كانوا يأكلون أوراق الحشيش؛ ففي سنة 569هـ (1173م) دبر أنصار الدولة الفاطمية الذاهبة مؤامرة لقلب حكومة القاهرة، واغتيال صلاح الدين، وفكروا في الاستعانة بالفرنج كما فكروا في الاستعانة بسنان شيخ الجبل، فبعثوا إليه ليدبر كميناً لاغتيال السلطان (صلاح الدين) على يد بعض الفدائية سواء في الشام أو في مصر ووعدوه بالمنح والعطايا الجزيلة؛ ولكن سرعان ما افتضحت المؤامرة وقبض على مدبريها وأعدموا، ولم تسنح الفرصة في هذه المرة ليعمل شيخ الجبل؛ ولكن الفرصة سنحت غير بعيد؛ ففي أوائل سنة 571هـ (1175م) كان صلاح الدين على رأس جيشه في شمال الشام على مقربة من حلب، وكان من برنامجه سحق الإمارات المستقلة التي تمزق الشام وتجعل منه فريسة هينة للفرنج الصليبين؛ وكان أتابك الموصل عز الدين مسعود يخشى على ملكه إذا استولى صلاح الدين على الشام، فاتفق مع سنان شيخ الجبل على اغتيال صلاح الدين أثناء وجوده بالشام؛ وكان الإسماعيلية أو الحشيشية يرون في تقدم صلاح الدين خطراً داهماً على سلطانهم فكانوا يرحبون بكل مؤامرة أو مشروع لسحقه؛ ففي الحال بعث سنان بعض الدعاة الفدائية إلى معسكر السلطان (صلاح الدين) فاندسوا إليه متنكرين. وفي ذات مساء استطاع أحدهم أن يصل إليه وهو في خيمة بعض الأمراء يفحص خطط الدفاع، ثم انقض عليه وطعنه في رأسه بخنجره، وكان صلاح الدين يعرف غدر الباطنية ويحترز منهم بارتداء الدروع المصفحة، فحالت قلنسوته الصلبية دون إصابته؛ فحول القاتل عندئذ خنجره إلى خده فجرحه جرحا شديدا، ثم دفعه إلى الأرض وحاول أن يجهز عليه؛ وذهلت بطانة السلطان لهذه المفاجأة الغادرة مدى لحظة، ولكنهم بادروا إلى القاتل، وطعنه أحد الأمراء بسيفه فأرداه؛ فبرز من جوانب الخيمة آخرون من الباطنية الفدائية متنكرين في زي الجند، وحاول أحدهم أن ينقض على السلطان، فتلقاه بعض البطانة وقتلوه، واشتد الاضطراب والهرج، وقتل في هذه الواقعة عدة من الدعاة الإسماعيلية؛ ونجا صلاح الدين من خناجرهم بأعجوبة، وانهار مشروع شيخ الجبل وحلفائه مرة أخرى.

وأدرك صلاح الدين ما يحيق به وبسلطانه من الخطر من غدر الإسماعيلية ومؤامراتهم، فعول على مهاجمة قلاعهم وسحق نفوذهم، فسار إليهم في العام التالي (سنة 572هـ)، وحاصر مصياب أمنع قلاعهم، وفيها مركز زعامتهم؛ فاستغاث سنان شيخ الجبل بصاحب حماة وهو خال السلطان، ورجاه أن يشفع لديه فيهم، وتعهد له بالتزام الحيدة والولاء نحو السلطان، وهدده في نفس الوقت إذا أبى هذه الشفاعة، فخشي الأمير من وعيدهم، وبذل وساطته لدى السلطان حتى أقنعه بالعفو عنهم، فغادر قلاعهم بعد أن أخذ عليهم المواثيق والعهود؛ ولزم الإسماعيلية وزعيمهم بعد ذلك خطة الولاء نحو السلطان إما خشية سطوته، وإما لأنهم خشوا رجحان كفة الصليبين إذا اختفى صلاح الدين من الميدان.

ولبث الإسماعيلية من بعد شيخهم سنان زهاء قرن آخر، يمتنعون بقلاعهم في الشام، وينتهزون فرص المعارك والأحداث المختلفة ليظهروا على مسرح الحوادث حيثما آنسوا الغنم، وشغل بلاط القاهرة عنهم طوال هذه الحقبة بمكافحة الفرنج ورد الخطر الصليبي؛ فلما كان عهد الظاهر بيبرس، سارت حملة مصرية إلى الساحل في سنة 668هـ (1269م)، وحاصرت قلاع الإسماعيلية، واقتحمت مصياب أمنع حصونهم ومقر زعامتهم وخربت قلاعهم ومزقت قواهم كل ممزق؛ وبذلك انهار نفوذهم في الشام كما انهار في فارس قبل ذلك بقليل واستحالت هذه الطائفة الإرهابية الخطرة بعد ذلك إلى شراذم لا أهمية لها سواء من الوجهة السياسية أو المذهبية، وانتهى بذلك تاريخها الحافل بالجرائم والمؤامرات المدهشة.

محمد عبد الله عنان