مجلة الرسالة/العدد 231/أبو إسحاق الصابي
→ أناشيد صوفية | مجلة الرسالة - العدد 231 أبو إسحاق الصابي [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 06 - 12 - 1937 |
للأستاذ عبد العظيم علي قناوي
بعثني إلى الكتابة عن أبي إسحاق الصابي رغبة حافزة في أن أربط بينه وبين أبي الفرج الببغاء أديبين عفى عليهما الدهر، ثم أراد لأدبهما بعثاً، كما ربطت بين روحيهما أواصر الأدب، فتعارفا متباعدين وتآلفا متقاربين، فقد قدمنا أن الصلة بينهما كانت في الحياة وثيقة العرا محكمة الحلق، لم تشبها شائبة حفيظة، ولقد جعلني الحديث عن أبي الفرج على ذكر متصل بأبي إسحاق لا يبرح أفق تفكيري ولا يحيد عنه، ولا يريم عن محيط ذهني ولا يقصو دونه. ولعل من أهم عوامل علوق أسمه بذاكرتي، ورسوخ شخصه في مخيلتي، أن حظه في دنياه كان كحظ صنوه، بل إنه كان أسوأ من أخيه جداً وأنكد دهراً، وأتعس رجاء وأملاً، فكلما تقدم به الأجل وأشرق له الأمل أدركته حرفة الأدب، فتضاعف عليه الألم، لا يغني عنه ما أوتى من ألمعية نادرة، ولا يصرف صروف الدهر دونه ما وهب الله له من مواهب فياضة زاخرة، فغير الدهر تنصب عليه انصباباً، ونوبة تتقاذفه تقاذفاً، وأحداث الزمان تتعاوره كهلاً أناخ به المشيب، وخطوبة تتناوبه شيخاً بما لا يقوى عليه الفتى الصليب. وهكذا دواليك: غمرات تترى، ونكبات تتوالى، ولا يجد على تعاقب الليالي إلا ضيماً، وتسومه الأيام بكرها خسفاً وظلماً؛ حتى أنشد وأنشد وتمنى، فكانت المنية هي أصدق المنى، فلله هو إذ يقول:
إذا لم يكن للمرء بدّ من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصبعه ما جاء والعيش راتع ... تطيف به اللذات والعيش مسعد
فإن أك شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غِبا واحداً لهما الغد
وما زال هذا شأنه لا يحول حاله إلا إلى سوء، وذلك ديدنه لا يتغير أمره إلا إلى غير، وهو يندب جده آنا وآنا، ويشكو بؤسه حيناً وحينا، فلا يجد لشكواه سكينة أو أونا، ولا يعرف إلى الحين مهيعاً أو سبيلاً؛ حتى صار ملجأ أمراض وأسقام، ومحط أوصاب وآلام. وهاهو ذا يشكو زمانته، وآثار الهرم في كيانه وحاجته إلى محفة يتخذها بدل قدميه اللتين ناءتا بحمله، وشاركتا الدهر في استثقال ظله، وقد بعث بقصيدته تلك إلى الشريف الرضي، وقد كان يشفق عليه ويرحمه، ويأسو كلومه ويرأمه، قال منها:
إذا ما تعدت بي وسارت محفة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
نزلتُ إليها عن سراةِ حصان ... بحكم مشيبي أو فراشَ حصان
فقد حملت مني ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهدُ الصبيَّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
فجاءت مواساة الشريف له سخية وفية، وعطفه براً سابغاً ضافياً، فقد لأم جروحه بقصيدة تفيض بالعطف أشطارها وتفعم بالود أبياتها منها!
