مجلة الرسالة/العدد 233/ليلى المريضة بالعراق
→ وكان صباح | مجلة الرسالة - العدد 233 ليلى المريضة بالعراق [[مؤلف:|]] |
مصرع شجرة الدر ← |
بتاريخ: 20 - 12 - 1937 |
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
. . . ودخلت أعدو خَلْف الوصيفة في بصر زائغ، وقلب خفاق، فلم أكد أتبين مدخل البيت، وعثرت قدمي على السلم عثرة خفيفة سلم الله منها ولطف، وانتهيت إلى غرفة صغيرة فيها أريكة وثلاثة مقاعد، وتركتني الوصيفة وزاحت تدعو ليلى، فتلفت أدرس أساس الغرفة في لهفة وشوق، فوجدت على الحائط قطعة من القطيفة نقش عليها هذا البيت:
يقولون ليلى بالعراق مريضةٌ ... فيا ليتني كنت الطبي المداويا
ورأيت بجوار تلك القطيفة صورة السيدة نادرة التي جمعت عواطف العرب حول ليلة بفضل ما أبدعت في ترجيع هذا البيت، ورأيت فوق المنضدة كتابين: رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده، وذكريات باريس للشيخ زكي مبارك، فيا عجباً كيف جاز لمنزل ليلى أن يجمع بين الهوى والضلال!
وغابت ليلى ولم تعد الوصيفة، واستمر الحال كذلك عشرين دقيقة، فدفعني الملال إلى التلهي بالنظر في سلة المهملات، وما أدري كيف وقعتُ في هذا الفضول، فهل تصدقون أني رأيت بين الخطابات الممزقة رسالة من (فلان) يؤكد لها أن زكي مبارك أديب وليس بطبيب؟ سامحك الله يا دكتور فلان، ولا أراك نعمة الهوى والجنون!
لعل ليلى في زينتها، وإلا فكيف أعلل صبرها عن لقائي كل هذا الزمن الطويل؟
ثم فتح الباب، ودخلت امرأة ملفوفة بالسواد لا تقع العين منها على شيء، ولم لا أقول دخل شبح أسود نحيل كأنه عود الخلال؟
وانحط ذلك الشبح على أحد المقاعد، ولكن هذه الجفوة لم تمنع قلبي من تواتر الخفوق. وبعد لحظات طوال كأعمار الأحزان تكلمت ليلى
رباه! ماذا أسمع؟ إن أذنيّ لا عهد لهما بمثل هذا الصوت المتكسر الناعم الحزين
ومضت ليلى تتكلم وتسهب، ولكني لم أفهم شيئاً، فقد كنت مشغولا بدرس طبيعة هذا الصوت، هذا الصوت الذي يذكرني بتلك الفتاة التي خفق القلب لها أول خفقة، والتي قلت فيها أول قصيدة، وسكبت عليها أول دمعة، تلك الفتاة المنسية التي تنام في قبر مجهو تحت سماء سنتريس
ما هذا الصوت؟ يا رباه! أفي الحق أني سمعت أمثال هذه النَّبرات على كثرة ما طوَّفتُ في البلاد؟
لا أكذب الحق، هذا جوهر لم أشهد مثله في سنتريس ولا باريس، وإنما هو من جواهر العراق، هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد المفتونين في بغداد:
وكأنَّ رَجْعَ حديثها ... قِطعُ الرياض كسِين زهرا
هو صوت تحدر عن تلك الإنسانة التي قال فيها أحد القدماء:
رُهبانُ مديَنَ والذين عهدتُهم ... يبكون من خوف العذاب قُعودا
لو يسمعون كما سمعتُ حديثها ... خروا لعزةَ ركَّعاً وسجودا
هو صوت ليلى يا بني آدم، ليلى المريضة بالعراق، ولو سمعه الشيخ فلان لسال منه اللُّعاب
ثم انتبهت، فقلت في نفسي: إن ليلى بخير، فهذا الصوت الضعيف يحمل قوة تهد رواسي الجبال
ثم انطلقنا نعدد في شجون الأحاديث، فسألتني عن مصر، وسألتني عن صاحبة الذهبية التي ترسو على الشاطئ الأيمن خلف جسر إسماعيل؛ فعجبت من أن تصل أخباري إلى ليلى وهي مريضة بالعراق، وقلت: إن تلك الإنسانة بخير، ولكنها تركت الذهبية وعادت إلى منزلها بمصر الجديدة، وقد صحا القلب يا ليلى فلم يَعُد بيننا تلاق منذُ ربيع سنة 1935 والله المستعان على مكاره الصدود!
