مجلة الرسالة/العدد 233/أناشيد صوفية
→ التزوج بالغربيات | مجلة الرسالة - العدد 233 أناشيد صوفية [[مؤلف:|]] |
بين القاهرة واستنبول ← |
بتاريخ: 20 - 12 - 1937 |
جيتانجالي
للشاعر الفيلسوف طاغور
بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب
- 39 -
حين يتصلّب قلبي ويتحرّق، صب عليّ رشاش رحمتك
حين ينزع الحنان من على الأرض، ابعث إلي بنشيدك العذب
حين يعلو ضجيج العمل فيشمل كل مكان فيباعد بيني وبين الناس جميعاً، أرسل إلي - يا إله الصمت - فيض الهدوء والأمان
حين يخرّ قلبي الضعيف ساجداً في عزلته، افتح الباب - يا مليكي - وتعال إليّ في أبهة الملك
حين تعمي الرغبة الملحة قلبي وتنفث فيه الغواية، إليّ - أيها المقدس - في برقك ورعدك
- 40 -
لقد كفّ غيثك - يا إلهي - عن قلبي الظمآن منذ أيام وأيام، والأفق قفر ليس فيه غمامة رقيقة ولا أثر قطرة واحدة
وإذا شئت فانفخ من عواصفك الهجوم ما يحمل ريح الموت ثم املأ السماء بالبرق الخاطف
ولكن رُدَّ عني - يا إلهي - هذه الحرارة المتسعرة الصامتة فهي في شدتها وقسوتها تلفح القلب بنار اليأس القاتل
ثم دع سحائب الرحمة تنهل علينا من علٍ كأنها نظرات أُم عطوف ترى الأب يتنزّى غضباً فتترقرق فيها عبرات الحنان
- 41 -
يا من أحب، أين مكانك من وراء الزمر، وأنت تتوارى في ظلالهم؟ إنهم ينطلقون على الطريق التَرب، يمرون بك فلا يلتفتون إليك؛ وأنا هنا أنتظر الساعات الطوال في قلق وبين يدي الهدايا، وحين يمرون بي يلتقطون زهوري واحدة واحدة وسلتي تكاد نفرغ
لقد تصرَّم النهار، وجاء الليل ينشر ظلامه، والنعاس يداعب جفنيّ، والناس ينطلقون إلى دورهم، وفي أعينهم نظرات التهكم والسخرية، وفي قلبي الخجل. إنني هنا أنتظر في جلسة الشحاذ، أرخي فضل ثوبي على وجهي، وحين يستخبرونني أعرض عنهم في صمت
أوه، كيف أخبرهم بأنني أنتظرك وأنني منك على ميعاد؟ كيف أستطيع أن أقول لهم إنني أقدم فقري مهراً لك؟ آه، سأكتم كبريائي في أعماق قلبي
أنني أقضي الساعات على الحشائش الخضراء أحدق في السماء وأرخي لخيالي العنان أحلم بساعة اللّقيا الجملية - فيخيل إليّ أن النور يسطع وأن الرايات الذهبية تخفق فوق مركبتك، والناس على جانبي الطريق يحدقون في ذهول حين يرونك تهبط من عليائك لتنتزعني من التراب، ولتجلس إلى فتاة فقيرة ترتدي الأسمال، وهي تضطرب من أثر الحياء والكبرياء كأنها حشرة تتهادى بين نسمات الصيف
إن الساعات تمر وأنا لا أحس صوت عربتك. كم حفل مر بي في ضجة ولجب فيه سحر الأبهة! أفتبقى أنت من ورائهم تتوارى في صمت وأنا أقضي حياتي أنتظر عبثاً أبكي وقلبي يتفطر؟
- 42 -
في بكرة الصباح سمعت همسة: ستبحر معه في قارب، أنتما معاً فقط، وما في العالم من يعرف شيئاً عن هذه السفرة، فهي إلى غير غاية وإلى غير نهاية
في أضعاف ذلك اليم اللانهائي وعند بسمتك الرقية الهادئة ستحور أغانيّ إليّ لحن طليق كالموج. . . لحن لا تحده الألفاظ
أفلم يأن لي؟ أفلا يزال هناك ما يشغلك عني؟ يا أسفا! لقد أسدل الليل أستاره على الشاطئ ونزع الطير إلى وكره
من يدري متى ترفع السلاسل ويندفع القارب فيتوارى في أحشاء الليل كأنه آخر شعاع من أشعة الطَّفَل؟
- 43 - ما كنت أهيئ نفسي للقياك حين وجدت السبيل إلى قلبي، فدخلت إليه - يا مليكي - دون إذن كأنك واحد من الشعب غريب عني، فطبعت على لحظات من عمري بطابع الخلود
واليوم كشفت عن تلك اللحظات - على حين فجأة - فألفيتها منثورة على التراب وعليها خاتمك ومزاجها ذكرى أيام قليلة من حياتي الغابرة فيها الأسى والطرب في وقت معاً
لا ترتد عني محتقراً سني طفولتي حين كنت ألهو باللعب في التراب، فإنه ليتراءى لي أن خطواتي وأنا أدرج في حجرتي بين اللعُّب تشبه تلك التي يدوي صداها بين النجوم
- 44 -
إن متعتي في أن أجلس على جانب الطريق أنتظر وأرقب الظلام وهو يطارد النور، والمطر وهو يتعقب صفاء الصيف
ورسلك يمرون بي وعليهم بشرى السماء يحيونني وينطلقون في سبيلهم فيهتز قلبي طرباً وأنا أستروح النسمات الحلوة
من الفجر لدن الغسق وأنا جالس بازاء بابي لأنني أوقن بأن فترات السعادة آتية لا مرية فيها، آتية حين أرى. . .
