مجلة الرسالة/العدد 232/الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 232 الفلسفة الشرقية بحوث تحليلية [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 13 - 12 - 1937 |
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 29 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
الأخلاق عنده
جزم اكثر المستصينين بأن غاية (كونفيشيوس) من فلسفته العملية كانت إصلاح الهيئة الاجتماعية في عصره، وإحداث تجديد أخلاقي وعمراني وسياسي في الدولة، ولكن العالم المحقق (زانكير) يرى أن هذا غير صحيح، ويصرح بأن حكيمنا لم تكن له غاية تحقيق الواجب في ذاته، وأن النظريات التي ترمي إلى المنفعة أو إلى السعادة أو التي تعلل الأمر والنهي الأخلاقيين بعلة خارجة عن الواجب لا أثر لها في مذهبه وهو في هذه الناحية يشبه (كانت) في رأي الأستاذ (زانكير) إذ كلاهما يأمران باتباع الواجب لذاته لا لشيء آخر، وهو يستدل على صحة رأيه بالنص الآتي من كلام (كونفيشيوس) في كتاب (لون - يو): (إن الحكيم يتعطش إلى الفضيلة، والرجل العامي يتحرق إلى اللذائذ المادية، وإن الحكيم يعنى بأن يلاحظ الواجب ويذعن له والرجل العامي لا يهتم إلا بأن يتصيد ما فيه من فوائد، وإن الحكيم لا يفهم في العموم إلا الواجب، أما العامي، فهو لا يفهم إلا منفعته)
لا ريب أن هذا النص يؤيد الأستاذ (زانكير) فيما ذهب إليه لأنه صريح في أن الحكيم لا يأبه إلا للواجب في ذاته، وأنه إذا حاد عن هذا الطريق فاكترث بأي شيء آخر كلذة أو منفعة هوى إلى صفوف العامة والجماهير، والآن وبعد أن أثبتنا أن (كونفيشيوس) كان في مقدمة القائلين بـ (الفيذاتية) المطلقة، نريد أن ندرس مذهبه الأخلاقي على ضوء نصوصه كما هي طريقتنا دائماً في هذه الدراسات.
قال (كونفيشيوس) في كتاب (تشونج - يونج) ما نصه: (إن الطبيعة هي الإرادة الإله الخالدة، وإن الحياة بحرية أو اتباع الطبيعة هو واجب الإنسان أو (تاوو)، وإن معرفة الواجب هي الدين نفسه. إن الواجب هو ذلك الشيء الذي ليس بمسموح لأحد إبعاده لحظة واحدة، لأنه لو سمح بالبعد عنه لحظة لما اصبح هو الواجب، ولهذا يعنى الحكيم في شيء من الانتباه بما لا يرى في داخله ويخشى في شيء من القلق ما لا يسمعه بأذنه، ويجب ألا يعالج بالكشف ولإيضاح إلا ما هو مخفي في داخل نفسه، ويجب ألا يكون شيء أوضح لديه من أعمق طيات قلبه، ولأجل ذلك يلقي الحكيم بنفسه بين أعطاف هذه المعالجات التوضيحية كلما خلا بنفسه، وحينما تكون النفس غير مهتاجة بأحاسيس حب أو غضب أو حزن أو سرور يقال عنها أنها في حالة الاعتدال أو (تشونج)، وحينما تتولد هذه الأحاسيس في النفس دون أن تتجاوز الحد المعتدل، قيل عن هذه النفس: أنها في حالة الانسجام (تاوو) وإذاً، فالاعتدال هو الأصل، والانسجام هو القانون العام وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتهما يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات)
من هذه النصوص يتبين مذهب هذا الحكيم في لأخلاق جيداً، وتتضح فكرته عن الواجب والاعتدال والانسجام، ومن الجملة الأخيرة بنوع خاص نلمح مذهب (كانت) قبل وجوده بأكثر من أربعة وعشرين قرناً، وهو القائل بان الاعتدال هو أصل أساسي في النفس، وبأن الحيدة عن الصراط المستقيم طارئة على الإنسان بسبب أحاسيس الحب والبغض والغضب والرضى والسرور والحزن، وبأن الحرية الأخلاقية هي منشأ مسئولية، وبأن الانسجام ضرورة سماوية لبقاء العالم ونموه وسيره نحو الكمال وما أقوى الشبه بين نص (كونفيشيوس) القائل: (وحينما يلحق الاعتدال والانسجام غايتها يسود النظام في السماء وعلى الأرض، وتنمو جميع الكائنات) ونص (كانت) القائل: (إن كل ما لو عم لصلحت الأرض هوالخير، وكل ما لو عم لفسدت الأرض هو الشر)
