مجلة الرسالة/العدد 229/ثورة على الأخلاق!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 229 ثورة على الأخلاق! [[مؤلف:|]] |
بين القاهرة واستنبول ← |
بتاريخ: 22 - 11 - 1937 |
هل الصلاح غير النجاح؟
- ما رأيتك يا محمود على هذه الحال منذ عرفتك! أين السماحة التي تفترُّ في ثغرك، والغبطة التي تشرق في صدرك، والرضا الذي كان يجعل من حياتك نموذجاً لعلماء الدين وجهابذة العلم وفلاسفة الخلق؟
- ماذا أصنع يا صديقي والناس أصبحوا يشككونني في مزايا الأخلاق وقِيَم الفضائل؟ كنت أضطرب في دائرة ضيقة من العيش فيها كل ما في الدنيا الواسعة من لذة الروح بالأهل، وسرور القلب بالإخوان، ومتاع العقل بالكتب، ونشاط الجسم بالعمل؛ وليس فيها البُحران الذي يحدث من حمَّى الهموم، ولا الجحيم الذي يشبُّ من تحاسد الخصوم، ولا اللجب الذي ينشأ من تنافس المجتمع؛ وكنت وأنا في هذا العالم الصغير المحدود أعتقد أن القواعد التي سنها الأخلاقيون لتهذيب الإنسان من الخلال المضادة لغريزته، قد استطاعت على مر القرون أن تخفت في دمه صوت الحيوان، وأن تلائم بين موهوب الطبع وبين مكسوب العادة من تناقض الرأي وتعارض الهوى، وأن تجعل من سلطانها الغالب دستوراً لحياة الناس، فيكون بها مقياس السؤدد، وفيها سبب الرقي، ومنها وسيلة النجاح. نعم يا صديقي كنت أعتقد ذلك وأستبعد أن يكون للمدنية معنى غير الثقافة، وللثقافة مدلول غير الكفاية، وللكفاية نتيجة غير الفوز، حتى ألجأتني طبيعة عملي العامِّ إلى توسيع هذه الدائرة، فوسعتها بمقدار ما استلزمه هذا العمل من ملابسة الشعب ومراجعة الحكومة، فإذا كل ما قرأته زور، وما تخيلته وهم، وما اعتقدته باطل. ماشيت العامة على منهج الدين فلقيت الكفر، وعاملت الخاصة على هوى الخلق فوجدت النفور، وعالجت الأمور على مقتضى القانون فأدركت الخيبة؛ فذهبت أفتش في الناس عن أسباب الفوز فلم أجد من بينها سبباً يمت إلى الفضيلة أو يتصل بالكفاية. هذا الباشا فلان يملك القرى بإنسانها وحيوانها وأطيانها، وله المقعد المرفوع في البرلمان، والصوت المسموع في الحكومة، والأمر النافذ في البنوك، وهو رجل لا يزال على الفطرة الأولى من الوحشية والعنجهية والجهالة. وهذا البك فلان تشغل عمائره الخلاء والهواء من المدينة، وله على أغلب الأسر دَين، وعلى أكثر البيوت اختصاص؛ ولو سألت جيرانه الأولين عن مصدر هذا الثراء الضخم لأجابوك بلهج المحنَق الموتور بأنه الربا الذي لا يحفل القانون، والغش الذي لا يبالي الفضيحة، والاختلاس الذي لا يخشى الله، والبخل الذي لا يذكر الموت. وهذا الموظف فلان يملك القصر المنيف في أجمل بقعة، والسيارة الفخمة من أعلى طراز، والمرتب الضخم من أول درجة، وله الوصل والقطع في أمور الناس، والمنح والمنع في أموال الدولة. فهل بلغ ما بلغ بعلمه؟ إنه لا يحمل غير الشهادة الثانوية. هل نال ما نال بكفايته؟ إنه لا يحسن غير الإمضاء في الموضع الذي يضع عليه الكاتب الصغير إصبعه من الورقة. إذن لم يدرك الرجل ما أدرك إلا بفضل المرونة التي تكون فيمن خلقوا من المطاط لا من الطين، فرأسه ذو وجهين، ولسانه ذو شقين، وضميره ذو بالين، وشرفه ذو رأيين؛ يداري ويجاري، وينافق ويمالق، ويهان فيغضي، ويستباح فيبيح؛ وهو متفرق الأحاسيس فلا تجتمع له عاطفة، متنافر المنازع فلا ينسجم له رأي، معوج المسالك فلا يستقيم له مذهب
وهذا الأستاذ فلان يأكل في صحاف الذهب والفضة كالنابغة، ويخطر في مطارف النعيم والجاه كابن العميد، ويملك للناس الضر والنفع كابن عبد الملك! فلعله أصاب ما أصاب من وراء علمه وخلقه. ليت ذلك كان فتشذ القاعدة ويخطئ القياس، ولكن الأستاذ نجح وا أسفاه لأنه باع العلم بالسياسة، واشترى الدنيا بالدين، واضطرب في مهب الأعاصير حتى رفعه أحدها على متْنه، ثم استقر على المنحدر الشاهق استقرار الريشة القلقة!
ثم رجعتْ أبحث عن أسباب الفشل فوجدتها لا تخرج عن حدود الفضائل التي تعشقها ابن آدم منذ أدرك! فالعلم والصدق والصراحة والشجاعة والقناعة والأمانة والنزاهة والأنفة والحلم والتواضع والجود، كل أولئك عوائق عن درْك الغنى ونيل الجاه وكسب الشهرة. وأقوى البراهين على إقناعك أن تستقريَ أحوال المصابين بهذه الخلال فهل تجدهم إلا أواخر الموظفين في الديوان، وأخسر المتعاملين في السوق، وأضعف المتنافسين في المجتمع؟
لقد تدبرت الأمر فوجدت الفضائل لا تنتصر إلا في الروايات والقصص؛ أما التاريخ الذي يسجل الواقع ويروي الحق فهو دامي الصفحات بأخبار الأنبياء والعلماء والفضلاء والمصلحين الذين أوذوا في سبيل الدين، وقتلوا في خدمة العلم، ونكبوا في مرضاة الحق، وشقوا في حب الفضيلة. فهل تقول بعد ذلك إن الأخلاق الفاضلة لا تزال عدة النجاح وطريق السعادة؟
فقلت له: أما أنها طريق السعادة فنَعامِ ونَعَم. وأما أنها عدة النجاح فلا أجد في نفسي الآن قوة على تأييده؛ لأن لي في بعض المصالح مسألة لم يفسدها إلا رعايتي للخُلق، وفي بعض الوزارات مسألة أخرى لم يعقدها إلا محافظتي على القانون. فليس لك عليّ إلا أن أعرض رأيك على رجال الدين وحماة القانون ودعاة الأخلاق، ليردوا عليك ما كذب من قولك، أو يردوا إليك ما عزب من عقلك.
أحمد حسَن الزيات