في هذا الحين سأخلو إلى نفسي أبسم وأترنم والهواء يتضوع بأريج الوعد
- 45 -
أفلم تحس وقع خطواته الهادئة؟
هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في كل لحظة وحين، في كل يوم وليلة؛ هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
لقد شدوت بألحان كثيرة ما تزال رناتها تقول: (هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت)
في اليوم الصحو العطر من شهر أبريل، وعلى طريق الغابة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
في عبوس الليلة المطيرة من شهر يوليه، وعلى مركب السحب المزمجرة هو آت. . . آت. . . ودائماً هو آت
إن خطواته هي التي تسحق قلبي في لحظات الأسى والحزن ولكن لمسات قدميه الذهبية هي التي تبعث الطرب في قلبي مشرقا
- 46 -
لست أدري منذ كم من الزمان وأنت تهفو تريد لقياي؛ وما تستطيع شمسك ولا كواكبك أن تحجبك عني إلى الأبد
ما يزال وقع قدميك يرن في مسمعيّ كل صباح وكل مساء، وما يزال وحيك يهتف في قلبي ويناديني سراً
لست أدري لماذا تضطرب حياتي في هذه الأيام، وفي قلبي نبضات السرور
لكأني أرى الأيام تهم لتنجز عملي، وأنا أستروح النسيم الحلو يبشرني بقدومك
- 47 -
أوشك الليل ينحسر وأنا أنتظر عبثاً. إنني أخشى أن يحضر والفجر، وقد غلبني النعاس والتعب معاً. فيا صاحبي دع الطريق أمامه مفتوحاً ولا تقف في سبيله
وإذا لم توقظني خطواته فلا تفزعني أنت عن منامي؛ فما أريد أن يزعجني عند انبثاق الفجر، لحن الطائر الغرّيد، ولا زفيف الريح. ذرني هادئاً في نومي ولو جاء سيدي إلى بابي
أيها النوم، أيها النوم اللذيذ، إنك تنتظر لمساته لتطير عني. آه، سنفض نورُ بسماته عن عينيَّ ثقلَ الكرى، وهو أمامي كأنه حلم لذيذ يلمع بين ظلمات الهجوع
فليأت أمام ناظريّ كأول شعاع أضاء وكأول شبح بدا. إن نظرّاته ستبعث في حياتي العابسة أول هزات الطرب. وحين أعود إلى نفسي فلتكن عودتي إليه هو
- 48 -
إن صمت الفجر العميق يمزقه رجع تغريد الطير؛ والأزاهير نشوى على جانبي الطريق، وبين تفاريق السحب تنثر الثروة الذهبية؛ أما نحن فنهرع إلى العمل في شغل لا نلتفت
ليس في ألحاننا النشوة والطرب؛ ولم تنطلق إلى القرية طلباً للفائدة؛ ولم تنفرج شفاهنا عن كلمة أو ابتسامة، وما تريثنا على الطريق؛ ولكن رحنا نستحث الخطو كلما انطوى الزمن
تكبدت الشمس السماء والبط يمرح تحت وارف الظل، وأوراق الشجر تضطرب في الهاجرة، وغفا الراعي في ظل شجرة الرند يحلم؛ أما أنا فاستلقيت إلى جانب الغدير مرسلاً أطرافي المكدودة على الحشائش
لقد سخر مني صحابتي وانطلقوا في سفر فلم يعقب واحد منهم ولم يستأن، ثم غابوا عند الأفق. لقد اجتازوا مهامه ومروجاً وبلاداً نائية عجيبة. لك المجد يا من تملك الطريق اللانهائي! إن السخرية واللوم أفزعاني عن مكاني، وإن لم أجد الرضا في نفسي فلقد فقدت نفسي في أعماق الخشوع الجميل. . . فقدتها في ظلال النشوة الغامضة
إن وشي الشمس الجميل انتشر في بطء على قلبي فإنساني ما انطلقت على أثره فأسلمت عقلي - في غير عناد - إلى مباهج الظل والأغاني
وأخيراً حين استيقظت من سباتي وجدتك إلى جانبي تنزع عني النوم بابتساماتك. كم خشيت أن يكون الطريق إليك طويلا وعراً، وأن يعجزني أن أصل إليك!
كامل محمود حبيب