مجلة الرسالة/العدد 228/قصة واقعة
→ كلمة موجزة | مجلة الرسالة - العدد 228 قصة واقعة [[مؤلف:|]] |
التشريع والقضاء ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1937 |
للأستاذ على الطنطاوي
(أغارت سيول هائلة ليلتي 24 - 25 أكتوبر على حارستا والمعظمية والضمير من أكبر قرى دمشق الشمالية، فخربتها ولم تدع في الضمير حجراً على حجر، وقتلت الناس بالمئات وتركت من تركت بلا مأوى ولا مال. . .)
كانت (منطرة) (سعد الخطار) أعلى منطرة في (دوما)، وكانت تطل على كروم دوما الواسعة والسهول التي تليها ممتدة إلى ثنيّة العقاب التي انحدر منها خالد مَقْدَمه من العراق في طريقه إلى اليرموك ساحة الشرف الخالد، وتشرف من هناك على جنان الغوطة تلوح من ورائها دمشق جنة الأرض أقدم مدن العالم، يرى خيالها حيال الأفق بمآذنها التي لا يحصيها عدّ، ومسجدها العظيم تتوّج هامته قبة النسر الباذخة المشمخرة، والمنائر السامقة العالية، ويرى منها قاسيون الحبيب، وهاتيك الجبال. . . وكان سعد الخطار سيد شباب الضمير، وأشدهم أسراً، وأجرأهم جناناً، وأقواهم ساعداً. اشتغل منذ عشر سنين ناطوراً في كروم دوما، فعرف فيها بالشدة والبأس، فتجنب الناس كرْمه وابتعد عنه اللصوص والطرّاء. وكان يجول المساء في أنحاء الكرم أو ينزل إلى البلد، وخيزرانه في يده، فيجتمع النساء في طريقه ينظرن بإعجاب إلى قامته المديدة، وصدره الواسع، وأكتافه العريضة، وشاربيه الأسودين المعقوفين؛ ولكن سعداً كان مع هذه الشدة وهذا البطش رقيق العاطفة، مرهف الحس، يحمل بين جوانحه قلب شاعر شاعر. . .
كان عصر اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 1937 وكانت السماء متلبدة بالغيوم، والأمطار ترش رشاً خفيفاً، والدنيا مظلمة ترى كأنها في ساعة الغروب، وكان سعد في منطرته ينظر إلى الكرم الواسع الذي حرسه الصيف كله، وكان موقَرا بالثمر تبدو عناقيده الحمر والبيض من خلال الورق الأخضر كأنها عقود اللؤلؤ والياقوت، يمتد إلى حيث لا يدرك البصر حافلا بالحياة، فرآه قد اصفرت أوراقه وعطل من الثمر وعاجله الخريف فذوت أوراقه واسّاقطت تطير مع الريح؛ ورأى أشجار المشمش التي كان يبصرها دائماً عن يمين الكرم خضراء زاهية، قد تجردت ولم يبق عليها إلا أوراق صفراء جافة؛ ثم هبت رياح باردة من رياح الخريف فلفحت وجه سعد، وحملت هذه الأوراق الذاوية فألقته في منطرته فكان يسمع لوقعها تحت المطر صوتاً حزيناً مؤلماً، فشعر سعد بالأسى يملأ قلبه. . . سيضطر غداً إلى فراق هذه المنطرة الحبيبة، وهذا الكرم الذي ثابر على حراسته عشر سنين وتعلقت حياته به، وانتثر قلبه في أرجائه، فأصبح جزءاً من حياته وقطعة من نفسه، لا غنى له عنه، ولا حياة له بدونه. . . لقد ملأوا أمس آخر صندوق (سحارة) من العنب جمعوه من بقايا العناقيد ولم يبق في الكرم ما يحرسه، فشعر كأنه يفارق ولداً عزيزاً عليه، قد رباه وتعهده بالعناية ثم فقده. . . أو لم يرافق الكرم وهو لا يزال حصرما؟ أو لم يتعهده حتى نضج وأينع؟ أو لم يشاهد التجار كل مساء وهم يأتون ومعهم العمال بالعشرات يملأون صناديق (سحاحير) العنب، وهم يغنون ويصيحون ويترعون الفضاء أنساً؟ كم بين هذا المشهد وبين مشهدهم أمس وهم يملأون آخر (سحارة) صامتين تلوح على وجوههم إمارات الحزن والكآبة؟ لم يستطع سعد أن يراهم على هذه الحال فانسل إلى منطرته ووضع رأسه بين يديه يفكر حزيناً ملتاعاً. . .
