مجلة الرسالة/العدد 229/على ذكر الموسوعة الإيطالية
→ بين القاهرة واستنبول | مجلة الرسالة - العدد 229 على ذكر الموسوعة الإيطالية [[مؤلف:|]] |
في الإسلام ضمان للعرش والديمقراطية ← |
بتاريخ: 22 - 11 - 1937 |
قصة الموسوعة الجامعة
وكيف عرفتها الآداب العربية في العصور الوسطى
للأستاذ محمد عبد الله عنان
سجل العلم الحديث فتحاً جديداً خطير الشأن بصدور الموسوعة الإيطالية (دائرة المعارف) التي بدأ صدورها منذ أعوام ثلاثة فقط، وصدر المجلد الأخير منها (وهو المجلد السادس والثلاثون) منذ أسابيع قلائل. وإذا كنا ممن لا يؤمنون بمزايا النظام الفاشستي، فإنه لا يسعنا إلا أن نحيي ذلك المجهود العظيم الذي حققه العلم الإيطالي في تلك الفترة الوجيزة، والذي يعتبر بحق مفخرة للعهد الفاشستي، خصوصاً وأن الموسوعة الجديدة جاءت حسبما يقرر النقدة مجهوداً علمياً خالصاً بعيداً عن شوائب الدعاية والأهواء
ولهذه الموسوعات العظيمة التي تحشد فيها سائر العلوم والفنون والآداب تاريخ حافل يرجع إلى أقدم العصور؛ وإذا كانت تغدو اليوم مورداً سهلا لكل طالب وقارئ بما انتهت إليه من سهولة في الترتيب والتصنيف، فإنها لم تصل إلى نظامها الحالي إلا بعد أن تقلبت في أطوار عديدة، واشترك في تنظيمها كثير من الأذهان في مختلف العصور والأمم؛ وكان لتفكيرنا العربي، حسبما نرى، نصيب يذكر في هذا الميدان
وأصل الكلمة أي كلمة (انسيكلوبيديا) التي تطلق اليوم في جميع اللغات الحية على جميع الموسوعات العلمية والأدبية يوناني، وأصل الفكرة ذاتها يوناني أيضاً؛ وكانت تعني في اليونانية القديمة مجموعة المعارف التي يجب أن يتزود بها الفتى لاستقبال الحياة العملية؛ ثم استعملها الرومان وأضحت بمضي الزمن تطلق على جميع العلوم مجتمعة في سفر واحد. وأقدم مجموعة من هذا النوع انتهت إلينا هو مؤلف بلني الكبير في التاريخ الطبيعي الذي يرجع إلى القرن الأول من الميلاد، وهو مؤلف شامل يتناول كل ما كان معروفاً في ذلك العصر من الطب والجغرافيا والتاريخ الطبيعي وغيرها من الفنون
ووضعت خلال العصور الوسطى باللاتينية عدة مصنفات شاملة من هذا النوع، وكان واضعوها بالأخص جماعة من رجال الدين الذين توفروا في تلك العصور على ج أشتات العلوم والفنون، بيد أن هذه المصنفات القديمة كان ينقصها روح التناسق والترتيب العلمي، ولم تظهر فكرة الموسوعة (الانسيكلوبيديا) بمعناها الحديث إلا منذ القرن السادس عشر. ولم تظهر طلائع الموسوعات الحديثة بترتيبها الفني أو الأبجدي إلا في القرن السابع عشر كما سنرى
وهنا، وقبل أن نمضي في استعراض تاريخ الموسوعة الحديثة يجدر بنا أن نشير إلى الدور الذي أداه التفكير العربي في هذا الميدان؛ فقد عرفت الآداب العربية فكرة الموسوعة بمعناها الشامل، وحققت في هذا الباب جهوداً خليقة بالإعجاب والتقدير. ومنذ القرن الثالث الهجري يبدو أثر هذا الميل إلى التصنيف الشامل واضحاً في كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر واضحاً كثير من الآثار العربية، ونستطيع أن نلمس هذا الأثر في كتب مثل عيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني لأبي الفرج، وهي مصنفات يطبعها طابع الموسوعة فيما تتناول من مختلف الموضوعات والأخبار. كذلك نجد روح الموسوعة ظاهراً في كثير من المصنفات التاريخية العربية؛ فكتاب الكامل لابن الأثير مثلا يعتبر بحق موسوعة تاريخية شاملة تجمع بين مزايا التعميم والترتيب المدهش، وكتاب الوفيات لابن خلكان بلا ريب من أقيم موسوعات التراجم. ومما يلاحظ أن الموسوعة الأوربية الحديثة بدأت كما سنرى بهذا النوع من المصنفات والمعاجم التاريخية الشاملة
