الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 23/الصهيونية

مجلة الرسالة/العدد 23/الصهيونية

بتاريخ: 11 - 12 - 1933


نشأتها وتطورها

2 - بعد عهد بلفور

للأستاذ محمد عبد الله عنان

أصدرت الحكومة البريطانية عهدها بإنشاء الوطن القومي اليهودي (عهد بلفور) في الثاني من نوفمبر سنة 1917 كما قدمنا، بينما كانت القوات البريطانية بقيادة لورد اللنبي في طريقها إلى بيت المقدس. وفي التاسع من ديسمبر استولى الإنكليز على بيت المقدس؛ وبدأت سيادة إنكلترا على فلسطين من ذلك التاريخ، وبدأ تنفيذ مشروع الوطن القومي اليهودي بصورة عملية. وتلا عهد بلفور صدور تصريحات ووقائع رسمية من مختلف دول الحلفاء بتأييد أماني الصهيونية، ومشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين

وفي مؤتمر سان ريمو سنة 1920 وزع (الانتداب) على بلاد الشرق الأدنى التي سلخت عن تركيا. فكانت فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب بريطانيا العظمى. وفي سبتمبر سنة 1922 صادق مجلس عصبة الأمم على صك الانتداب على فلسطين متضمنا في ديباجته المصادقة على عهد بلفور بإنشاء الوطن القومي اليهودي؛ ونص فيه على إنشاء هيئة يهودية ذات صفة رسمية يحق لها أن تسدي الرأي لحكومة فلسطين وتتعاون معها في جميع الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يتعلق بإنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح اليهود في فلسطين، وتتخذ بالاتفاق مع الحكومة البريطانية جميع الإجراءات اللازمة لتحقيق التعاون بين جميع اليهود الذين يريدون الإشتراك في إنشاء الوطن القومي اليهودي (المادة الرابعة). ونص على تسهيل الهجرة اليهودية واستعمار اليهود للأراضي (المادة الخامسة) كما نص على جعل اللغة العبرية لغة رسمية في فلسطين إلى جانب العربية والإنكليزية (المادة الثانية والعشرون) واستثنيت منطقة شرق الأردن وجعلت منطقة خاصة لا يطبق عليها شيء من النصوص المتعلقة بالوطن القومي اليهودي.

وفي سنة 1923 تنازلت تركيا في معاهدة لوزان عن كل حق على فلسطين وغيرها من الأراضي التي وضعت تحت الانتداب، واعترفت بالانتداب البريطاني على فلسطين، وتمت بذلك سلسلة الوثائق الدولية التي تؤيد السيادة البريطانية على فلسطين، وتؤيد إنشاء الوطن القومي اليهودي فيه.

ولنر الآن كيف عملت الصهيونية في فلسطين بعد أن مكنت من غزوها، وكيف نفذ مشروع الوطن القومي اليهودي، والى أين وصل وإلام ينتهي اليوم؟

كان برنامج مؤتمر بازل الذي أتينا على ذكره دستور الصهيونية عملت على تنفيذه في فلسطين عن طريقين: الأول الاستعمار الزراعي والاقتصادي، والثاني إحياء تراث اليهودية الروحي والفكري. والأول سلاح اليهودية المادي لغزو فلسطين والاستقرار بها. وقد بدأت بإعداده واستعماله منذ بعيد. فمنذ أواخر القرن الماضي أنشئت في فلسطين بعض المحلات والمستعمرات الزراعية اليهودية بسعي بعض الماليين اليهود. . . ومنذ سنة 1901 أنشئ (الاعتماد القومي اليهودي) في لندن ليجمع الأموال من اليهود في جميع أنحاء العالم. ومنذ عهد بلفور يسير الاستعمار اليهودي لفلسطين بخطوات سريعة. وتعتمد الصهيونية في ذلك على هيئتين ماليتين قوميتين الأولى (الاعتماد القومي اليهودي) المذكورة، ومهمتها شراء الأراضي الزراعية في فلسطين. والثاني (الكرن هيسود) ومهمتها أن تقدم الأموال اللازمة للمهاجرين لتسهيل الاستعمار والاستقرار والتربية وما يتعلق بها. وتطبيقا لعهد بلفور وصك الانتداب فتح الإنكليز أبواب فلسطين على مصاريعها للهجرة اليهودية، فوفد عليها اليهود آلافا مؤلفة من جميع أنحاء العالم، واشترى اليهود مساحات شاسعة من الأراضي في جميع أنحاء فلسطين، وأقيمت عليها المستعمرات اليهودية الزراعية والصناعية. وقامت (اللجنة التنفيذية الصهيونية) في بيت المقدس لتنظم الاستعمار اليهودي بمعاونة حكومة فلسطين تطبيقا للمادة الرابعة من صك الانتداب، واستأثرت لدى الحكومة بكل نفوذ، واستولى اليهود على معظم المناصب الهامة؛ وعلى الجملة استطاع اليهود في أعوام قليلة أن يستأثروا بأعظم قسط من مرافق فلسطين الجوهرية اقتصادية وغيرها

