مجلة الرسالة/العدد 233/إلى الأستاذ الزيات
→ حياة الأمة العربية بين الماضي والمستقبل | مجلة الرسالة - العدد 233 إلى الأستاذ الزيات [[مؤلف:|]] |
صور وخواطر ← |
بتاريخ: 20 - 12 - 1937 |
تكيف الأخلاق الفاضلة
للأستاذ خليل جمعة الطوال
- بلى يا محمود! وهل تشك في ذلك. . .! إن الأخلاق الفاضلة هي مبعث كل سعادة، وأس كل نجاح، ولولا فضيلة الخلُق لكان للعالم شأن غير هذا الشأن. فهي الصخرة الناشزة في طريق الكفر التي تحطمت عليها أصنام الوثنية في قريش؛ وهي القوة العظيمة التي بدَّلت نواميس الطبيعة التي لا تتبدَّل يوم هرب موسى بشعبه من ظلم فرعون الطاغية؛ بل هي العدة الوافرة التي تسلح بها المسلمون في جهادهم فجعلت سيوف المشركين في أيديهم خشبا، وحملها العرب في فتوحاتهم فإذا بها لغم تداعت له جوانب الإيوان وشرفاته، وتلاشت فيه أبهة التاج ومجوهراته. ولكن ما العمل فقد تطور الحال، واستحال الزمان، ولم يعد ابن الأمس - المتوحش على زعمنا - في قياس هذا العصر بإنسان، ولا أخلاقه الرجعية بالتي ترجح فيها كفة الفضيلة في الميزان؟
يا أخي! إنها (لموضة) تعم كل شيء، وتجتاح كل ما في سبيلها، وتخضعه لحكمها؛ فلا فرق في ناموسها بين الأخلاق الفاضلة والسراويل المخرفجة التي يلبسها خصيان الأتراك. ومتى انتشرت (الموضة) فعار على الإنسان أن يتخلف عنها. ولقد نظرتُ في تاريخ المدنية فرأيت فيه أزياء من الأخلاق بعدد (موضات) الملابس، ورأيت أن الأخلاق تتكيَّف بالزمن وملابساته، تكيف الجسم بالمحيط ومؤثراته. وما تعمل الأخلاق غير هذا. . . إنها مكرهة عليه لتحتال لنفسها على البقاء وتنجو من يد الفناء، فهو طريقها في شهوة الخلود، ولا محيص لها عن سلوكه. ألا فانظر كيف يقلم الإنسان أظفاره لاستغنائه عنها، ويدرمها (بالمونيكير) مجاراة للموضة، وكيف حسر عن رأسه ليظهر شعرهُ السبطُ اللامعُ المطيب بأطايب (الموضة) أفلا يسفر بعد هذا عن أخلاقه!. . . ولقد نظر في ناموس الأخلاق، فرأى أن الفضائل التي كانت فيما مضى قائمة به إلى معالي الأمور، حافزة له على عظيم المآثر، هي القاعدة به اليوم عن عالي الرتب، وعريض الجاه؛ وهي السالكة به طريق الفشل، والصادة له عن محجة النجاح؛ فلا عجب بعد هذا أن يتنكب جادتها، ويصد عن ورد شرعتها؛ فالكرمُ الذي كان يتهالك عليه المرءُ فيما مضى، إذ كان طريق السؤدد ومحمدة ما فوقها من محمدة أصبح اليوم - في عرف هذا العصر - تبذيراً وهوساً. وأعوذ بالله ممن يرميه الناس بالتبذير، ألا يتهمونه بالهوس؟ والحلم أصبح ضعفاً وعجزاً، والتقوى تزمتاً ورجعية، والحياءُ نقصاً في الرجولة وأنوثة. وما الفضائل الجلى، والخطوة البالغة، والمكانة السامية إلا في الطباع اللئيمة، والكذب الصراح، والتملق الشائن، والخلق اللدن، والمثالب الفاضحة، والسفالة الواضحة.
