مجلة الرسالة/العدد 228/الفلسفة الشرقية
→ مقالات إسماعيلية | مجلة الرسالة - العدد 228 الفلسفة الشرقية [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 15 - 11 - 1937 |
بحوث تحليلية
للدكتور محمد غلاب
أستاذ الفلسفة بكلية أصول الدين
- 28 -
الفلسفة الصينية
العصر المنهجي - كونفيشيوس
مذهبه
صدر (كونفيشيوس) في فلسفة النظرية عن نفس النقطة التي صدرت عنها فلسفة عصر ما قبل التاريخ، وفلسفة (لاهو - تسيه)، والتي أشرنا إليها في حينها، وهي نقطة القول بوحدة الوجود التي تفرع عنها نشوء كائن سلبي أو يتأثر عن الكائن الإيجابي المؤثر، ومن اجتماع قولي هذين الكائنين نشأت المادة، وبتأثير النفس على هذه المادة وجدت الكائنات الحية التي بين السماء والأرض
غير أن (كونفيشيوس) تعمق في هذه النقطة وصيرها فلسفية جديرة بالدراسة والتمحيص، إذ أضاف إليها أن جميع جزئيات الطبيعة مشتملة على الانسجام التام الذي هو سر جمالها وتقدمها وصلاحيتها للوجود، وأن هذا الانسجام ليس موجوداً في هذه الكائنات بطريق المصادفة، بل هو تنفيذ لإرادة إلهية مرسومة خطتها في منهج السماء، وأن هذا الانسجام محكم الوضع في جزئيات الطبيعة إلى حد أنه يظهر (ديناميكيا) وأنه هو العلة في تطور الكائنات المادية والظواهر الطبيعية، ولكن كيف ولماذا كان هذا الانسجام علة لذلك التطور؟ لم يجب (كونفيشيوس) على هذا السؤال مطلقاً، لأنه عد البحث فيه فوق طاقة العقل البشري، فوافق في هذه الناحية (لاهو - تسيه) الذي أسلفنا أنه صرح هذا التصريح أيضاً وإن كان لم يكن قد وصل إلى كشف سر هذا الانسجام وأثره العظيم اللذين وفق (كونفيشيوس) إلى كشفهم على أن المشاهد لدينا هو أن كثيراً من الكائنات تتحرك وتعمل مقودة بالهوى، فلا تنتج هذه الحركات إلا السوء والشر والرذيلة؛ فإذا بحثنا عن علة هذا الانقياد للهوى ألفيناها الحيدة عن هذا الانسجام، فكل خضوع للقانون الطبيعي ينتج الخير والفضيلة والتقدم نحو الكمال، وكل انحراف عن هذا المنهج ينجم عنه الشر والأضطراب، لأن الطبيعة في ذاتها ليس فيها للشر أثر البتة، ولهذا كان أهم واجبات الحكيم هو محاولة رد الانسجام إلى كل جزئية فقدته، فأنتج فقدها إياه الشر والسوء. وعلى أساس هذه النظرية بنى (كونفيشيوس) مذهبه الأخلاقي وأعلن أن الواجب ينحصر في تنفيذ أوامر الطبيعة وتطبيق قوانينها القويمة كما سنشير إلى ذلك فيما بعد.