بل ما أحكم الصلة بين نص (كونفيشيوس) القائل: (إن الاعتدال هو الأصل والانسجام هو القانون العام) وبين نص (كانت) القائل: (إن إرادة كل فرد عاقل معتدل هي المؤسسة للقانون العام)
يرى (كونفيشيوش) كما يرى (كانت) أن كل إنسان إذا حقق الانسجام الطبيعي وثبته في داخل نفسه كما شاءته الإرادة الالهية، فقد حقق الواجب، وهو يرى كذلك أن الحرية النفسية يجب أن تسبق تأدية الواجب، وأن الإرادة البشرية ليست موفقة دائماً لتحقيق الواجب، وإنها تستطيع أن تبتعد عنه، ولكن ليس معنى هذا الابتعاد أن يتغير الواجب، كلا، بل هو كما تبعته الإرادة البشرية أو لم تتبعه، وهذا يدل - كما يرى الأستاذ (زانكير) - على أن قانون الأخلاق هو معتبر في ذاته أو هو مطلق عام لا شخصي مقيد، ولولا ذلك الإطلاق وهذه العمومية لما كان قانوناً أخلاقياً لكل أفراد الإنسانية، بل للسماء والأرض
وعنده أيضاً أن جميع أفراد بني الإنسان متساوون أمام هذا القانون الأخلاقي، وأنه في درجة من الوضوح لا تخفى على أي فرد، لأن العلم به فطري، وهو يرى لذلك أن الواجب لا غاية له إلا ذاته، وأنه إذا لوحظت في تأديته غاية أخرى من منفعة أو لذة أو أية غاية أخرى خرج عن كونه واجباً عاماً وأصبح غير صالح للجميع، لأن الناس يختلفون في غاياتهم الشخصية، فإذا أخضعنا الواجب لبعض تلك الغايات المتباينة لم يعترف به الآخرون الذين ليس لديهم مثل هذه الغايات، وبهذا يفقد كل شئ.
وعنده أيضاً كما عند (كانت) أن العمل إذا قصد به غير وجه الواجب سقطت قيمته الأخلاقية وأصبح نفعياً، وأن اتباع الإرادة للواجب يصيرها سامية فوق اعتبارت الحياة العامية، وإن الحكيم يشعر في داخل نفسه عند أداء الواجب بأقصى أنواع السعادة وهو في كل هذا يقول: (إن الإنسان ذا الأخلاق الكاملة (جين) هو الذي يقدم المتعب المضني على النافع اللذيذ ولا يلتفت عند أداء الواجب إلى ما يستفيده منه) ويقول أيضاً: (إن الإنسان بدون الأخلاق لا يستطيع أن يحتمل الفقر ولا الغنى وقتاً طويلاً. وإن الأخلاقي يجد في الأخلاق كل ترضية وإن الحكيم لا يصيره شرهاً نهماً إلا كنز الفضيلة)
لا ريب أن عدم احتمال الفقر عند غيبة الأخلاق أمر مفهوم لأن من تعوزه فضيلة الصبر يتعذب بمرارة الفقر، أما عدم احتمال الغنى في تلك الحالة فلعل الحكيم يقصد به أن الغنى في حالة فقد الفضيلة خطر لا يحتمله حتى صاحبه. بقي علينا الآن أن نشرح كلمة (جين) الواردة في هذا النص الذي أسلفناه لك كما فهمها المستصينون، ومعناها: الأخلاق، أو الواحد لأجل الجميع، أو الفرد للمجموعة.
وجه بعد ذلك سؤال إلى (كونفيشيوس) من معاصريه قالوا له فيه: كيف يتبع الإنسان الواجب دائما؟ وما هي الوسيلة العملية لتحقق هذا الواجب؟ وما هو ذلك الصوت الذي تقول انه ينادي دائما بالإذعان للواجب؟ وأي ضمان يطمئن الإنسان على أنه سائر دائماً في طريق الواجب؟ فأجاب بقوله: إن الطريق العملي لتحقق الواجب هو الإذعان لهذا الصوت الداخلي، وإن الضمان المطمئن هو إدمان مراقبة النفس حتى يكشف جميع دواخلها، فإذا حصل للفرد هذا الكشف وصل إلى درجة الحكمة، لأن القلب حينما يقوده الهوى ينسحب إلى الشر دون أن يشعر فيصبح الإنسان يرى ولا يبصر ويسمع ولا يعقل. والعلة في هذا هي أن العواطف والأهواء تسود أعمالنا وتمنعنا من أن نحكم أحكاماً صحيحة على أنفسنا وعلى العالم الخارجي.