جلس سعد يتأمل هذا المشهد ذاهلاً غائباً عن نفسه والمطر يشتد ويقوى، والماء ينفذ من سقف المنطرة، وكان سقفها من ورق الكرم الجاف، ويبلل رأسه وثيابه لا يحس به ولا يحفله لأنه ابن البر وصديق الطبيعة، ولأنه كان ذاهلاً عن نفسه لم يصح حتى أسدل الليل ثوبه الأسود على الدنيا فغيب تحته هذه المشاهد كلها. . . صحا سعد فنفض الماء عن شعره وثيابه، ونشر خيمته فوق رأسه لتمنع عنه المطر، وأوقد مصباحه الألماني الذي يظهر للسائرين في هذا المرقب العالي كأنه نجم من نجوم السماء. . . وجلس يفكر. . .
ذهب به الفكر إلى بعيد. فذكر حين جاء هذه المنطرة مع عمه وابنة عمه ليلى، وكان ذلك قبل أحد عشر عاماً. لقد كان في السادسة عشرة، وكانت هي في التاسعة من عمرها، وكان عمه ناطور الكرم يحرسه منذ ثلاثين سنة، وهو الذي بنى هذه المنطرة وأعاد بناءها أكثر من عشرين مرّة إذ كانت تهدمها الرياح والأمطار والسيول. لقد تصوّر عمه بقامته العالية وجسمه المتين وظهره الذي انحنى قليلا تحت أعباء الزمان، ولحيته البيضاء. . . لقد كان عمه قوياً شجاعاً وكان سعد يعجب به كثيراً كما كان يحب ابنته ليلى. . . أحبها منذ كانت طفلة ولكنه لم يكن يعرف أنه يحبها، ولم تكن كلمة الحب دائرة على ألسنة القرويين، بل كان من العار على الشاب أن يذكرها لفتاة. . . لم يكن يعرف أنه يحبها ولكنه لم يكن يستطيع أن يبتعد عنها أو أن يمرّ عليه يوم لا يراها فيه؛ وإذا هو لقيها وذهب معها يلعب أو يرعى العنزات أو يسوق البقرة إلى المزرعة أو يملأ الجزّة من العين، إذا كان معها ينسى الدنيا كلّها ولا يفكر في شيء. . .
ذكر حين جاء هذه المنطرة أول مرة مع عمه وابنة عمه ليلى وحين تركه عمه مع ليلى لينزل إلى دمشق، وأوصاه بأن يعتني بها، ويحرس الكرم. . .
- لقد صرت شاباً يا سعد. كن عاقلا وشجاعاً. لا تدع ليلى تنزل في الليل من المنطرة. إذا رأيت وحشاً أو سارقاً فأطلق عليه النار. لا تخف من شيء. . . هذه هي البندقية. . .
وذهب عمه، وهو يتبعه بصره. فلما غاب عن عينيه أحس سعد بأنه غدا منذ تلك اللحظة رجلا، وأنه هو حامي ليلى، وحارس الكرم، وأنه يستطيع أن يطلق النار من البندقية كما كان يفعل عمه تماماً، وتمنى من كل قلبه أن يرى وحشاً أو لصاً ليري ليلى شجاعته ورجولته، ولكنه لم ير شيئاً.
ذكر كيف قضى الليل مع ليلى، وكانت ليلة قمراء رخيّة النسيم لطيفة. فتحدثا وتبادلا النكات، وأحس بلذة لا تشبهها لذة، ولكنه لم يمسها بيده، ولم يذكر لها كلمة الحب لأن الشرف والأمانة كانت شعار الشباب في تلك الأيام، وليلى ابنة عمه وعرضه ائتمنه عمه عليها، والله شاهد عليه. . .
وقفز به الفكر إلى بلده الضمير، وقد كبرت ليلى وحجبت عنه فلم يعد يراها إلا على العين أو في الحقل؛ ولم يكن يمنعه الحجاب من رؤيتها لأنه حجاب شرعي يظهر الوجه والكفين ويستر كل شيء، لا كحجاب المدن الذي يستر الوجه بغشاء رقيق يزيده فتنة وجمالا ثم يكشف العنق والصدر والساق وما فوق الساق، ويظهر الكف والساعد. . . فكان يحدثها ويصحبها في الطريق؛ ولم يكن بينهما سوء، لأنها خطيبته المسماة عليه منذ كانا صغيرين. . . فهي له، ولم يجرؤ شاب في القرية على خطبتها احتراماً لسعد، وخوفاً من بطشه. . .
