مجلة الرسالة/العدد 230/للأدب والتاريخ
→ الإسلام والسيف! | مجلة الرسالة - العدد 230 للأدب والتاريخ [[مؤلف:|]] |
مقالات إسماعيلية ← |
بتاريخ: 29 - 11 - 1937 |
مصطفى صادق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 15 -
(هي رسائل الأحزان، لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت؛ ثم لأنها من لسان كان سلما يترجم عن قلب كان حربا؛ ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة وكان الحياة ماضيا إلى قبر. . .!)
(الرافعي)
رسائل الأحزان
خرج الرافعي عن مجلس صاحبته مغضباً، في نفسه ثورة تَؤجّ وفي أعراقه دم يفور، وفي رأسه مرجل يتلهب؛ وكتب إليها كتاب القطيعة وأرسل به ساعي البريد، ثم عاد إلى نفسه فما وجد فيما كتب شفاء لنفسه، ولا هدوءاً لفكره، ولا راحة في أعصابه؛ وأحس لأول مرة منذ كان الحب بينه وبين صاحبته أنه في حاجة إلى من يتحدث إليه؛ وافتقد أصحابه فما وجد منهم أحدا يبثه أحزانه ويفضي إليه بذات صدره ويطرح بين يديه أحماله. لقد شغله الحب عن أصحابه عاماً بحاله لا يلقاهم ولا يلقونه ولا يتحدث إليهم ولا يتحدثون؛ فلما عاد إليهم كان بينه وبينهم من البعد ما بين مشرق عامٍ ومغربه بلياليه وأصباحه وتاريخه وحوادثه. وثقلت عليه الوحدة وضاقت بها نفسه، ففزع إلى قلمه يشكو إليه ويستمع إلى شكاته، فكتب الرسالة الأولى من (رسائل الأحزان) إلى صديقه الذي خصه بسره. . . إلى نفسه. . .
كان ذلك في مساء 21 من يناير سنة 1924
وترادفت رسائله من بعد مسهبة ضافية يصف فيها من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته، في أسلوب فيه كبرياء المتكبر، ولوعة العاشق، ومرارة الثائر الموتور، و. . .
وذِلة المحب المفتون يستجدي فاتنته بعض العطف والرحمة والحنان
وانتهى من كتابة (رسائل الأحزان) في مساء 17 من فبراير سنة 1924
يخاطب الرافعي نفسه في (رسائل الأحزان) على أسلوب (التجريد)، فهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه، فتراه يوجِّه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول يستعينه على السلوان بالبث والشكوى؛ ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق نتفاً من الرسائل يدير عليها أسلوباً من الحديث في رسائله هو، وما هناك صديق ولا رسائل، إلا الرافعي ورسائله، يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله وما صار إليه
أو قل: إن الرافعي في هذه الرسائل جعل شيئاً مكان شيء، فأنشأ هذه الرسائل إلى صاحبته ثم نشرها كتاباً تقرؤه لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه، أو ما يظن أنها لم تكن تعلمه؛ فهي رسائله إليه على أسلوب من كبرياء الحب، تشفي ذات نفسه ولا تنال من كبريائه
وفي بعض حالات الحب حين تقف كبرياء العاشق بينه وبين ما يريد إعلانه، وتقف النفس وقفتها الأليمة بين نداء القلب وكبرياء الخُلق، يتمنى العاشق لو كان له ملءُ الفضاء ليهبه إلى من يحمل عنه رسالة إلى حبيبته من غير أن يعترف بأنه رسول. . .! وتكون أبلغ الرسائل عنده أن يكتب إلى حبيبته: (إنه يحبك) يعني: (أنا أحبك!) ويتحدث إليها عن نفسه بضمير الغائب وهو من مجلسها على مرأى ومسمع، ومن لفتات قلبها وقلبه على مشهد قريب. . .!
وبهذا الأسلوب تحدث الرافعي عن نفسه بضمير الغائب في رسائل الأحزان
(أنا. . .) هذا الضمير الذي لا يتحدث به متحدث إلا سمعتَ في نْبره معنى شموخ الأنف، وصَعَر الخد، وكبرياء الخُلق؛ لا يؤدي في لغة الحب إلا معنى من التذلل والشكوى والضراعة، فما تسمعه من العاشق المفتون إلا في معنى اليد الممدودة للاستجداء، وما تقرأ ترجمته في أبلغ عبارة وأرفع بيان وأكبر كبرياء إلا في معنى: (أنا محروم. . .!)
يا عجباً للحب! كل شيء فيه يحول عن حقيقته حتى ألفاظ اللغة وأساليب الكلام. . .!
وكذلك كان الرافعي يقول في رسائل الأحزان: (هو) ويعني: (أنا. . .) لأنه لا يريد أن يبتذل كبرياءه في لغة الحب. . .