أحسب أن الباحث لا يجد عسراً في ربط هذا الجواب الأخير بقول حكيم اليونان الأول: (اعرف نفسك بنفسك) تلك الحكمة التي وجدها (سقراط) - فيما تقول الأساطير الإغريقية - مكتوبة بالذهب على عتبة معبد (دلفى) واستغلها فكان أساساً صالحاً لفلسفته وفلسفة تلميذه العظيم (أفلاطون) بل إنها ظلت تتغلغل ساطعة في غيابات المستقبل حتى كانت أحد أسباب جلال (ديكارت) وخلوده حيث صرح بعد اثنين وعشرين قرناً بقوله: (إني لما كشفت الأنا حملت مصباحه الذي على سناه كشفت كل اللاأنا)
على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أن الأستاذ (زانكير) يرى أن فلاسفة اليونان الذين قالوا بمبدأ (اعرف نفسك بنفسك) لم يتنبهوا إلى العقبات التي تعترض سبيل الإنسان عندما يحاول هذه المعرفة، وهو يصرح بأن (كونفيشيوس) إن لم يزد على أولئك الفلاسفة في هذه النقطة فهو من غير شك يساويهم فيها. وبناء على ذلك، فالقائلون بأن (كونفيشيوس) حتى لو كان قد تنبه إلى معرفة النفس بالنفس فإنه قصر في معالجة العقبات الناشئة من هذه المحاولة هم على خطا في هذا الرأي، لأن تلك العقبات لم يعرض لها إلا علماء النفس في العصور الحديثة. وإذن، ففلاسفة الإغريق وحكيم الصين في هذا الموقف متساوون
يختلف (كونفيشيوس) مع (لاهو - تسيه) في وسيلة الوصول إلى الكمال الخلقي، فأما (لاهو - تسيه) فهو يرى أن التأمل النفساني كافٍ لوصول الإنسان إلى الكمال أو إلى تحقيق الانسجام المطلق في جميع حركاته. والانسجام عنده هو المسمى بالسكون الطبيعي الذي لا ينقصنا إلا حينما ننشغل بالظواهر، ومتى فصمنا عرى صلاتنا بها عاد إلينا. أما (كونفيشيوس) فيرى أن من المستحيل قطع صلاتنا بالظواهر الخارجية وإن كل محاولة في هذا السبيل فاشلة، وإن الإنسان لا يصل أبداً إلى الانسجام المطلق في جميع حركاته وإنما يصل إلى انسجام نسبي يقترب من الإطلاق بعض الشيء، وإن التأمل وحده ليس كافياً، وإنما يجب أن تضم إليه الثقافات والمعارف الخارجية، بل أن الثقافة هي الجوهر الأساسي للوصول إلى المعرفة والفضيلة الكاملتين، وهو لهذا يقول: (إن الشغوف بالدراسة يمنح الفضيلة الحكمة، وإن من يقوم بمجهود يمنح فضيلة حب الإنسانية، وإن الذي يحمر وجهه خجلاً من أنانيته يمنح فضيلة القوة) وهذه الفضائل الثلاث هي عنده الواجب أو ضروريات الكمال. وهو يرى أن الدراسة المحققة للثقافة والفضيلة يجب أن تتناول حقائق الأشياء: معنوياتها ومحساتها تناولاً دقيقاً مؤسساً على النقد الذي لا يعرف هوادة ولا ليناً، ولا يخضع لرحمة ولا عاطفة ولا هوى، فإذا نبت الدراسة عن هذه العوائق أنتجت أسمى النتائج وأرقاها. وفي هذا يقول: (حينما تدرس طبيعة الأشياء عن قرب وبانتباه تصل المعرفة إلى أعلى آواجها. وحينما تبلغ المعرفة أقصى آواجها تصبح الإرادة كاملة، وحينما تصبح الإرادة كاملة تصير حركات القلب منظمة متفقة مع القانون. وحينما تصبح حركات القلب منظمة يتخلص الإنسان من الآثام. وبعد أن يتخلص الفرد من الآثام يشرع في توطيد دعائم النظام والانسجام في الأسرة. وإذا ساد الانسجام في الأسر بلغ الحكم في المدينة درجة الكمال، وإذا بلغ الحكم في المدينة حد الكمال استمتعت الإمبراطورية بالسلام التام)
أحسب انه بعد كل الذي قدمناه من آراء هذا الحكيم القيمة وبعد هذه الموازنة التي أسلفناها بينه وبين أولئك الفلاسفة القدماء والمحدثين لا معنى لأن يغمطه بعض الباحثين الغربيين حقه فيرموه تارة بأنه ليس فيلسوفاً، وأخرى بأنه عملي أو نفعي. وأحسب كذلك أنه لا ينبغي أن نتأثر في حكمنا على هذا الفيلسوف بذلك التشويه الذي أصاب مذهبه بعد عصره، بل يجب علينا أن نضع نصب أعيننا ذلك السمو الفلسفي، والنبل الأخلاقي اللذين تفيض بهما مؤلفات (كونفيشيوس) وأن نذكر دائماً أنه وضع للمتفلسف ثلاثة شروط أساسية، الأول الإخلاص الكامل في كل ما يخطوه من خطوات علمية أو عملية. الثاني البدء بدراسة (الأنا) ليتوصل به إلى كشف كل (اللاأنا). الثالث الدراسة النقدية العميقة لجميع الأشياء الخارجية. فإذا لاحظنا كل هذا جزمنا بأن كل من لا يسمو بهذا الفيلسوف إلى الصف الأول من صفوف مفكري الإنسانية كان غير موفق في دراسته وحكمه.
(يتبع)
محمد غلاب