فتنهدت ليلى وقالت: حتى أنت تنسى العهود! وماذا خليت لِغُلْف القلوب؟
ومضت تتحدث عن الحياة الأدبية في وادي النيل، وسألتني عن كثير من الأدباء، فكنت أذكرهم جميعاً بما يحبون أن يذكروا به في بغداد، ورأيت أن أكون أميناً في تبليغ التحيات فقلت: إن الأستاذ الزيات يسلم عليك. فقالت: لا أحب أن أسمع اسمه. فقلت: وكيف؟ فقالت: هل تصدق أنه أقام سنين في بغداد ولم يسأل عني؟ فتشجعت وقلت: لعل له عذراً وأنت تلومين! ذلك رجل يتهيب أقاويل المرجفين
واستطردت فقلت: ولعل الدكتور السنهوري قام بالواجب.
فضحكت ضحكة عالية كادت تخرق النقاب وقالت: السنهوري أغلظ كبداً من ذلك!
فقلت: وما صنع الدكتور عبد الوهاب عزام؟
فأجابت: أوَ كنت تحسبني أنتظر زيارة الدكتور عزام؟ إنه رجل أديب، ولكن انشغاله بالتحريم والتحليل لم يترك في قلبه مجالاً لرقيق الأحاسيس
فقلت: لقد مرّ الأستاذ أحمد أمين ببغداد منذ سنين، فماذا فعل؟
فقالت: هو رجل صافي الذهن، ولكن يظهر أنكم أوهمتموه في مصر أن العالم الحق لا يليق به أن يُشغَل بشؤون الوجدان
ثم أغرقتْ في صمت مُوحِش حسبتُه لوناً من العتاب
وجاءت أقداح الشاي، فتجرأتُ وقلت: وأين أكواب الصهباء؟ نحن في حضرة ليلى وتحت سماء بغداد!! فقالت: أنا امرأة مسلمة ونحن في رمضان؟ وأنتَ؟
فقلت: وهل حسبتني من الكافرين؟
وفهمتُ أنني أخطأت فغيّرت مجرى الحديث
- مولاتي ليلى!
- نعم، يا مولاي!
- إنما جئت للعناية بصحتك، كما تعلمين
- أعرف ذلك، وهو فضل سأذكره ما حييت. سأذكر أن الحكومة المصرية كانت أعرف الحكومات الشرقية بالواجب نحو امرأة عليلة أوحت ما أوحت من الشعر والخيال ثم أضرعها الداء فتناساها الأهل والأقربون
فقلت: البركة في الحكومة العراقية
فقالت: الحكومة العراقية؟ سامحها الله! هل تصدق يا دكتور أن الحكومة العراقية تبيح لمحطة الإذاعة أن تذيع جميع الأغاني والأناشيد، إلا الصوت الحزين:
يقولون ليلى في العراق مريضة ... فيا ليتني كنت الطبيب المداويا
وهنا تنبهت إلى أني لم أسمع هذا الصوت في بغداد
فقلت: وكيف تحرِّم الحكومة العراقية هذا الصوت؟
فأجابت: إن الحكومة في هذا الزمن لا تعرف غير الجيش والرماح والسيوف والمدافع، وهي تبغض أحاديث الوجدان كل البغض، ولا يرضيها أبداً أن يتحدث إنسان عن ليلى المريضة بالعراق
فقلت: وكيف يصح ذلك وعندكم وزير مشرق الجبين هو المدفعيّ، وعندكم وزير أديب هو الشبيبي؟
فقالت: أما المدفعيّ فله من اسمه نصيب، لأنه منسوب إلى المدفع؛ وأما الشبيبي فلا تغرّنك بسماته العِذاب، فقد كان شاعراً فيما سلف، أما اليوم فهو من دواهي العراق، العراق الذي يعبد النضال
ومرت لحظات صمت كانت أبلغ من الإفصاح
- مولاتي ليلى!
- نعم يا مولاي!