إنني أحسب الرافعي لم يكتب رسائل الأحزان لتكون كتاباً يقرؤه الناس، ولكن لتقرأه هي، وهي كل حسْبه من القراء؛ فمن ذلك لم يجر فيها على نظام المؤلفين فيما يكتبون للقراء من قصة فيها اليوم والشهر والسنة، وفيها الزمان والمكان والحادثة؛ بل أرسلها خواطر مطلقة، لا يعنيه أن يقرأها قارئها فيجد فيها اللذة والمتاع أو يجد فيها الملل وحيرة الفكر وشرود الخاطر
ولم يكتبها - كما يزعم - رسائل أدبية عامة تتم بها العربية تمامها في فنٍّ من فنون الرسائل لم يُؤثْر مثلُه فيما نقل إلينا من تراث الكتاب العرب، ليحتذيه المتأدبون وينسجوا على منواله؛ بل هي رسائل خاصة تترجم عن شيء كان بين نفسين في قصة لم يذكرها في كتابه ولم ينشر من خبرها
وبذلك ظلت (رسائل الأحزان) عند أكثر قراء العربية شيئاً من البيان المصنوع تكلَّفَه كاتبُه ليحاول به أن يستحدث فنا في العربية لم يوفق إلى تجويده. على أنه كتاب فريد في العربية في أسلوبه ومعانيه وبيانه الرائع، ولكنه بقيةٌ قصةٍ لم تنشر معه، فجاء كما تأكل النار كتاباً من عيون الكتب فما تُبقى منه إلا على الهامش والتعليق وصُلْبُ الكتاب رماد في بقايا النار. . .
فمن شاء أن يقرأ رسائل الأحزان فليقرأ قصة غرام الرافعي قبل أن يقرأه، فسيجد فيه عندئذ شيئاً كان يفتقده فلا يجده، ولسوف يوقن يومئذ أن الرافعي أنشأ في العربية أدباً يستحق الخلود
قلت: إن الرافعي أنشأ رسائل الأحزان ليكون رسالة إليها هي، فهذا كان أول أمره فيما بينهما من الرسائل التي قلت عنها فيما سبق إنهما كان يتبادلانها على أعين القراء من غير أن يذيع السر أو ينكشف الضمير، ومن غير أن يسعى بينهما حامل البريد؛ ولقد ردّت صاحبته ردَّها على رسالته هذه برسالة مثلها بعثتْ بها إليه مع بائع الصحف والمجلات. . . ثم تتابعت رسائلهما من بعد على هذا الأسلوب العجيب
وسيأتي يوم يُدرس فيه أدب (فلانة) صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذ لوناً لذيذاً من البحث إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيداً أن يقرأ الأدباء يومئذ كتاباً جديداً بعنوان (رسائلها ورسائله) بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسةً مما نَشر ونشرتْ في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنة 1924 وسنة 1936 أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حَشْو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، واقِرنْ تاريخاً إلى تاريخ وسبباً بسبب، لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب. . .!
أراني لم أتحدث عن (رسائل الأحزان) كما يتحدث كاتب من الكتاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إليّ، وإنما قدمت وسائل القول لمن يريد أن يقول؛ وأحسب أن كلاماً سيقال عن رسائل الأحزان من بعدُ غيرَ ما كان يُقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين بك لن يكرر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهدَ الله على أنه لم يفهم منه حرفاً؛ وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي بك لن يقتصر على قوله فيه من قبل: (إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا. . .) لأنه سيجد مجالاً للقول في غير معانيه وبيانه
ولكن في رسائل الأحزان شيئاً غير ما قدمت من أشيائه، ذلك لأن الرافعي - رحمه الله - كان ولوعاً بأن يضيف إلى كل شيء شيئاً من عنده؛ وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب
سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب، كلاماً وشعراً لا يتساوق مع القصة التي رَويت. ألا إن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحياناً فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيراً جميلاً وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة؛ فإن رأى الباحث شيئاً من ذلك فلا يداخلْه الريب فيما أثبتّ من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها
وسيجد في بعض الرسائل حديثاً وشعراً عن لبنان وأيام لبنان؛ وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليعلم من يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جولان؛ وكان بعض من أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سَمية صاحبتنا هذه؛ وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في (أوراق الورد)، ومن أجلها أنشأ الرافعي كتابه (حديث القمر)، على أن عمر الحب لم يَطُل بينهما، إذ تزوجت وهاجرت مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك - وما تزال - فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذِكر أيامٍ هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة (حديث القمر) أقحمه في رسائله حرصاً عليه وبخلا به على الضياع
لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثاً في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب؛ على إن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألحّ عليه الحب أم زفرة مبغض يتلذّع بالبغض قلبه؛ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغت به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضاً يرد عليه كبرياءه وينتقم له؛ فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تقبله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنف وما بها إلا الترفق والحنان. . .!
وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبت إليه. . . وثارت ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر (السحاب الأحمر)
(شبرا)
محمد سعيد العريان