مجلة الرسالة/العدد 235/الرسالة في عامها السادس
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 235 الرسالة في عامها السادس [[مؤلف:|]] |
في الأدب وغيره ← |
بتاريخ: 03 - 01 - 1938 |
ننقل اليوم خطوتنا السادسة في سبيلنا القاصدة إلى غايتنا البعيدة؛ وليس لنا عدة غير الإيمان، ولا زادٌ غير الصبر، ولا عونٌ غير الله. وعَسِيٌّ بالمؤمن الصابر المتوكل أن يبلغ وإن طال الأمد!
تعودنا منذ صدرت الرسالة أن نتحدث إلى قرائها وأصدقائها في مثل هذا اليوم من كل عام، نجدد لهم العهد الذي أعطيناه، ونعرض عليهم الشوط الذي قطعناه، ونتصل من وراء الغيب بأرواحهم العارفة العاطفة الآسية؟، نسترفه بنجواها من الشُّقَّةِ الجاهدة، ونستعين بهداها على المرحلة الجديدة.
أما العهد فإننا نجدده ونؤكده. ولله علينا ألا يحله إلا خروج النفس أو نكول العافية. وأما الشوط فكان رهَقُه محنة المجاهد وبلاء الدليل. انبثقت على جانبيه العوائق المثبطة من إلحاح المرض وغلاء الورق واضطراب السياسة ونغل الصداقة وشيوع الأدب الهزيل، فثبتت الرسالة في مكانها لا تهِن، واستقامت في طريقها لا تحيد. وطريقها هو الطريق الوحيد الذي سنَّه الخُلق الفاضل؛ وهو أقرب الطرق إلى الغاية لأنه مستقيم. على أن استقامته طالما كانت - وا أسفاه - علة الإبطاء والبعد. فقد يعترضك وأنت مطمئن إلى السير فيه النهر الذي لا يُعبر، أو الجبل الذي لا يجتاز، أو العقبة التي لا تقُتحم، أو السبع الذي لا يُهاجم؛ فتقف مضطراً تعالج هذا العائق بالعزيمة والحيلة والجهد، لأن الأخلاق الرقيبة لا تنفك تهيب بك من جهاتك الست:
(لا تتنكب الجادّة المثلى، ولا تزغ عن الصراط السوي).
وتنظر حواليك فلا تجد إلا الفراغ والوحشة، لأن الركب الذي كنت تسايره راعه الأمر وخذله الصبر وأعجلته الغاية، فتبدد ذات اليمين وذات الشمال يرتاد المسالك السهلة، وخلَّفك وحدك على سواء الطريق عرضة للجوع والخوف! فإذا سمعت من هذا السائر المتروك صرخة ثائرة فاعزُ حدتها إلى الحائل الذي قام، وإلى الرفيق الذي نكص!
ليس من طبع الرسالة أن تمالق الرغبات بالتَّمْنية، ولا تستميل الشهوات بالوعد. فإن العمل الصامت أنطق الأدلة على توخي الحق؛ والماضي المعلوم أضمن الوثائق للمستقبل المجهول.
هذه مجلدات الرسالة التسعة! أليست هي شهادتها الصادقة على أنها أوفت بما عاهدت القراء عليه من إحياء الأدب القديم، وإنشاء الأدب الحديث، وتدعيم الأدب المصري بقواعد الفن، وتطعيم الأدب العربي بنتاج الآداب الأُخَر؟
أليست هي ديوان العرب المشترك جمعت فيه الأشتات إلى الأشتات، ووفقت بين الأصوات والأصوات، ثم ألَّفت من هذه الآلات المنفردة جوقة موسيقية متحدة تسكب في مسامع الوجود أناشيد الخلود؟
أليست هي كتاب الشرق الجديد تجد في صفحاته المشرقة روحيته وريحانه، وتحس في معانيه ومراميه إلهامه وإيمانه؟
إن الإشادة بمجهود الرسالة حق علينا لأولئك الأقلام الكريمة التي أخلصت لله وللناس وللفن فجعلت منها هذه المجموعة التي لا تجد لها مثيلاً في عصر من عصور اللغة.
ليت شعري متى تغلظ الأيام فنكتب هذه الكلمة السنوية خالية من الشكاة والألم؟ هيهات هيهات لما نَوَد! إن شكوى الرسالة في كل عام هي شكوى الأدب في كل يوم. وستدوم إن شاء الله ما دامت الحكومة لا تبالي الأدب، والطبقة المتعلمة لا تقرأ الجد، والكثرة الفاحشة لا تعرف القراءة.
قلنا وقال الناس لولاة الأمر إن الأمة لا يمكن أن تكون جسماً من غير عقل، ومنفعة من غير عاطفة، ومادة من غير أدب؛ وإن الحكومة التي لا يعدو همها إصلاح الأرض وتوفير العدة وتقويم البدن لا تخلق إلا مجتمعاً من الشهوات الفاجرة والنزوات الثائرة والغرائز الخشنة؛ وإن المدرسة وحدها لا تستطيع مهما انفسخ ذرعها واتسع مداها أن تربي العقول وتهذب الأخلاق وتثقف العواطف. فأخطروا ببالكم أولئك المجاهدين في سبيل الروح، المجدين في خدمة الفكر، الذائدين عن قدس الخلق؛ أولئك هم الأدباء الأحرار الأبرار الذين يبلغون رسالة الحق في كتاب، أو يؤدون أمانة الخير في صحيفة. أعينوهم على أكلاف العيش بالرعاية، وشجعوهم على إجادة الإنتاج بالجوائز. ولا تكلوهم إلى هوى النفوس وجهل العامة فينطفئوا انطفاء السراج في عين الأعمى، ويموتوا ميتة البلبل في أذن الأصم.
ولكن الأديب كتب عليه أن يجاهد ويجالد ويضحي. لا يستمد العون إلا من ربه، ولا يلتمس العزاء إلا من قلبه، ولا يبتغي الثواب إلا من سلطان ضميره.
والرسالة لا تملك أن تحيد عن الطريق الوعر الشائك الذي نهجه الله لعباده المصطفين من رجال الدين والعلم والأدب. وحسبها أن تحيا بالعمل سعيدة، وأن تموت في الجهاد شهيدة!
على ذلك تجدد العهد لأصدقائها وقرائها مرة أخرى، معتمدة على فضل الله، معتدة بإخلاص القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.
أحمد حسن الزيات