هذا، وقد بذلت الصهيونية جهودا عظيمة لأحياء تراث اليهودية الفكري والروحي، فأنشئت في ظاهر بيت المقدس منذ سنة 1925 جامعة عبرية كبيرة تعمل على إحياء هذا التراث؛ وأنشئت مكتبة يهودية عظيمة، كما أنشئت طائفة كبيرة من المدارس اليهودية في جميع أنحاء فلسطين، جعل التعليم بها باللغة العبرية؛ واتخذت العبرية إلى جانب العربية والإنكليزية لغة رسمية للتخاطب والمعاملات، وأنشئت عدة صحف يهودية عبرية، وبذلت على العموم مجهودات عظيمة لأحياء الثقافة والتقاليد اليهودية

وهكذا سارت الصهيونية في إنشاء الوطن القومي اليهودي بفلسطين بخطوات سريعة تسدد كل خطوة منها الملايين الطائلة، والسياسة الإنكليزية من ورائها تؤيد جهودها وتحمي مرافقها ومشروعاتها.

وقد بلغ الاحتشاد اليهودي في فلسطين مبلغا عظيما؛ فقبل عهد بلفور لم يكن عدد اليهود بفلسطين يزيد على بضعة آلاف معظمهم من اليهود المحليين، ولكن عددهم حسب إحصاء سنة 1922 بلغ 87، 794 من مجموع قدره 757 ألفا؛ وبلغ حسب إحصاء سنة 1929 - 149، 554 من مجموع قدره 794، 906 آلاف - ويبلغ اليوم حوالي مائتي ألف من مجموع قدره مليون نفس. وأعظم احتشاد يهودي في (مدينة) تل أفيف وهي مدينة يهودية محضة أنشئت على الطراز الأوربي، ويبلغ سكانها اليوم زهاء ستين ألفا. والهجرة اليهودية ما زالت تتدفق على فلسطين بنسبة مزعجة ولا سيما عقب حوادث ألمانيا الأخيرة، حيث اضطرمت خصومة السامية من جديد ولقي اليهود نوبة اضطهاد جديدة شاملة.

وقد يلوح مما تقدم أن الصهيونية قد أحرزت نجاحا لا شك فيه، وان الوطن القومي اليهودي يقوم اليوم في فلسطين على أسس ثابتة، وان حلم هرتسل في قيام دولة يهودية موحدة يسير نحو التحقيق. ذلك أن الصهيونية قد استطاعت من الوجهة الدولية أن تحصل على العهود والمواثيق اللازمة للاعتراف بالوطن القومي اليهودي كوحدة سياسية ذات وجود، وعلى الضمانات الكفيلة بتأييده وحمايته، واستطاعت من الوجهة المادية أن تقوم في فلسطين بطائفة كبيرة من الجهود المادية والإنشائية لإقامة هذا الوطن القومي طبق ما فصلنا. ولكن الحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الحركة الصهيونية تقوم من الوجهة التاريخية والدولية على أسس وبواعث فاسدة مضطربة، وجهودها في سبيل إنشاء الوطن القومي اليهودي تسيرها في الواقع عوامل مصطنعة. ثم هي بعد هذه الجهود كلها لا تستطيع أن تطمئن لمصيرها في فلسطين، ولا تستطيع أن تغفل إرادة العرب بعد أن تجلت هذه الإرادة أكثر من مرة قوية متقدمة بتحطيم هذا الصرح اليهودي المصطنع. ذلك أن الصهيونية الحديثة لم تكن مستقلة النشأة، وإنما كانت بالأخص نتيجة لخصومة السامية أو حركات الاضطهاد ضد اليهود في أوربا، وكانت وما زالت تتبع هذه الخصومة قوة وضعفا، فإذا اضطرمت خصومة السامية، اضطرمت الصهيونية بفورة مؤقتة من الحماسة، وإذا خبت فتر روح الصهيونية المعنوية. وفكرة الوطن القومي اليهودي تقوم من الوجهة التاريخية على أن أرض فلسطين كانت قبل ألفي عام وطن الشعب اليهودي ومهاد مجده، وإنها ما زالت برغم كر الأحقاب مثوى تراثه الروحي وذكرياته المقدسة. وهي فكرة ظاهرة الخطل والإغراق؛ ففلسطين عربية إسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ولم تعرف خلال هذه الآماد الطويلة من أثر اليهودية سوى ذكرى التاريخ؛ ولو كانت ذكرى التاريخ تصح سندا لاستعادة الأوطان الغابرة لما كان لشعب أن يبقى اليوم في الأرض التي يحتلها. واليهودية لا وطن لها منذ ألفي عام؛ وقد استقرت منذ الحقب أشتاتا في سائر أنحاء الأرض، وفقدت لغتها وكثيرا من خواصها ومميزاتها القومية؛ ولم تبق اليهودية جنسا موحدا، وإنما هي دين فقط. وقد كان مزجها بين فكرة الدين والجنس من أهم عوامل اضطهادها، لأنها برغم نزولها في مختلف الأوطان وتأثرها بمؤثرات الإقليم والوسط، تأبى إلا أن تعيش دائما في معزل، وتنكر دائما جنسيتها المكتسبة بتعاقب القرون، وتتخذ دائما من الدين جنسية مستقلة. وقد كان هذا الفهم الخاطئ لنظرية الجنسية موضع الإنكار والنقد من بعض مفكري اليهودية الممتازين مثل مندلزون ولسبخ، فقد رأوا أن تتخذ اليهودية أوطانها القومية حيثما حلت مع احتفاظها بتراثها الروحي.