على أن الآداب العربية عرفت في مصر نوعاً أتم من الموسوعة الكبيرة الشاملة؛ ونستطيع أن نقول إن القرن الرابع عشر في مصر كان عصر الموسوعات؛ ففيه أخرج شهاب الدين النويري المتوفى سنة 733هـ (1333م) موسوعته الضخمة (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وأخرج ابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ (1348م) موسوعته الجغرافية والتاريخية العظيمة (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)؛ وفي أواخر هذا القرن وضع القلقشندي المتوفى سنة 821هـ (1418م) موسوعته السياسية والإدارية الضخمة (صبح الأعشى)، وفي هذه الآثار النفيسة الشاملة نرى طابع الموسوعة وروحها بارزين لا من حيث الضخامة وسعة الأفق فقط، بل ومن الناحية العلمية والفنية أيضاً؛ فكتاب نهاية الأرب الذي يشغل نحو أربعين مجلداً ضخما هو موسوعة تاريخية وجغرافية وأدبية وعلمية وفنية، يأخذ في كل من هذه النواحي بنصيب وافر؛ وكتاب (مسالك الأبصار) الذي يبلغ نحو عشرين مجلداً، هو موسوعة جغرافية وتاريخية حقة، لا يقل من الناحية العلمية والفنية عن كثير من الموسوعات الأوربية المماثلة التي صدرت في القرن السابع عشر؛ وكتاب (صبح الأعشى) الذي أصدرته دار الكتب المصرية في أربعة عشر مجلداً ضخما، هو موسوعة فذة في نوعها وقيمتها فهو (دار محفوظات) بأسرها جمعت فيه معلومات ووثائق إنشائية وإدارية وسياسية عن الدول المصرية لم تجتمع في أي مؤلف آخر
هذه الآثار العربية التي نذكرها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، تدل دلالة واضحة على أن فكرة التصنيف الجامع أو بعبارة أخرى فكرة الموسوعة الشاملة، عرفت في الآداب العربية وبلغت فيها شأناً يذكر؛ بيد أن هذه المحاولة العلمية الجليلة وقفت مع الأسف في منتصف الطريق وحالت دون تقدمها عصور محزنة من الركود والانحلال توالت على التفكير العربي
ونعود الآن إلى الموسوعة الأوربية، فنقول إن طلائع الموسوعات الحديثة ظهرت منذ القرن السابع عشر، وكان ظهورها بالأخص في فرنسا، حيث صدر في سنة 1674 معجم موِريري التاريخي المسمى (القاموس التاريخي الكبير) مرتباً ترتيباً أبجدياً؛ وصدرت في سنة 1697 موسوعة بايل التاريخية المسماة (القاموس التاريخي النقدي) مرتباً على الحروف أيضاً؛ وظهرت أيضاً في أواخر هذا القرن موسوعة دربلو الشرقية المسماة (المكتبة الشرقية)؛ ثم تطور نظام الموسوعة بسرعة، فاتجهت إلى التوسع والترتيب الفني والأبجدي، وأخذت تغدو شيئاً فشيئاً مرجعاً شاملا لأشتات العلوم والفنون، وتشعبت مناحيها شيئاً فشيئاً حتى غدت مشروعاً علمياً جامعاً، بعد أن كانت مجهوداً فردياً فقط، وساهمت في إخراجها جميع الآداب الحية بأوفر نصيب
ففي إنكلترا بدأت الموسوعة الحديثة بقاموس وضعه القس جون هاريس في أوائل القرن الثامن عشر عن العلوم والفنون ثم تبعه تشامبرز بموسوعته ويعتبر تشامبرز أبا الموسوعة الإنكليزية. وفي سنة 1768، وضع ثلاثة من أهل ادنبورج، وهم وليم سميلي الطابع، واندروبل المصور الحفار، وكولن مكفر كوهار، وهو صاحب مطبعة، مشروعاً لإصدار موسوعة جامعة للعلوم والفنون والآداب، ظهرت في ثلاثة مجلدات في سنة 1771؛ وكانت هذه الموسوعة المتواضعة هي الطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية التي هي اليوم أمثل وأنفس الموسوعات الحديثة. وظهرت الطبعة الثانية بين سنتي 1777 و 1784 في عشرة مجلدات؛ وتوالى صدور طبعاتها الجديدة حتى صدر منها إلى اليوم خمس عشرة طبعة متدرجة في الضخامة والإتقان؛ وصدرت طبعتها الأخيرة والخامسة عشرة في سنة 1934، في اثنين وثلاثين مجلداً ضخما غير الفهارس والأطالس؛ والرأي مجتمع على أن الموسوعة البريطانية هي خير موسوعة في العالم من حيث مادتها ونظامها وروحها العلمي الخالص