وعنده أن الإنسان مشتمل على قوتين كالطبيعة سواء بسواء؛ وأن كل الفروق الموجودة بين الأفراد البشرية ناجمة عن تغلب إحدى القوتين على الأخرى، فإذا كانت الغلبة في الإنسان مثلا للقوة الإيجابية المؤثرة، كان ذلك الإنسان حكيما بالمعنى الكامل، وإذا غلبت فيه القوة السلبية كان حكيما عادياً، وهذا النوع الأخير يظل هكذا حتى يتعرض لعواصف الأهواء والشهوات المختلفة، فإذا نجا منها ظل كما كان على الفطرة أي في درجة الحكمة العادية، وإذا غلبه الهوى فحاد به عن صراط الطبيعة السوي نزل من درجة الحكمة العادية إلى درجة العامة الذين يحدثون الشر والسوء
وعنده أن الكمال يتحقق لنوعين من البشر: الأول رجل تبدأ السماء في إلهامه الحقيقة من يوم ميلاده دون مجهود شخصي من جانبه، وهو يحصل في المبدأ على ما يحصل عليه الآخرون في النهاية، وهذا الحكيم الموحى إليه أو (شينج - جين). أما الثاني فهو الحكيم الذي يعمل على كسب الحكمة ببحوثه المتواصلة، ومجهوداته المتتابعة فيحصل على الحقيقة، وبها يصل إلى الكمال، ويسمى هذا الأخير: (كيون - تسيه) وفي هذا الصدد يقول (كونفيشيوس) في كتاب (تايو): (إن البعض يحصلون عليها (أي الحقيقة) عند ميلادهم، أما البعض الآخر فإنهم إما أن يتلقوها عن الغير وإما أن يحصلوا عليها بوساطة مجهوداتهم وأعمالهم الشخصية)
وعنده أن الإنسان الملهم هو ابن السماء الذي يحرس الصراط السوي ويرعاه بفضلها في جميع أحوال الوجود، وهو مشتمل على سر إلهي عظيم. أما الحكيم المكتسب الحكمة بمجهوداته فهو ابن الأرض الذي حمايته من الهوى والشر موكولة إلى مجهوده الخاص، والذي لا يعتمد في مقاومة ضعفه وفي احتفاظه بانسجامه الطبيعي إلا على نفسه؛ فإذا نجح اقترب من درجة الحكيم الملهم
وعنده أن حكمة وجود الحكيم الموحى إليه هي إذاعة قانون السماء والسهر على تنفيذه وإنقاذ بني الإنسان من الخروج على الصراط السوي، وما ذلك إلى رحمة بهم وإشفاقاً عليهم من الحيدة عن الواجب الذي لا تُنْقَذُ الإنسانية من الدمار والاضطراب إلا بالحرص عليه والاحتفاظ به
مطابقة الأسماء للمسميات، أو التعريفات العامة
لا تزال الأكثرية الغالبة من المثقفين والعلماء في أوروبا تعتقد أن سقراط هو أول حكيم وضع التعريفات العامة كما صرح بذلك أرسطو. وقد كنت أنا أحد أولئك الذين يؤمنون بهذه الفكرة إلى أن درست (كونفيشيوس) في شيء من الدقة، فتبين لي تبيناً يقينياً أن حكماء الصين قد سبقوا حكيم الإغريق إلى هذه الفكرة، وأن لهم فيها نصوصاً قيمة جديرة بالإعجاب، وأن الحكمة التي أعلن سقراط أنها تدفعه إلى هذا التحديد هي نفسها التي وردت في نصوص (كونفيشيوس) وهي الوصول إلى ضبط الأخلاق وتحديد الفضيلة والقبض على الحقيقة عن طريق التطابق المحكم بين الألفاظ والمعاني أو بين الأسماء ومسمياتها، إذ نحن نعلم أن (السوفسطائيين) لم ينجحوا في إفساد الأخلاق العامة في عهد سقراط إلا بوساطة التلاعب بالألفاظ، فلما أراد سقراط أن ينقذ الفضيلة حارب أعداءها بسلاح الدقة والتحديد فتم له ما أراد. وهكذا كان منهج (كونفيشيوس) إذ أيقن أنه لا سبيل إلى تنفيذ الواجب بدقة إلا بوضع جميع الأشياء في نصابها، وأن هذا الوضع لا يتحقق إلا بالتطابق التام بين القوالب ومحتوياتها، أو الألفاظ والمعاني، أو الأسماء والمسميات، وهو في هذا يقول ردّاً على سؤال وجهه إليه أحد تلاميذه قائلا: ماذا كنت تفعل لو أنك عُيِّنْتَ حاكماً على دولة؟ (كنت أبدأ أعمالي بأن أرد إلى كل مسمى اسمه الحقيقي). ولما لم يفهم التلميذ هذا الجواب سأله قائلا: وما معنى هذا؟ فأجاب الفيلسوف بقوله: (إن الحكيم يجب أن يحتاط في تبصر من كل ما لا علم له به، فإذا لم تتفق الأسماء مع مسمياتها بالضبط وقع الخلط في اللغة، وإذا وقع الخلط في اللغة لا ينفذ شيء من أوامر النظام العام، وإذا لم ينفذ شيء من أوامر النظام العام، أهملت الحشمة واللياقة والانسجام، وإذا أهملت الحشمة واللياقة والانسجام فُقِد توافق العقاب مع الخطأ، وإذا فقد هذا التوافق، أصبح الشعب مضطرباً لا يفرق بين موضع قدميه وموضع يديه. ولهذا يجب على الحكيم أن يضع لكل مسمى اسمه الذي هو له، وأن يعالج كل موجود حسب التعريف الذي وضع له)
ألست ترى معي أيها القارئ أن في هذه النصوص (الكونفيشيوسية) برهاناً ساطعاً على أن حكيم اليونان الأول لم يكن مبدع التعريفات العامة، الجامعة المانعة، ولا أول من قال بالدقة والتحديد؛ ثم ألست توافقني على أن هذه نقطة هامة تضيف إلى ما كشف من مجد الشرق صفحة فخار جديدة، وأنها لهذا جديرة بالعناية والتسجيل كما أن فيها رداً آخر يضاف إلى ردودنا السالفة على أولئك الأذناب المتفيهقين الذين أنكروا على الشرق ميزة التفلسف النظري؟)
مما قدما يتبين أيضاً خطأ بعض الباحثين الأوروبيين الذين سلكوا في مؤلفاتهم سبيل نزع تاج الفلسفة من فوق رأس (كونفيشيوس) وَوَضْعِهِ على رؤوس: (لاهو - تسيه) و (تشوانج - تسيه) و (ميي - تي) وجزموا بأن (كونفيشيوس) لم يكن فيلسوفاً، وإنما كان أخلاقياً، ولم يكن أخلاقياً من النوع العالي، وإنما كان عملياً، بل نفعياً. فأما دعواهم أنه ليس فيلسوفاً فيبطلها ما أسلفناه؛ وأما زعمهم أنه عملي أو نفعي فسندحضه حينما نعرض لدراسة الأخلاق عنده
اعتمد أولئك الباحثون في رميهم (كونفيشيوس) بالخلو من التفلسف النظري على تصريح أثر عنه قال فيه: (إني لم أبتدع شيئاً جديداً، وإنما نقلت تراث الحكماء الأقدمين إلى العصر الذي أعيش فيه). أو (إني لست مساوياً الحكماء، وإنما أنا أحاول التشبه بهم) إلى آخر ما صرح به مما يشبه هذه العبارات ولست أدري كيف يتخذ أولئك الباحثون هذه التصريحات برهاناً على عدم فلسفية (كونفيشيوس) ولا يتخذون أمثالها من كلام سقراط برهاناً على عدم فلسفيته حين نبأته كاهنة (دلفي) بأنه أحكم حكماء الإغريق عامة، فاستكثر ذلك على نفسه وقال: (أنا لست حكيما، ولكني محب للحكمة). فلم عدوا هذا التصريح من جانب سقراط تواضعاً ومن جانب (كونفيشيوس) برهان الخلو من الفلسفة؟؟
نعم إن (كونفيشيوس) أسس مذهبه على نظريات صينية عتيقة ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ، ولكن هل (بارمينيد) و (أمبيدوكل) و (زينون الأكبر) و (فيثاغورس) و (سقراط) و (أفلاطون) و (أرسطو) فعلوا غير هذا؟ بل هل (ديكارت) نفسه - على تبرئه من الماضي - استطاع أن يتخلص من أسس التراث العقلي القديم؟ كلا، ولكن سُحقاً للهوى والسطحية، فإن جميع الأخطار الإنسانية ناشئة منهما أو من أحدهما. أما الذي لاشك فيه بعد كل هذا، فإن (كونفيشيوس) فيلسوف نظري عظيم، وأن جميع الباحثين الأدقاء يضعونه في الصف الأول من صفوف الحكماء، لأنهم يعتمدون في ذلك على مجموعة ماله من أراء فلسفية مبتدعة كما يتطلب النقد الحديث، وإنه أخلاقي من طراز (كاْنت) و (اسبنوزا) وأمثالهما من أجلاء فلاسفة العصور الحديثة
(يتبع)
محمد غلاب