- إنما جئت للاهتمام بصحتك
- أشكر لك يا دكتور، ولكنك تكرر هذه العبارة. فماذا تريد؟
- أريد أن أرى وجهك ويديك
- وهل تريد أن تخطبني؟
- ليس هذا ما أريد، فلي بحمد الله أهلٌ وأبناء
- إذن ماذا تريد؟
- اعقلي يا ليلى، إن الأمر كله جِدّ، والأمة المصرية تهتم بصحتك أبلغ اهتمام، وقد نزلت الحكومة عند إرادة الأمة فأوفدتني إليك، ثم بالغتْ في الاحتياط فأوعزتْ إلى الدكتور علي باشا إبراهيم أن يقترح على الجمعية الطبية أن تجعل مؤتمرها المقبل في بغداد، وأنا أحب ألا يعقد المؤتمر إلا وأنت في عافية الفرس الجموح، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن أقدِّم للمؤتمرين تقريراً ضافياً يشهد بأنني لم أضع الوقت في التعرف إلى عيون الظباء. وسيَقْدَم الدكتور محجوب ثابت وهو من خصومي، الألدّاء، وأخشى أن يشي بي فيصرح لمعالي الأستاذ نجيب الهلالي بك بأنني لم أكن في الحرص على مهمتي من الصادقين
وبدأت ليلى فكشفت عن يديها، فانخلع قلبي من الرُّعب، حين وقع البصر على تلك الأنامل الصُّفر الدِّقاق فتماسكتُ وقلت: وعيناك؟
فألقت النقاب عن وجه مليح التقاسيم كان له في ماضيه تاريخ جميل، وتأملت أنفها مرات ومرات فرأيت فيه أخيلةً من الملاحة قلما يجود بمثلها الزمان
ثم ارتقيتُ فوقعتُ على عينيها وقُوعَ الطائر الظمآن على الوِرد النمير
الله أكبر! ما هذا السحر المبين؟ أأنت مريضة يا ليلى ولك هاتان العينان؟
فابتسمت وقالت: صدق الدكتور فلان حين كتب إليّ أنك أديب ولست بطبيب!
فقلت: إنما أريد بعث الطمأنينة في قلبك المروعّ يا مريضة العراق
وقضيت ساعتين في مسامرة ليلى ثم استأذنت في الانصراف والله المحمود على نعمة ذلك الحديث
والآن أوجه القول إلى الأمة المصرية، الأمة القلقة على المريضة بالعراق، ولاسيما الأستاذ محمد الهراوي الذي دسّ في جيبي دينارين على المحطة، أجرة برقية أرسلها من بغداد ليطمئن على ليلى المريضة بالعراق، إليهم أوجِّه الكلام فأقول:
بني وطني:
إن ليلى تملك عنصرين مهمين من عناصر الحياة: رخامة الصوت، وملاحة العينين؛ ولكنها مع ذلك فريسة الضَّنى والنحول، وسأبذل جهد الجبابرة لأصل بها إلى ساحل النجاة
وقد كلفت السيدة جميلة المقيمة بشارع صريع الغواني أن تحتال في دعوة وصيفة ليلى لقضاء سهرة بريئة في منزلي بشارع الرشيد، فإن حضرت تلك الوصيفة فسأعرف سِرَّ ليلى. سأعرف كيف قضت أهوال الحب بأن تصل إلى ذلك النحول
فإن تمت لك المحاولة فقد أصل إلى شيء، وإن لم تتم فستذهب جهود المؤتمر الطبي أدراج الرياح
وأنا أرجو صديقي الأستاذ الزيات أن يقف أطباء مصر على تفاصيل هذه المعضلة، فما أحب أن يعودوا خائبين، فيسيئوا إلى سمعة الحكومة المصرية بلا موجب معقول
وأنت أيتها السيدة التي اسمها جميلة، والتي زعمت أنني فتى جميل، اسمعي؛ ليس يهمني بالدرجة الأولى على حد تعبيركم في بغداد أن تغسلي ثيابي، وأن تحضري لي مائدة فخمة في كل أسبوعين؛ يا بخيلة، وإنما يهمني أن تقودي وصيفة ليلى إلى منزلي، إلى غرفة الاستقبال يا لئيمة لا غرفة السرير، فإن عند تلك الفتاة أسراراً تكشف المحجوب من حياة ليلى المريضة بالعراق
يا جميلة! لقد كنت في صباك جميلة، فكوني عندما أرجوه من محمود الظنون
يا جميلة! أنا أنتظرك مع وصيفة ليلى في الساعة العاشرة من مساء السبت المقبل، والله بالتوفيق كفيل
(للحديث بقية)
زكي مبارك