مجلة الرسالة/العدد 235/الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة
→ نهضة القصة في لبنان | مجلة الرسالة - العدد 235 الحضارة المصرية في عهد الدولة القديمة [[مؤلف:|]] |
رسالة الشِّعر ← |
بتاريخ: 03 - 01 - 1938 |
بحث للعلامة الأثري أريك بيت
للأستاذ أحمد نجيب هاشم
(تابع)
دل قيام الملكية الواحدة في مصر على تقدم عظيم، تقدم جعل كثيرين يعتقدون انه راجع إلى إغارة شعب أجنبي أكثر حضارة، ولكن المستكشفات الحديثة لا تؤيد هذا الرأي. أجل إن مقابر الأسرة الأولى تفوق بمراحل مقابر ما قبل الأسرات مباشرة، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه المقابر الأخيرة إنما هي مقابر عامة الناس، ولم يعثر على مقابر ملوك ما قبل الأسرات، فلا يصح أن نقرن مقابر عامة الناس في عصر ما بمقابر ملوك في عصر آخر.
والحقيقة نفسها توضح لنا كيف أن الكتابة تظهر فجأة في الأسرة الأولى بشكل بعيد عن حالتها الأولية، إذ كان الخط المستعمل هو الخط الهيراطيقي، وهو كما لا يخفى اختزال الهيروغليفي فلابد أذن أن يكون هذا الأخير مستعملاً قبل حكم الأسر بزمن طويل. وإذا قصرنا أنفسنا على نوع واحد من المقابر رأينا أن الانتقال من قبل الأسرات إلى عهد الأسرات حدث تدريجياً. ثم إن الأعمال الفنية في الفترة الأخيرة السابقة للأسرات ومن أهمها لوح (نارمر) الإردوازي ومقبض سكين جبل العرك تدل على أن فن الأسرة الأولى هو ثمرة نمو تدريجي لأهل البلاد.
أما وقد قامت الملكية فكان لابد للأنظمة الاجتماعية والسياسية أن تتطور إلى حد بعيد، ولم يكن الملك المصري في أول الأمر ألا رئيساً محلياً ممتازاً.
وكان رئيس القبيلة حاكماً وكاهناً أكبر ومشرعاً لقبيلته فأصبحت هذه الوظائف كثيرة على الملك بعد أن اندمجت القبائل قهراً وطوعاً وأصبحت مصر مملكة واحدة، لذلك اضطر أن يتنازل عن بعض هذه الوظائف، ولكنه ظل نظرياً الكاهن الأكبر لكل إله، فنراه في نقوش المعابد يرأس كل الحفلات الدينية الهامة، وإذ كان من المستحيل أن يوجد في مكانين في آن واحد كان لابد أن ينوب عنه كهنة، وبذلك نرى في أيام المملكة القديمة نواة طائفة الكهنة المحترمين آخذة في التكون.
ولا نعرف شيئاً كثيراً عن تاريخ الملكية في عهد الأسرات الثلاث الأولى؛ فإذا وصلنا إلى الأسرة الرابعة وجدنا مادة كثيرة نستطيع أن نكون منها صورة هامة عنها، ومع ذلك يجب أن نذكر أن مادتنا هذه تتكون إلى درجة كبيرة من ألقاب، وهذه قد تكون مضللة لاسيما وأن فرعون كان يغدقها عن سعة على المقربين إليه حتى اضطر أصحاب الوظائف الحقيقية أن يلجئوا في كثير من الظروف إلى إضافة كلمة الحقيقي بعد لقبهم تمييزاً لهم عن غيرهم.
الحكومة المحلية
كانت حكومة البلاد في يد إدارات محلية تشرف عليها الحكومة العليا وعلى رأسها الملك. وكانت الولاية هي الوحدة الإدارية ويرأسها الأمير أو حاكم الإقليم، وكان حاكماً وقاضياً ومديراً في ولايته وهو فوق ذلك الكاهن الأكبر لإلهها المحلي ويتمتع بحرية كبيرة داخل حدود ولايته.
على أن هذا الحاكم كان مسؤولاً أمام الحكومة العليا عن ضرائب ولايته، وعن إدارته لها إلى حد ما. والظاهر أن انقسام البلاد إلى إمارات على هذا الشكل هو أثر لانقسامها إلى قبائل قبل هذا التاريخ. وكان الأمراء يتوارثون الحكم في الولايات بعد موافقة الملك لان الأرض نظرياً كانت كلها ملكه.
الحكومة العليا
وليست معلوماتنا عن الحكومة العليا اكثر منها عن الحكومة المحلية إن لم تكن أقل؛ فالملك هو الرئيس الأعلى، وفي عهد الأسرة الثالثة بدأ فرعون يختار وزيراً لمساعدته في المسائل القضائية والإدارية، ونجد أن ملوك الأسرة الرابعة يختارون وزراؤهم من أبنائهم، ثم أصبح فرعون يختار وزيره بعد ذلك من أسرة أخرى إذا شاء. وكان أكثر رجال المملكة مسؤولية لأنه كان الرئيس المباشر لأعمال الموظفين في الحكومة الفرعونية كافة من إداريين وكتبة من أكبرهم إلى أصغرهم، وكان يشترط فيه أن يكون بارعاً في فن العمارة، ومن أهم وزراء الأسرة الثالثة الوزير الحكيم (امحتب) الذي برع في الطب والعمارة وشيد لمليكه زوسر هرم سقارة المدرج.