هذا، ومن جهة أخرى فان الصهيونية لم تحسب حساب العرب؛ وقد رأت بالأدلة المادية أن التأييد المسلح الذي أخذته بريطانيا على نفسها لا يكفي لسلامة الوطن القومي اليهودي، وان إرادة العرب أصحاب البلاد يجب أن يحسب لها أكبر حساب. وقد ظهرت هذه الإرادة قوية مضطرمة في حوادث أغسطس سنة 1929؛ ثم ظهرت في حوادث فلسطين الأخيرة التي جاءت أقطع حجة على أن فلسطين العربية ما زالت تجيش بقوى معنوية لا تقدر. وهذه الانفجارات القومية القوية التي تضطرم بها فلسطين من وقت لآخر هي وثبات شعب يريد الذود عن حياته وكيانه. فقد رأينا كيف نزعت أراضي العرب من أيديهم، وكيف سلبوا كل مرافقهم ومصالحهم الجوهرية، وكيف فتحت بلادهم لتلقي سيل الهجرة اليهودية تنفيذا لعهد بلفور وصك الانتداب. وقد أقرت لجنة التحقيق البريطانية التي انتدبت على أثر حوادث سنة 1929 عدالة كثير من المظالم التي نزلت بالعرب، ولا سيما مسألة الأراضي ومسألة الهجرة اليهودية. ولكن السياسة البريطانية لم تغير شيئا من مسلكها، وما زالت تؤيد غزو الصهيونية لفلسطين بكل قواها. وقد وصل اقتناء اليهود لأراضي العرب في العهد الأخير ووصلت الهجرة اليهودية إلى حدود خطرة، وشعر العرب بالضغط عليهم وعلى مرافقهم يشتد إلى الغاية، فكان الانفجار الأخير؛ وكان أن أثبتت فلسطين مرة أخرى أنها ستقاوم هذا الغزو البربري المنظم بكل ما وسعت من قوة؛ وشعرت اليهودية مرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي إنما هو لعبة خطرة لا تزال تنقصها كل عناصر السلامة والطمأنينة؛ وكان لحوادث فلسطين الأخيرة وقع عميق في العالم العربي والإسلامي كله؛ فعرفت اليهودية مرة أخرى أن فلسطين لا تقف وحيدة في ميدان النضال، وان من ورائها الأمم العربية والإسلامية كلها تشد أزرها بجميع قواها المعنوية؛ وعرفت اليهودية مرة أخرى أن الوطن القومي اليهودي لا يقوم في قلب فلسطين فقط، وإنما يقوم في قلب العالم العربي والإسلامي كله على بركان من الخصومة المشتركة، وان عليها إذا أرادت البقاء في فلسطين أن تتأهب لمنازلة العالم العربي والإسلامي كله.