ومرت في ذهنه صورة العرس وحفلاته، ووفود القرى المجاورة والولائم العامة في الساحات والطرق، و (الدبكات) والأهازيج. . . مرت في ذهنه مراً سريعاً، فأبصرها حية قريبة كأنما كانت أمس، وقد كانت منذ سبع سنين لم ير فيها من زوجته ليلى إلا ما يعجبه يرضيه. ولم تغضبه مرة واحدة. كانت تحيا من أجله، تهيئ له الطعام وترتب الدار، وتنتظره حتى يجيء من عمله. فإذا جاء رآها قائمة وراء الباب منتظرة فقبلت يده، ثم أعانته في نزع ثيابه، وصبت على يديه الماء حتى يتوضأ ويغسل رأسه ووجهه بالصابون، ثم قدمت إليه الطعام، ولم تدخر وسعاً في تسليته وإيناسه. وإذا كان كئيباً أو مهموماً رفهت عنه وواسته. وأضاق مرة ولحقه الدائنون حتى هددوه بالسجن من أجل عشرين ليرة، فلم يشعر إلا وزوجته تقدمها إليه زاعمة أنها قد وفرتها من نفقات المنزل، فصدقها ووفى دينه؛ ثم علم بعد أنها باعت حليّها التي لا تملك غيرها. . .
كانت مثال الزوجة الشرقية المسلمة التي تعيش لبيتها وزوجها وتتخذه سيداً لها؛ وكان هو مثال الزوج الوفي الصالح الذي يشتغل ويحيا لزوجته وبيته، ليس له سهرة ولا خليلة ولا عادة من العادات السيئة التي تذهب الأموال وتشقي العيال. . .
ثم ذهب الفكر بسعد إلى ولده، ولده الوحيد يسار، فهاجه الشوق إليه، وبرّح به الحنين إلى بيته، وغلب على حبِّه لهذه الأرض وتعلقه بها. وكان الليل قد انتصف ولم يذق سعد مناماً فنهض ورفع طرف الخيمة فنظر فإذا السماء صافية قد انقشعت عنها الغيوم، وطلع القمر من وراء الأفق هلالاً ضعيفاً يلقي على الدنيا نوراً كابياً، فرأى الكرم أسود مظلماً فعاوده الحنين إليه والحزن على فراقه؛ وكانت منزلة الكرم من نفسه كمنزلة زوجته وولده، بل كانت هذه المنطرة أحب إليه من بيته. وجعل يتأمل الكرم فامتلأ قلبه أسى؛ وذكر ليلى ويساراً فأزمع الرحيل ولكنه اضطر إلى انتظار الفجر، ولبث صامتاً فغلب عليه النعاس فأغفى إغفاءة قصيرة ثم نهض مذعوراً يرتجف. لقد رأى حلماً مرعباً فتعوذ بالله وسأله أن يحرس زوجه وولده، ولم يطق البقاء فقام يجمع أمتعته - وما أمتعته إلا فراش ولحاف وبساط وخيمة وصندوق صغير فيه قدر وأطباق وإبريق للشاي - ويلقى على المنطرة النظرة الأخيرة كأنه يريد أن يثبت صورتها في نفسه، وأن يودع ما فيها من ذكريات لذة هي أعز ما يملك في حياته، ثم نزل إلى دابته والفجر يهم بالانبثاق. . .