هي الأخلاق تنصهر بالموضة وتميع، ومتى ماعت جرت - حسب قوانين السوائل من فوق إلى تحت - من ذروة سمو النفس، إلى دركة حيوانية الطبع، وتشكلت بشكلها والعياذ بالله!
أين ذاك الزمان الذي كان يتنافس فيه الأقران على اجتذاب حبل الفضيلة بوأد حيوانية الطبع، وعلى سمو النفس بصلب سفالة الشهوة، وعلى زعامة الخلق بإنكار أنانية الذات، مِن هذا العصر الذي تدلت فيه معنويات الفضيلة، فحبل الشهوات البهيمية على الغارب، وخسة الطبع والقحة هما من الأخلاق في ذروتها، والتبجح الكاذب مدار الحديث في كل مجلس وناد؟ والأغرب أن الناس إنما يتجاحشون على الرذيلة باسم الفضيلة، ويتمرغون في حمأة الموبقات باسم الأخلاق، ويرتكبون اللتيا والتي باسم التجديد! التجديد الذي شمل الأخلاق وعم الفضائل، فحور فيهما وبدل، ما حور وبدل في الثياب
استعرض الناس على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، وانظر علامَ يتجاحشون! أعلى الصدق وهم يرونه آفة على جمع المال الذي احتكرته المخاتلة والخداع؟ أم على الحياء وقد أصبح صاحبه مقروناً بالحرمان، كما أصبحت الحظوة من مدلولات القحة؟ أم على الكفاية وقد تغير مقياسها - بتغير الموضة - ولم تعد دليلاً على مقدار رسوخ قدم صاحبها في العلم والعرفان، ولا على مقدار ما في نفسه من معنويات الشرف، وطهارة الوجدان، وإنما على مقدار ما له من جاه عريض، وأصل أثيل، وعلى عدد ما في بطانته من أرباب الرتب الملحوظة، والألقاب الضخمة، والشخصيات المنفوخة: إن صح هذا التعبير كالأفندية! والباكوية! والباشوية! كلا ليس على شيء من هذه الفضائل يتجاحشون، ولِمَ يتجاحشون عليها وهم يرونها - جميعها - قد اختلطت، وتفاعلت، وتركبت في جوهر واحد فقط هو الوظيفة؟ أفلا تراهم يشترون أحط الوظائف دركة بماء وجوههم اللدنة ونخاسة سمعتهم السافلة، وفضيلتهم الدابرة، حتى إذا ظفروا بها بطروا، وضحوا في سبيل استبقائها والحرص عليها بجميع أخلاقهم وبضمائرهم الموبوءة، وما ذلك إلا ليكونوا من ذوي الزلفى، وليثملوا بنشوة الغرور، إذ يقول فيهم الناس، تزلفت إلى البيك في الديوان وزرت الأفندي في الديوان، وتوسطت في الأمر لدى الباشا في الديوان
قد يسوءك الأمر ويغمك، ولكن الأخلاق الفاضلة غير مسئولة عن ذلك لأنها تطورتْ وأنت تحجرتَ - في عرف أهل الموضات - وتقدمتْ فتخلفتَ
يا أخي! لقد تلقحت أخلاقنا الفاضلةُ الأصيلة بأخلاق سِفلة الشعوب الوضيعة فنغلت وصارت كالخنثى، لا هو ذكر ولا أنثى، بل كالبغل ليست فيها أصالة الحصان ولا ضعف الأتان
هي (الموضة) يا عزيزي. . .! وقد أبت الأخلاق إلا أن تتكيف بها، فتصبغت وتطيبت ثم تدلت وانتهت إلى هذه الحالة التي تشكو منها. وما شكاتك إلا شكاة الفضائل بأسرها، والأخلاق العالية بكاملها. هي (الموضة) وعبثاً يحاول الإنسان أن يجاري المدنية ولا يجاريها، فهي من مقوماتها الأولى، ومستلزماتها الرئيسية
أفبعدَ هذا - يا محمود - تطمح إلى النجاح في القرن العشرين وعدتك له عدة الجدود الغابرين؟
(شرق الأردن)
خليل جمعة الطوال