ويساعد الملك غير الوزير عدد من الموظفين، وكانت أعمال خزانة الدولة في يد بيت الفضة والشونة المزدوجة إشارة إلى الشونة الملكية، كذلك نسمع عن كنوز الإله أي الملك وكنوز ملك الوجه البحري (وهذا من غير شك لقب قديم ظل بعد اتحاد القطرين) ونقرأ أيضاً عن مراقبي بيت الفضة ومخازن الغلال. ويرجح أن تجزئة إدارة القطر المصري بين وجهيه لم تذهب إلى أبعد من التجزئة الاسمية، وقد حافظ المصريون على هذا الازدواج الاسمي في مصالح الحكومة، مع أن وجهي مصر انضما معاً تحت إدارة واحدة، وإنما فعلوا ذلك احترماً للقديم الراسخ في الأذهان ولكن بالرغم من أن الملك اضطر أن يتنازل عن بعض وظائفه إلا انه ظل ملكاً مطلقاً.
من السهل أن نتبين مزايا هذا النظام وعيوبه، فمتى كان فرعون قوياً يمكنه أن يضع حداً لمطامع الأمراء فالنظام سليم لأن الحكومة في كل إقليم كانت في يد أشخاص خبيرين بالشئون المحلية. أما إذا كان الملك ضعيفاً فان تلك السلطة الهائلة التي يتمتع بها الحكام المحليون تصبح خطراً على الدولة يهدد كيانها، ولهذا السبب عينه يرجع سقوط الدولة القديمة في نهاية الأسرة السادسة ثم إغارة الآسيويين أثر ذلك على الدلتا فقد أخذت قوة الأمراء تزداد تدريجياً على حساب الملكية.
والآن علينا أن نسأل كيف كان نظام المجتمع في ذلك العصر؟
الملك وبلاطه
كان على رأس الدولة الملك وبلاطه، وقد كونوا بيروقراطية كبيرة تهتم بالألقاب اهتماماً عظيماً فنرى ألقاب البعض يقرب عددها من الثلاثين أو الأربعين اغلبها لا معنى له، وبجانب هذه البيروقراطية المركزية نجد بيروقراطية أخرى مشابهة لها في قصبة كل إمارة، وكان لكثير من هؤلاء الموظفين أملاك واسعة في ولاياتهم.
الفلاحون
يفصل الموظفين عن الفلاحين بون شاسع، لان هؤلاء كانوا يشتغلون كعبيد في مزارع الملاك، يحرثون الأرض ويروونها، ويتعهدون الماشية والأغنام، ولا نسمع عن وجود طائفة وسطى بين الطبقتين الآنفتي الذكر؛ فإن كان هناك طبقة من هذا النوع - ولابد أن التجار وأصحاب المهن والحرف كونوا طبقة - فإنها لم تكن غنية بدرجة تكفيها لأن تفاخر بفضائلها في مقابر منقوشة نقشاً جميلاً، ولابد إنها كانت معتمدة على نفسها ولم تعد من طبقة الخدم، لأننا نجد الأمراء يولعون برسم خدمهم على جدران مقابرهم. كذلك لا نعرف شيئاً عن مركز الكهنة الاجتماعي، وإنما نعرف أن عددهم كان وافراً، وانهم كانوا يعيشون على الهبات التي تقدم إلى المعابد؛ وإن صح لنا أن نذكر تعميماً عن الحياة في المملكة القديمة فإننا نميل إلى القول بأن الأمراء وكبار الموظفين كانوا سعداء الحظ بينما كان الفلاحون تعسين فهم عبيد يلحقون بالضياع الواسعة، وينتقلون من مالك إلى آخر كأنهم جزء لا يتجزأ عن الأرض ليس لهم حقوق على أسيادهم، إذا ارتكب واحد منهم أقل هفوة فالجلد المضني عقابه، وأشد من هذا وأنكى أنه لم يكن لهم سيد واحد بل اثنان، فإذا جاء الفيضان وغطى ماؤه الأرض واصبح العمل في الحقل مستحيلاً لمدة طويلة كان على الفلاح أن يقوم بعمل آخر في خدمة الملك، إذ عليه أن يذهب لينقل الأحجار التي قطعها العمال من المحاجر الواقعة تجاه منف فيشتغل هو وزملاؤه تحت إشراف موظفي الحكومة، وينقلون الأحجار فوق الحقول المغطاة بالمياه إلى حيث يريد الملك أن يبني هرمه، ولم يكن لهذه العملية نهاية فإن أول ما يفكر فيه الملك عند إخلائه العرش هو بناء مقبرة له، فإذا أتمها قبل أن يموت أخذ يحسن ويوسع فيها، وإذا انتهت أيامه فهناك هرم خلفه لابد من بنائه.
وقد اهتم المصريون القدماء كما نفعل اليوم بفيضان النيل، وهذا أمر طبيعي فإن سقطت الأمطار بغزارة على الجبال القائمة في الجنوب الشرقي من مصر خافوا فيضاناً عالياً يهدد حياتهم، ويغرق جزءاً كبيراً من أراضيهم، وإن قلت الأمطار توقعوا فيضاناً منخفضاً يتلوه قحط ومجاعة في البلاد، فكانوا إذا اقترب وقت الفيضان يتحدثون عن النعم التي يغدقها عليهم (نيل طيب) ويبدؤون في البحث عن الوسائل التي يجب عليهم اتخاذها وقت الخطر، إذ كان كل واحد منهم يتأثر بهذا الحادث السنوي - كل حريص على محصوله - أما موظف الحكومة فعليه أن يحسب مقدماً مقدار ما ستأخذه الحكومة من محصول كل شخص، وهذا هو الضريبة الرئيسية. كذلك كان يعد الحازمون من الحكام العدة لإطعام فقراء إقليمهم إذا ما انخفض الفيضان، ويخزنون الحبوب للمستقبل أن كان المحصول اكثر من المتوسط.
(البقية في العدد القادم) أحمد نجيب هاشم