راقه سكون الليل وجمال الفجر وهذه الكروم الواسعة التي استيقظت وتسربت إليها خيوط النور من ناحية الشرق فأضاءت صفحتها، فاشتد به الحنين إلى زوجته وولده، وشعر أن حبه لهما قد نما في هذه الساعة وازداد وطغى على نفسه، فجعل يتصور حركاتهما وسكناتهما، وكيف يخرجان لاستقباله، وكيف يتعلق به يسار فيرفعه إلى وجهه ويقبله؛ ورنت في أذنيه كلمة (بابا) حلوة مستحبة، وشعر بعالم من الحب والعطف والوئام يغمره، حتى أحس بنفسه يطير على متن الهواء في حلم فاتن لذيذ، فانطلق يغني شتى الأغاني القديمة وصوته العذب القوي يشق السكون ويوقظ الطبيعة، فتجاوبه الديكة من الكروم المجاورة بزقائها، والعصافير بسقسقتها الحلوة
أشرف على البلد ضحى، فتأمل الفضاء فلم يبصر شيئا، أين البلد؟ هل أخطأ الطريق؟ أم هو لا يزال بعيداً عن البلد؟ لقد نظر حوله وأنعم النظر فلم يشك أنه حيال البلد. لقد سلك هذا الطريق مئات المرات، ويستطيع أن يسلكه مغمض العينين، فكيف يخطئ أو يضل؟ لا شك أنه على صواب، وأنه قد وصل، ولكن أين البلد؟ وأحسّ سعد كأنه قد بدأ يجنّ. أتختفي بلد برمتها أيها الناس؟
ودنا حتى وصل البلد، فلم يجد إلا أكواماً من التراب مبتلة عليها آثار الماء، تتخللها برك مالها من آخر، وحجارة منثورة في البادية نثرا، فجن جنونه، وانطلق يصيح: ليلى! ليلى! يسار! يسار! ليلى. . . ويهم شارداً على وجهه، يدور بلا وعي، وإذا بشيخ مسنّ من حكماء القرية يهتف به ثم يأخذه من يده، فيتبعه سعد صاغراً، حتى يجلسا على كومة من هذه الأكوام. . .
- هذه حال الدنيا يا بني. . . إن لله حكمة لا يعلمها أحد، فلنصبر ولنرض بالواقع، الحمد لله على كل حال. . .
- ولكن ماذا جرى يا عم؟ أين ليلى، أين ابني يسار؟
- هذا قضاء الله يا بني. لقد كنت نائماً ليلة أمس فسمعت ضجة في الطريق ولغطاً، فخرجت فإذا الناس مجتمعون، وعلى وجوههم إمارات الذعر الشديد، وهم يصغون في خوف شديد ورعب بيّن، إلى صوت عجيب آت من بعيد، فأصغيت فإذا صوت عميق مستمر لا ينقطع، فجزعنا ولم ندر ما هو؟ فقائل إنها ريح، ولكنه ليس بصوت ريح، وقائل هو من أصوات الجن، وقائل إنه رعد، وما هو كذلك، فوقفنا وتهيأنا للنضال، وحملنا السلاح، وكان الصوت مستمراً ولكنه جعل يقوى. . . ويقترب حتى تبينا فيه هدير الماء. . . إنه السيل! السيل! وطارت هذه الكلمة على الأفواه، فأسرع قوم إلى بيوت القرية العالية، يحسبونه سيلاً كالذي عرفوا من السيل، لا يبلغ هذه البيوت؛ وخاف قوم فأسرعوا إلى الجبل، وقد أعجلهم الخوف فلم يأخذوا معهم غطاء ولا وطاء، وكنت ممنّ أم الجبل
- وليلى؟ وليلى ويسار؟
- لقد بقوا في البلد. . . اسمع يا بني، إنها لم تكن إلا ربع ساعة حتى بدا الهول، نعوذ بالله. . . لقد أقبل سيل علوّه أكثر من أربعين مترا، يتكسر ويقذف بالصخور والحجارة والأشجار فغمر أعلى بيت في المدينة، واختلط هديره العاتي بصراخ النساء وصياح الأطفال وأصوات الشباب. . .
- وليلى ويسار؟
وانحنى سعد على قدمي الشيخ يقبلهما بجنون ويصرخ:
- وليلى ويسار؟ أرجوك يا عم خبرني عن ليلى ويسار؟
قال الشيخ:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. . . لقد أصبح الصباح وليس في المدينة حجر على حجر، ولم يبق ممن كان فيها أحد. لقد وجدت الجثث طافية على وجه البرك وغارقة في الوحل ومطمورة بالأنقاض، وجثث حملها معه السيل إلى بحيرة العتيبة، ولم ينج إلا من كان على الجبل، بقى بلا مأوى ولا مال. . .
- وليلى ويسار؟ وليلى ويسار؟
ووثب سعد هائماً على وجهه يصرخ وينادي:
لقد جنّ (سعد الخطار) حزناً على ليلى ويسار!
(بيروت)
علي الطنطاوي