لئن رام قبضاً من بنانك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بُزّ من ذاك الجناح مطاره ... فرب مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرها ... فثم لسان للمناقب بان
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان
من هذه الأبيات ندرك تعاسته وبؤسه، ونتبين آلامه وأسقامه، وما زال يغالب الزمان ويجالد الحدثان حتى أراد الله له الدعة التي طالما تمناها، وآتاه الطلبة التي كثيراً ما طلبها فعزت عليه. وافاه أجله وقد جاوز التسعين سنة حلب فيها الدهر أشطره فذاق شره مترعاً وقلما طعم خيره، وشرب كئوس البؤس دهاقاً، ولما ما ألمّ بالنعيم، ولقد كان في فتوته أسعد حالاً منه في كهولته وعاش في شبيبته أنعم بالاً منه في شيخوخته، وإليك حديثه عن ذلك في خيال صاف وديباجة مطرزة:
عجباً لحظي إذا أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان؟ حتى ملني ... شيخا، وكان على صباي مصاحبي
أمع التضعضع ملني متجنباً؟ ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
وبعد تلك الإلمامة بحاله نتحدث عن نشأته وحياته: يروي ياقوت في معجمه أن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون ولد بحران سنة ثلاث عشرة وثلثمائة هجرية، وأدركته منيته لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر شوال لسنة أربع وثمانين وثلثمائة؛ فسنه على هذه الرواية إحدى وسبعون سنة، وهو يقول في تعزيز روايته تلك: (وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه (يعني كتاب يتيمة الدهر) أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تأريخ حفيده، وهو به أعلم) ويقصد بحفيده أبا الحسين هلالاً بن المحسن بن إبراهيم الصابي، ويعقب الأستاذ شارح معجم الأدباء على ياقوت فيقول: (إنما قال الثعالبي إنه خنق التسعين أي قاربها) والحق أن الثعالبي ذكر سن أبي إسحاق في موضعين فقال في صدر الحديث عنه، وهو بصدد التعريف به (وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء وخلافة الوزراء) ثم قال في نهاية الفصل الذي كتبه عنه تحت عنوان وفاته (توفي في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية).
وإني إلى تحقيق الثعالبي أميل لوجوه أعدد منها:
أولاً: يكاد أبو منصور الثعالبي يعتبر معاصراً لأبي إسحاق الصابي، فقد توفي أبو منصور عقبه بنحو خمس وأربعين سنة، وهو أمد قصير في أعمار التاريخ والمؤرخين.
ثانياً: السن التي ذكرها صاحب اليتيمة وردت في قصيدة لأبي إسحاق إذ يقول:
فقد حملت مني ابن تسعين سالكا ... سبيلا عليها يسلك الثقلان
وقد كان إنشاء هذه القصيدة قبل وفاته بنحو أربعة أشهر
ثالثاً: قد يكون حفيد أبي إسحاق صادراً في حديثه عن غير تروٍّ وتدبر للحقيقة، لأنه حديث يسمع وينسى لا كما يصدر حديث عن مؤلف يتحرى الصدق ويلتزم جادة الدقة؛ لأنه خبر يخلد ويبقى.
رابعاً: سن السبعين لا توهي جلداً ولا توهن عظماً، وإن كان صاحبها متزاحمة عليه النائبات مولعة به النكبات إلا في القليل النادر.
وسواء أكان موته عن إحدى وتسعين أم عن إحدى وسبعين فقد خلف في الأدب أخلد الأثر، وضرب في النبل والوفاء أصدق المثل، فلقد ولد ومات على دين الصابئة، والصابئون كما يقول الأمام الكبير الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر. . . الخ الآية): (قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان: الأول إن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: إن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله سبحانه).
على هذا الدين ولد أبو إسحاق وعليه مات في عصر الإسلام فيه مزدهر والكلمة العليا له، والمكانة المكينة في العالم لرجاله، ولا فضل لمن لم يوله قلبه، ويهب له نفسه، وإن بقاءه على صابئته - على الرغم مما يحوطه ليدل أعظم الدلالة على أن الإسلام دين سمح، أساسه العفو والأمر بالعرف، والإعراض عن المشركين دون أن يصيبهم أذى، أو ينالهم حيف، أو تحل بهم نقمة مخلوق؛ لأنه دين العقل والحجة والمنطق والموعظة الحسنة، ولولا تسامح ذلك الدين القويم ما وجد مثل الصابئ كنفاً يلجأ إليه أو وزراً يحميه، فكيف وقد عاشر الخلفاء والأمراء والملوك والوزراء؟ وكذلك عاش أمثاله في رغد ورفهية؛ عاشوا موفوري الكرامة مرفوعي الرءوس مجدودي الحياة؛ ولقد بصر أبو إسحاق بالدين الإسلامي ورغب في الإسلام وألف قلبه، وأجزل له من أجل ذلك، فلم يهد الله قلبه للإيمان؛ لأنا لا نهدي من نحب، ولكن الله يهدي من يشاء؛ لذلك لم يصخ بسمعه إلى دعوة اليقين والداعون إليها هم سادته ومواليه وأرباب نعمته ومالكو زمام أمره إن شاءوا رفعوه وأعزوه، وأن أرادوا وضعوه وأذلوه. ولقد حدث التاريخ أن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة على أن يسلم، فأباها مفضلاً أن يبقى على دين آبائه الغابرين؛ وإن وفائه لملته، وإخلاصه لنحلته لمصدر عجب لمن أراد العجب؛ إذ لم يعرف عنه أنه أرتكب أمراً حرم عليه، ولا جاء وزراً نهى عنه شرعه. ويروي المؤرخون أنه حضر مائدة للوزير المهلبي بن أبي صفرة، وكان أبو إسحاق من خلانه الأدنين وخلصائه المصطفين، فامتنع عن لون من ألوان الطعام محرم لدى الصابئة، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء. فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فكان موفقاً في إجابته مسدوداً في مجانته. وروي أن عز الدولة بختيار بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول وهو مما يحرم أكله أيضاً في دينه، فرفضها متعففاً وهو الفقير إليها فأين من أولئك الذين لا يتناهون عن منكرات يجترمونها، ولا يتعففون عن محرمات يجترحونها غير مبالين ما ينتظرهم من حساب شديد وعذاب أليم؟ وآية نبله أنه مع تعصبه هذا وتشدده وتزمته في دينه كان جميل العشرة للمسلمين صادق الإخاء كريم الصنيع حسن المعونة، فكان يصوم رمضان لا تحنثاً بل تجملاً، ويحفظ القرآن الكريم إجلالاً له وعرفاناً بخطره؛ لأنه رأى فيه مهبط الحكمة ومصدر البلاغة، ومشرع اللسن والفصاحة، فظهر أثر ذلك على أسلة يراعه، وجرى على عذبة لسانه. وإليك ما يقوله أبو منصور الثعالبي في يتيمته عنه في تلك الناحية من خلقه وأدبه: (كان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وبرهان ذلك ما وردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيها كل الإحسان وحلاها بآي من القرآن)
ومن آيات وفائه ونبله أنه كان صديقاً ودوداً للشريف الرضي حتى أتهم بأنه يدعو له بالخلافة، ويتمنى أن ينال مطمحه ويدرك مأربه، وهو لم ينف ذلك عن نفسه، بل إنه جهر به في قصيدة بعث بها إلى الشريف، وهو لا بد عالم بوقعها في نفوس أعدائه وحاسديه، ولكنه لم يعبأ بما قد يصيبه بسببها، لأنه أسير وجدانه، وينطق إذ ينطق عن شعوره وإحساسه، وما عليه إذ يرضيهما من بأس، وهذا بعض ما قاله فيها:
أبا حسن لي في الرجال فراسة ... تعودتُ منها أن تقول فتصدقا
وقد خبَّرتني عنك أنك ماجد ... سترقي من العلياء أبعد مرتقى
فوفَّيتك التعظيم قبل أوانه ... وقلت أطال الله للسيد البقا
وأضمرت منه لفظة لم أبح بها ... إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا
فإن عشت أو إن مت فاذكر بشارتي ... وأوجبْ بها حقاً عليك محققاً
وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً ... إذا ما اطمأن الجنب في موضع البقا
ولقد كان مع هذا محببا إلى الخلفاء والوزراء، كلهم يطلب يده ويبتغي أن يقصر خدمته عليه دون غيره، فمنهم من كان يسلك إلى إربته طريق البذل والرفد، ومنهم من كان يطرق سبيل العقوبة والحقد، فعاش محسداً إن رضى عنه وزير غضب عليه آخر، وإن صفا له أمير جفاه خليفة. وممن اصطفاه ولم يجتوه وأحبه ولم يجفه الصاحب بن عباد، ولعل الأدب هو الذي قرب بين نفسيهما وألف بين روحيهما، فلم تقع بينهما نبوة، ولا لحق صدقتهما جفوة، فكثيراً ما بثه شكواه، واستمطر غيثه وكان موضع نجواه، ولقد كان أول أمره يأنف أن يتصل بالصاحب مادحاً أو أن يطلب صلته مانحاً؛ حتى استوزر الصاحب فنزل عن أنفته وقنع من مطاولته بمصاحبته، وكان الصاحب يعجب به أشد الإعجاب، ويراه أحد أفذاذ الأدب، فقد حدَّث عنه أنه كان يقول: (كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ أبن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي ولو شئت لذكرت الرابع) وكان يعني بالرابع نفسه. ويقول الثعالبي (وأما الترجيح بين هذين الصدرين أعني الصاحب والصابي في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون، وأخب فيه المخبون، ومن أشف ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب كما يؤمر، وبين الحالتين بون بعيد) وأحسب أنه يقصد تفضيل الصابي لأن الذي يستطيع أن يكتب ما يراد منه ويؤمر به لاشك مستطيع أن يكتب مات يرده هو، وعلى هذا فقد برع في الناحيتين وفاق صاحبه فيما قصر فيه، وإلى أمد قاصد نكمل عنه الحديث متناولين جزءاً آخر من تاريخه الأدبي.
عبد العظيم علي قناوي