وفي فرنسا، بعد أن ظهرت المعاجم والموسوعات التاريخية التي أشرنا إليها، وضع المفكر الفيلسوف ديدرو وعدة من زملائه الأعلام مثل دالامبر وهولباك وجريم موسوعتهم الشهيرة التي ظهرت بين سنتي 1751 و 1772 في ثمانية وعشرين مجلداً على نمط موسوعة تشامبرز الإنكليزية؛ وكانت هذه الموسوعة التي امتازت بنزعتها الفلسفية المجددة، وبالثورة على القديم في كل شيء فتحاً عظيماً في التفكير الفرنسي، وكان لها أكبر الأثر في توجيه الذهن الفرنسي إلى الأفكار والمبادئ الجديدة التي سادت عصر الثورة الفرنسية فيما بعد. وظهرت في القرن التاسع عشر موسوعات لاروس الشهيرة، ومنها القاموس الكبير الذي يعتبر فوق مزاياه اللغوية دائرة معارف شاسعة، وظهرت منها إلى يومنا عدة طبعات مختلفة؛ وفي أواخر القرن الماضي صدرت الموسوعة الفرنسية الكبرى بين سنتي 1886، 1903 في إحدى وثلاثين مجلداً، بيد أنها بقيت على طبعتها الأولى حتى اليوم، وتخلفت بذلك عن مضمار التجديد والاستكمال
وظهرت في القرن التاسع عشر عدة موسوعات عظيمة أخرى فظهرت الموسوعة الإيطالية لأول مرة بين سنتي 1841 و 1851 في أربعة عشر مجلداً، ثم ظهرت في أواخر القرن الماضي في خمسة وعشرين مجلداً، وظهرت أخيراً بعناية الحكومة الفاشستية في ستة وثلاثين مجلداً، صدر الأخير منذ أسابيع قلائل حسبما قدمنا فجاءت بذلك أحدث الموسوعات الأوربية وأتمها من الوجهة الفنية. وصدرت الموسوعة الألمانية في مائة وسبعة وستين مجلداً تحت عنوان (الموسوعة العامة للعلوم والفنون)، وبدأها الأستاذان أرش وجروبر سنة 1813 واستمر صدورها طوال القرن التاسع عشر ولم تكمل إلا في سنة 1905، ولم يعد طبعها إلى اليوم. وصدرت الموسوعة الروسية حتى سنة 1905 في واحد وأربعين مجلداً، وظهرت طبعتها الثانية في ظل الحكم السوفيتي
ويوجد غير هذه الموسوعات العامة الجامعة موسوعات أخرى في نواح معينة من العلوم أو الفنون، مثل الموسوعة اليهودية موسوعة الدين والأخلاق موسوعة العلوم المتافيزيقية، وغيرها؛ ولهذه الموسوعات قيمة علمية خاصة لأنها تجمع أشتات العلم أو الفن الواحد ومراجعه كلها مرتبة أبدع ترتيب
هذه خلاصة لتاريخ الموسوعة الجامعة (الانسيكلوبيديا) وتطوراتها، نسوقها لمناسبة صدور المجلد الأخير من الموسوعة الإيطالية الجديدة؛ بيد أننا ننتهز فرصة هذه المناسبة لنلفت الأنظار إلى أمنية قديمة كثيراً ما رددتها دوائر الأدب العربي في الأعوام الأخيرة، وهي أن تعمل دوائرنا العلمية والأدبية المسؤولة لإخراج موسوعة عربية جامعة على طراز الموسوعات الحديثة؛ وقد بذلت في العصر الأخير جهود فردية في سوريا وفي مصر لإخراج موسوعة عربية، ولكن هذه الجهود لم تكن ذات قيمة علمية أو أدبية تذكر، خصوصاً وأنها بذلت في وقت لم تكن الآداب العربية قد بلغت فيه من النضج والكفاية الفنية ما تبلغه اليوم. ولم تبق الموسوعة اليوم عملا فردياً كما كانت في الماضي، ولكنها اليوم تنتظم في سلك المشاريع العلمية الجليلة التي تشرف على تنفيذها الدولة أو الهيئات العلمية القوية. ولدينا اليوم في مصر، فضلاً عن وزارة المعارف العمومية، عدة من الهيئات العلمية القوية الرسمية وغير الرسمية؛ ففي وسعها جميعاً أن تتعاون في بحث مشروع الموسوعة العربية، وفي العمل على تنظيمه وإخراجه. ومن المحقق أن مثل هذا المشروع الجليل يلقى من التأييد والنجاح في مصر وفي جميع البلاد العربية، ما لقيه حتى اليوم في جميع الأمم المتمدنة والآداب الحية.
محمد عبد الله عنان